شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
افعلوا مثلي... واهربوا من السياسة إلى الحب

افعلوا مثلي... واهربوا من السياسة إلى الحب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 7 يوليو 202201:25 م

هذه بلاد لا تطاق. حجارتها، تاريخها، حاضرها، ومستقبلها، تدفعك بكل ثقةٍ لتهجرها، فما من سببٍ واحدٍ تبقّى يربطني بها، هذا ما كنت أقوله لأهلي وأصدقائي، الذين كثفوا اتصالاتهم وانشغلوا في تأمين طريق تهريب يوصلني إلى "حريتي" التي أشتهي، إلا أنني قررت البقاء هنا، لسبب بحثت عنه أعواماً طويلةً ولم أجده، لكنه أخيراً وجدني.

قبل أقل من شهر، كنت أصدح ملء صدري بالشتائم للصور والشعارات المرسومة على جدران شوارع مدينتي سلمية، وأكيل، في ذهني، عشرات قصائد الهجاء لرؤساء الأفرع الأمنية و"دواسيسهم"، وأتجرأ على المجاهرة برأيي السياسي الذي تخليت عنه قبل أيام، بعد أن استطاعت تلك الفتاة تغييري وقتل الثائر في داخلي، أو على الأقل اعتقاله والاحتفاظ به عندها من دون سجلات.

لم أعتقد يوماً أن "الحب" يدفع صاحبه للتخلي عن "المبادئ"، بل على العكس تماماً كان يخيّل لي أنه الدافع الأسمى لأي حراك أو موقفٍ يُتّخذ ضد الأنظمة، لكن صدقوني أن الحب يجعل منك شخصاً "جباناً" وإنساناً سهل التخلي عن كل مبادئه دفعةً واحدةً أحياناً

لم أعتقد يوماً أن "الحب" يدفع صاحبه للتخلي عن "المبادئ"، بل على العكس تماماً كان يخيّل لي أنه الدافع الأسمى لأي حراك أو موقفٍ يُتّخذ ضد الأنظمة، لكن صدقوني أن الحب يجعل منك شخصاً "جباناً" وإنساناً سهل التخلي عن كل مبادئه دفعةً واحدةً أحياناً.

في طريقي للقاء بها للمرة الأولى، في منزلها الذي جعلت منه معهداً مصغراً لدروس اللغة الإنكليزية -التي كنت أرغب في تطويرها بهدف السفر قريباً- كانت شوارع المدينة تدفعني كعادتها للمغادرة؛ أكوام القمامة مكدسة في الزوايا تحت شعارات الوطن وعبق ياسمينه، والتجهم هو أرقّ صفات وجوه المارة، أما الانكسار فكان يُجرّ وراءهم تاركاً بقعاً أشد وضوحاً من بقع "البصاق" والعلكة والشحم التي تزيد من قباحة طرقاتها.

نعم، مدينتي كانت قبيحةً حتى اللحظة التي فَتحتْ بها باب منزلها، ودعتني للدخول. حينها، تملّصت من ذاتي الناقمة ورميت كل غضبي واستيائي وقبحي خارجاً. تخليت فجأةً عن أفكارٍ كنت مستعداً لقضاء عمري بأكمله داخل سجنٍ من أجلها، وخلعت عني كل خطرٍ وتناسيت مطالبي بالإصلاح الضروري، ودخلت.

نعم، مدينتي كانت قبيحةً حتى اللحظة التي فَتحتْ بها باب منزلها، ودعتني للدخول. حينها، تملّصت من ذاتي الناقمة ورميت كل غضبي واستيائي وقبحي خارجاً. تخليت فجأةً عن أفكارٍ كنت مستعداً لقضاء عمري بأكمله داخل سجنٍ من أجلها، وخلعت عني كل خطرٍ وتناسيت مطالبي بالإصلاح الضروري، ودخلت

لم أفهم للوهلة الأولى ماهية الصوت الذي حدثني من داخل صدري، لكني كنت مرتاحاً إلى عذوبته وجديته وصدق ترجيه وسمعت ما يقوله بوضوح شديد أزعج استمتاعي بتفسيري للكلمات الأولى التي دارت بيني وبينها، من دون علمي أو علمها.

"أريد البقاء هنا في أسوأ بقاع الأرض وأكثرها فقراً، في واحدةٍ من أكثر المدن غير المفهومة. أريد أن أبقى هنا لأعترف لك بحُبي بالقرب من مقام "علي شاه"، وتأخذينني لتعترفي بِحُبك لي في مدينة "الملاهي" التي كنت أخشى الدخول إليها لقربها من مبنى للأمن، قد تتسلل منه صيحات استغاثة تندمج في ما بعد مع صيحات فرح الأطفال والعشاق في مقصورات "القليبة"، وتضيع هناك.

لماذا كنت أكره وجود مفارز الأمن المنتشرة في كل مكان؟ أليسوا هم من دفعوني للقائها؟ أليسوا هم من عمدوا إلى إبقائي مكبوتاً ومحروماً كل هذه السنوات، حتى ألقاها وأنفجر حباً بها؟

أيام قليلة وبدأت مدينتي بالاتزان والكشف عن جمالها أمامي، فأصبحت الشوارع نظيفةً، وعملت دعسات أقدامنا على إيجاد وطنٍ يليق بنا، يمتد من شارع الفردوس في الحي الغربي من المدينة في اتجاه الصالة الرياضية إلى الكورنيش الشمالي ومن ثم الضياع في حاراته الضيقة يومياً، وصولاً إلى منزلها القريب من مفرزةٍ أمنية أيضاً.

أساساً... لماذا كنت أكره وجود مفارز الأمن المنتشرة في كل مكان؟ أليسوا هم من دفعوني للقائها؟ أليسوا هم من عمدوا إلى إبقائي مكبوتاً ومحروماً كل هذه السنوات، حتى ألقاها وأنفجر حباً بها؟ أليست تلك هي خطتهم لمنعي من السفر والاحتفاظ بي في عهدة فتاةٍ تخاف من الرحيل كما كنت أخاف منه، وتبحث عن سبب وحيد لبقائها هنا؟

مفاهيمي كلها تغيرت، وبدأ سخطي وغضبي على حماقات الحب وأفعاله يقلّان شيئاً فشيئاً، حتى أني فهمت أسباب منع "تشي غيفارا"، زوجته ومعشوقته "أليدا"، من الالتحاق معه بجبهات القتال في الجبال قبل موته، ولم يعد في نظري خائناً لمبادئه التي دفع حياته ثمناً لها.

نعم يا أصدقائي، "تشي غيفارا" قدّم نفسه في سبيل مبادئه، لكنه رفض تقديم نفس من أحب، أليست تلك أحد أنواع "الخوف والخيانة"؟

ربما أتشابه مع "تشي غيفارا" في حال عددنا ما فعلناه كلانا، "خيانةً"، لكني لن أستطيع ترك قصيدة أخيرة لها أثبت فيها خيانتي وحبي، وهو ما فعله "تشي غيفارا"، لـ"أليدا" قبل موته، بعد أن أرسل لها آخر قصائده، وجاء فيها: "إلى اللقاء محبوبتي الوحيدة، تمسكي بخيوط العنكبوت ولا تستسلمي، لا تخافي جوع الذئاب ولا الصحارى المقفرة الباردة، سيحيط بك دائما دفء قلبي وسنتواصل دائماً حتى يطيب لنا الطريق... حبيبك إلى الأبد".

أضحك في صيرورة نفسي، كلما تذكرت محاولات هروبي من بلادٍ تحولت إلى سجنٍ ضاقت حدوده على أفكاري، لأجد نفسي في معتقل آخر يحكمه الحب، وتسيل في سراديبه قصائد العشق وأُعذَّب فيه يومياً بعشرات القبلات، من دون أن أطالب بحريتي

أما أنا، فما الذي سأتركه لها بعد قراري البقاء في هذه البلاد؟ القصائد هنا تسير بك نحو السجون أو الموت، وأنا أقلعت عن الشعر والحرية لأُسجن في قلبها.

أضحك في صيرورة نفسي، كلما تذكرت محاولات هروبي من بلادٍ تحولت إلى سجنٍ ضاقت حدوده على أفكاري، لأجد نفسي في معتقل آخر يحكمه الحب، وتسيل في سراديبه قصائد العشق وأُعذَّب فيه يومياً بعشرات القبلات، من دون أن أطالب بحريتي.

كونوا جبناء مثلي، واهربوا من السياسة إلى الحب، وسلّموه مفاتيحكم كلها، فمن "الشجاعة" أن تحب في بلادٍ لا يمكن أن تكتب فبها قصيدةً!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard