شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الفيلم الفلسطيني

الفيلم الفلسطيني "200 متر"... إحراق جدار الفصل العنصري بالنور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 18 يونيو 202201:11 م

لطالما ارتكزت السينما على الواقع لاستلهام التجارب، وتقديم تجربة الشعوب الخالصة مع مجريات الأحداث، وربما تكون الأحداث أكثر فانتازية في تصوير القضية الفلسطينية، لكن، إلى جانب ذلك، تبقى أهمية التوثيق الفني للمعاناة التي يعيشها المواطن الفلسطيني، مع هيمنة الاحتلال القمعي على الحياة بكافة أشكالها، وفي هذا الإطار، يلتقط المخرج الفلسطيني أمين نايفة إشكالية المواطن الفلسطيني مع جدار الفصل العنصري، الذي بناه الاحتلال الإسرائيلي في عام 2002 لمنع دخول الفلسطينيين من أراضي الضفة المحتلة إلى أراضي الخط الأخضر، والمعروفة باسم أراضي الـ48.

يجسد الفيلم الصادر نهاية عام 2021 آثار وجود جدار الفصل كعازل بين الناس، يعطل حياتهم ويتقدم بهم خطوات نحو الموت، وكأنه رخام مقبرة كبيرة.

هوية خضراء

تبحث قصة فيلم "200 متر" في حياة المواطن الفلسطيني مصطفى، الذي يجسد دوره الفنان علي سليمان. إنه يرفض الخضوع لإملاءات الاحتلال الإسرائيلي بإصدار "الهوية الزرقاء"، التي تخوله دخول الأرض المحتلة عام 48، بينما يتمسك بهويته الفلسطينية الخضراء، لكن هذا الموقف جعله بعيداً عن عائلته، إذ يضطر للسفر ساعات طويلة عن طريق التهريب، للقاء عائلته في أراضي الـ48، في حين تكمن المفارقة في أن بيته لا يبعد سوى مائة متر من الجدار.

يقدم الفيلم للعالم شخصية أشبه بـ"سيزيف الفلسطيني"، الذي يصعد الجدار بآلامه وكسور أضلاعه، محاولاً المرور إلى أرضه في الجانب الآخر، معبراً عن طبيعة الحياة الاجتماعية "الضنك" التي يخوضها الإنسان في الأرض المحتلة. إذ كان على مصطفى دفع هذه الأثمان كلها مقابل حمل هويته وإثبات وجوده على الأرض، ولكن الثمن الأكبر الذي كان عليه أن يدفعه هو وجوده أغلب الأوقات بعيداً عن أطفاله وزوجته، التي أدت دورها الفنانة لنا زريق.

كان على مصطفى دفع هذه الأثمان كلها مقابل حمل هويته وإثبات وجوده على الأرض، ولكن الثمن الأكبر الذي كان عليه أن يدفعه هو وجوده أغلب الأوقات بعيداً عن أطفاله وزوجته

نور

يضيء الأب الأنوار ليلاً، في المشهد الافتتاحي للفيلم، حيث يقدم مصطفى تركيبته الأبوية الحانية، وفي اللحظة نفسها، تضيء عائلته الأضواء في البيت، بينما هم يتحدثون ويسمعون أصوات بعضهم عبر الهاتف، وكأن هذا النور، بطريقة أو بأخرى، سيحرق الجدار من جانبيه، وعلى الرغم من هذا الظلم والتجبر من الاحتلال، تبقى الشخصية الرئيسية متمسكة بالأمل والحلم، أو كما قال صموئيل بيكيت كاتب اليأس في هذا "كون حذائك يؤلمك، فلا يمنعك ذلك من غلق أزرار قميصك حتى يبقى الأمل قائماً".


السيناريو الذي امتد 96 دقيقة استعرض العديد من المشاهد اليومية للفلسطينيين، حيث المعيشة القاسية والوجوه التي أرهقتها الحواجز والخوف الملازم للقلوب، لمجرد الاحتكاك بجنود الاحتلال. كما ينقل السيناريو طبيعة الإنسان الفلسطيني بـ"عصبيته" التي اكتسبها بفعل الأحداث اليومية التي يمر بها، والمعيقات التي يجب عليه خوضها مع مطلع كل نهار، خلال تنقله للعمل أو شراء المستلزمات، مع ميله الفطري للغناء، هذا الغناء الذي لا يتوقف، على الرغم من آبار الأحزان التي تملأ الحياة. كما يقدم الفيلم معلومات مرعبة حول نصف مليون مستوطن في أراضي الضفة الغربية، حيث أصبح وجودهم يشبه ألغاماً موقوتة بين المواطنين أصحاب الأرض، وذلك عبر 200 مستوطنة تمتد كالسرطان في الجسد الفلسطيني، وكان من اللافت كذلك، انطلاق الضحك الجماعي وتبادل النكات بين المواطنين في الأماكن العامة، رغبةً في السخرية من الواقع وترويض كل هذا البؤس والانتصار على الألم؛ السخرية بطعم لاذع، لتصوير الشكل النهائي للعالم الهزلي.

المرأة الفلسطينية

من جانب آخر، يتطرق الفيلم للمرأة الفلسطينية ومعاناتها جراء ممارسات الاحتلال، إذ يكون عليها القيام بكل الأدوار الممكنة من أجل الحفاظ على الكيان الأسري في ظل غياب الأب. تعمل سلوى على تربية أطفالها وحمايتهم بكافة الوسائل الممكنة، للبقاء وإثبات الوجود. سلوى، التي تستقبل زوجها بالابتسامات والعناق، على الرغم من كل الألم الذي تحمله في روحها، كانت وكأنها تقفز فوق جميع هذه الأسوار التي تحول بينها وبين الحياة.

بالإضافة إلى ذلك، يصور الفيلم الطفل الفلسطيني رامي، الذي يترك دراسته ويخاطر بحياته من أجل التقاط فرصة عمل في الداخل المحتل، حيث يخوض تجربة قاسية مع التهريب من بين الحواجز، ليتمكن من تخطي جدار الفصل العازل، وخلال مقابلة صحافية، يُرسل رسالة صغيرة للعالم مفادها "أريد أن أعيش فقط"، وذلك بعد تعرضه في المرة الأخيرة للسقوط عن الجدار، بعد محاولته تسلقه عن طريق حبل معلق في أعلاه.

خلال مقابلة صحافية، يُرسل رسالة صغيرة للعالم مفادها "أريد أن أعيش فقط"، وذلك بعد تعرضه في المرة الأخيرة للسقوط عن الجدار، بعد محاولته تسلقه عن طريق حبل معلق في أعلاه

كما صور الفيلم الحالة الهستيرية التي دخل فيها رامي، جراء بقائه مع مصطفى في صندوق سيارة التهريب لوقت طويل. مشهد نقل الواقع البائس لحياة الأطفال الفلسطينيين في ظل كل أشكال الخوف والرهبة التي يواجهونها بأجسادهم الضعيفة؛ الأجساد التي عليها أن تواجه مخرز الحياة القاسي.

أثناء ذلك، برزت فكرة التعويض العاطفي في احتضان الأب مصطفى للطفل رامي، في محاولة منه لردم الهوة الهائلة بينه وبين أطفاله الذين يقطنون على الجانب الآخر من الجدار.

شاشة سوداء… وسينما داخل السينما

فتح الفيلم أبواباً كثيرة للتساؤلات حول حياة الفلسطيني من خلال دلالات استطاع المخرج من خلالها تصوير الصراعات الاجتماعية والشخصية. فقد جاءت الشاشة السوداء المظلمة التي غطت المشهد كله مع اكتمال أسباب النفي للمواطن الأعزل. صور أخرى كثيرة يمكن تتبع حالة الفلسطيني من خلالها، من تخطي الجدار والقفز عنه، مجموعة من الشباب التي تقف بجانب نقاط في الجدار، تسمح بتخطيه والقفز عنه، والتربح من العابرين للجانب الآخر.

أما المخرجة والمصورة الألمانية آني، فتحمل كاميرتها خلال رحلة التهريب لتوثيق المشاهد كاملة، وكأنها تقوم بصناعة سينما داخل السينما، فالأحداث التي ترصدها تحمل رغبة المخرج نايفة في تسليط الضوء على نقاط بؤرية داخل السيناريو، مثل مشهد جمع الأعلام الإسرائيلية وإنزالها طوال طريق المستوطنات. إذ استطاعت من خلال هذه الرحلة، نقل الصوت الفلسطيني للعالم، بالإضافة إلى تعرضها للضرب والعنف من أحد المهربين جراء التصوير.

على الرغم من قسوة السياق الدرامي للفيلم، وغزارة البؤس الذي يحمله، والتي دلل عليها المخرج بفعل الغطاء اللوني (الأزرق في كثير من المشاهد)، مما حمل الشخصيات بعداً نفسياً آخر، كمادة نقية للحزن، فإن الموسيقى التصويرية، تحمل حالة من الأمل مع التنقل بين المشاهد، وكأن في ذلك، محاولة احتضان الألم بمزيد من التوق للحياة. الغريب أن عناصر الجذب في الفيلم لم تكن تتعلق بالتشويق أو المفاجآت الدرامية فقط، بل بتصوير الأرض الفلسطينية وطبيعتها الساحرة، وكأن الفيلم كان يتشكل أمام الكاميرا مشهداً بعد آخر.

يقف مصطفى أعلى "السلم الخشبية المزدوجة" في مشهد الختام، وقدماه على الجانبين، في مشهدية سينمائية تجسد حياته. قدم هُنا، وأخرى هناك خلف الجدار، لينتقل المخرج إلى إضاءة النور، بالتزامن مع رؤيته لأطفاله، ليتغلب المشهد المشبع بالأمل على البؤس السابق، مرة بعد أخرى، ويستمر الفلسطيني في سخريته من العالم والاحتلال، عبر تمسكه بالأمل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard