شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"لا تستطيعين اللعب معنا لأنك سوداء"... عندما يظهر اختلافنا على لون جلدنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والمشرّدون

الجمعة 1 يوليو 202204:31 م

تنتشر في فرنسا ظاهرة حسابات انستغرام المخصصة لمراجعة الكتب، خاصة بعد الحجر الأول بسبب فايروس كورونا، وتقوم هذه الحسابات بمراجعة الكتب ومناقشة أحدث الإصدارات كما الكلاسيكيات.

 وصودف أن تطلق صديقة طفولتي التي هاجرت مع أهلها إلى فرنسا قبل سنوات بعيدة حسابها الخاص بمراجعة الكتب بينما بدأتُ أنا أتشجع وأخطو أولى خطواتي في قراءة الكتب بالفرنسية. 

نشرت صديقتي مراجعتها لكتاب "وبدأ لساني بالرقص" ليزياكا أنام، وهو الأول لكاتبته، تتناول فيه موضوعة المنفى.

سجلتُ الكتاب على قائمتي، وبدأت رحلة البحث عنه. 

لم أجده في المكتبة العامة ولا في مكتبات مدينتي، ولكني كنت مصرة على قراءته. وعندما وصلت النسخة التي نجحت بطلبها من موقع المكتبات المستقلة فتحت الكتاب وباشرت قراءته. 

لم يكن قد خطر ببالي سابقاً أن أصعب أنواع التجارب هي تلك التي يظهر فيها اختلافنا على لون جلدنا وشكلنا وتكويننا الجسدي

صدمني الفصل الأول من الكتاب لدرجة أنني وضعته جانباً بعض الوقت، لم يكن قد خطر ببالي سابقاً أن أصعب أنواع التجارب هي تلك التي يظهر فيها اختلافنا على لون جلدنا وشكلنا وتكويننا الجسدي. يروي الكتاب حكاية فتاة سوداء البشرة وصلت إلى فرنسا في عمر الخامسة اسمها "زد"، الحرف الأخير من الأبجدية اللاتينية. 

قال لها الأولاد في المدرسة مرة: "لا تستطعين اللعب معنا لأنك سوداء"، فقررت أن تقلع عن اللعب وأن تنطوي على نفسها، كي لا تتعرض لموقف مشابه في المستقبل.

تروي الكاتبة أن الشخصية الرئيسية رغم بلوغها سن الثلاثين، تعجز عن التخلص من تلك الطفلة الصغيرة التي ترافقها، والتي تشعر بضرورة إخفائها عن الآخرين طوال الوقت.  

قال لها الأولاد في المدرسة مرة: "لا تستطعين اللعب معنا لأنك سوداء"، فقررت أن تقلع عن اللعب وأن تنطوي على نفسها، كي لا تتعرض لموقف مشابه في المستقبل.

عدت بعد فترة لإكمال الكتاب، ووجدت فيه صدى لأسئلة الانتماء التي يطرحها على نفسه كل منفي.

تجد "زد " الطفلة نفسها غير منتمية وغريبة أينما ذهبت، ويغمرها شعور بالعار، عار من جسدها الضخم، من لون بشرتها الداكن، من أهلها الذين لا يشبهون أهالي الآخرين، من شعرها الذي لا يقبل التصفيف، من لكنتها القوية في الفرنسية. 

تعاني زد مع عارها الذي لا تعرف كيف تتعامل معه في ظل اختيار الأهل الصمت المطبق للتعامل مع الحياة الجديدة. 

يصمت الوالدان فجأة ودون مقدمات وينقطع التواصل بينهما تماماً ولا يتبادلان سوى نظرات العتب واللوم، ولا يتجرأ الأولاد على كسر الصمت ولا على سؤالهما عن سبب صمتهما.

تعود الشخصية إلى وطنها الأم بعد خمسة عشر عاماً من الغياب، ويفاجئها شعورها بالألفة مع المكان، ولكنها تعود لتكتشف اختلافها عن أبناء عمومتها وطريقة تفكيرهم. 

تتقاطع في زيارتها تلك مع مجموعة من الطلاب الفرنسيين الذين يزورون البلد في نفس الوقت فتشعر بالقرب منهم بل تعبر عن رغبتها بالذوبان داخل مجموعتهم.

 لاتدوم الإلفة طويلاً، وتحل محلها في الزيارات التالية مشاعر مختلفة، أهمها الشعور الدائم بالقرف من كل شيء. 

تلعب الكاتبة على كلمة "لانغ" الفرنسية التي تعني اللسان واللغة في آن واحد، فتعبر عن الصمت العائلي برواية حكاية قديمة عن لسان مقطوع يروي لمن يجده أنه عجز عن شغل وظيفته ففضل أن يقطع، ويعود اللسان ليحضر في رواية الشخصية الرئيسية عن البحث عن لغتها/لسانها، فهي تفقد شيئاً فشيئاً لغتها الأم وتعجز عن التعبير بها وتمتلك اللغة الجديدة، ولكن هذا اللسان يظل غريباً وغير مريح. 

يحضر في رواية الشخصية الرئيسية البحث عن لغتها/لسانها، فهي تفقد شيئاً فشيئاً لغتها الأم وتعجز عن التعبير بها وتمتلك اللغة الجديدة، ولكن هذا اللسان يظل غريباً وغير مريح.

تتساءل زد حول ماهية المنفى، وتجد أنه قد يكون ببساطة طريقة ليكون الشخص بعيداً عن نفسه طوال الوقت، يعيش في واقع بعيد عن واقع الآخرين قليلاً.

تصاب زد بتعب مزمن من منفاها وتحافظ على مسافتها من الحياة، فتصبح عاجزة عن عيش الواقع بكل جوارحها، فتقرر العودة إلى الماضي لتفهم ما يجري معها وسبب عدم قدرتها على الانتماء.

تعود لحكاية أهلها لتكتشف أن العار الذي تشعر به الطفلة الصغيرة هو عار يشعر به أيضاً ذلك الأب الذي انتزع أفراد عائلته من وطنهم ثم وجد نفسه عاطلاً عن العمل بعد عام واحد فقط، وعجز عن مواجهة نظراتهم، ولكنه، بسبب تاريخ من التخلي عاشه في طفولته، يقرر أن يبقى معهم ولكن دون أن يحدثهم. 

تتذكر الشخصية وهي تعيد نسج الحكاية وتجمع قطعها المتفرقة تحذيرات والديها لبناتهما من "التحول إلى بيضاوات"، وتأكيدهن الدائم أنهن لا يشبهن الأخريات لأنهن يمتلكن ثقافة وتاريخاً مختلفاً عليهن التمسك به. 

تتساءل الشخصية هل كانت هذه التوصيات سبب تجنبها التماهي مع مجتمعها الذي تعيش فيه، وتطرح للمرة الأولى على نفسها تساؤلات تعيد كتابة الحكاية من زاوية أخرى، فلعل المسافة التي اتخذتها وقرار الطفلة الصغيرة بالإقلاع عن اللعب مرة وإلى الأبد هو أساس عزلتها. تقرر في مواجهة هذه الأسئلة أن تنفتح أكثر على محيطها، ولكنها في الوقت نفسه تختار مهنة قائمة على التعامل مع "الآخر"، وتعمل على مساعدة "الأجانب" الوافدين على التكيف في حياتهم الجديدة وإيجاد لسانهم. 

تتذكر الشخصية وهي تعيد نسج الحكاية، تحذيرات والديها لبناتهما من "التحول إلى بيضاوات"، وتأكيدهن الدائم أنهن لا يشبهن الأخريات لأنهن يمتلكن ثقافة وتاريخاً مختلفاً عليهن التمسك به.

يشكو اللاجئون السوريون من صعوبة التأقلم مع الحياة الجديدة وتتردد في بالهم أسئلة مشابهة للأسئلة التي تتردد في ذهن الشخصية الرئيسية، ولكن الكاتبة تختصر علينا جميعاً طريقاً وعراً وصعباً وتصل إلى نتيجة أن الانفتاح على الآخر حتى لو كان مغلقاً تجاهنا هو الخطوة الأولى نحو الإحساس بالانتماء للمكان، أو في حال عجزنا عن التآلف وإغلاق الباب في وجوهنا إيجاد زاوية مختلفة للانتماء، ولعل اللغة الفرنسية والتمكن منها هما سلاح الشخصية الأمضى في إيجاد نفسها، فهي لا تمتلك لساناً آخر تستطيع فيه التعبير عن نفسها. 

يضع الكتاب أيضاً الأهل المهاجرين أمام مسؤوليتهم ويشرح أنهم بتحميلهم ماضيهم وماضي بلادهم وشعبهم لأطفالهم دون شرح كاف، يحولون دون اندماج ابنائهم، وهذا لا يعني التنكر لحكايتهم، خاصة أن الحكاية في حالة الشخصية مطبوعة على جسدها، إلا أن الصمت لا يمكن أن يكون وسيلة للمواجهة. 

لا بد للأهل أن يستخدموا الكلمات لشرح الماضي الصعب والثقيل ولتفسيره بحيث لا يتحول إلى عبء يحمله الأبناء جاهلين مصدره. 

لا تذكر الكاتبة بلد الشخصية الأصلي، وتركز على انتمائها لقارة إفريقيا، بينما تذكر فرنسا، الوطن البديل، وبذلك تؤكد فكرتها بأن الماضي الغائم والضبابي لا يعادل حياة حقيقية تدور الآن وهنا، ولكنها في الوقت نفسه، تشرح ضرورة أن ينقشع الضباب المحيط بالماضي كي يصبح الواقع ملموساً وحقيقياً. 

تبقى أسئلة الانتماء والمنفى ومواجهة العنصرية تتردد في الأدب المعاصر في بلد تعيش فيه ثقافات متعددة وشعوب متنوعة ويصر بعض سكانه على التمسك ببياض بلدهم، لكن المهم هو أن يقوم كتّاب وكاتبات شباب بمراجعة التجربة وروايتها بمفرداتهم وبطريقتهم على الأقل كي لا يشعر اللاجئون اللاحقون بوحدتهم في مواجهة كل تلك الأسئلة الصعبة. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard