شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"بيوت كثيرة وشجر أخضر"... الوطن في عيون الطفل اللاجىء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 18 يونيو 202212:16 م

"الوطن تراب أحمر". بهذه العبارة نطقتْ "نبات"، وهي تنظر إلى الأرض. نعم، الوطن أحمر، قالت الفتاة ذات التسع سنوات بصوت منخفض، كي تمدّني بجواب ما، أي جواب، ثم عادت إلى صمتها الخجول وراحت تفتل خصلة من شعرها بأصابعها. أخرجَتْها أمها من ورطة الإجابة عبر جملة توجهت بها إليّ مفادها أنهم أتوا إلى لبنان هرباً من الحرب ووصلوا إلى المخيم "المنسي". طالعتني أمها بهذه العبارة بوجه يلحّ على التواري، على التبعثر.

وأكمَلت الأم الكلام بابتسامة خجولة: "اسمي سوريا، عندي ثماني بنات، أربع ولدتهم في منطقة في ريف حمص وأربع ولدتهم في هذا المخيم". وبصوت يفيض بالحسرة أضافت: "أطفالي لا يذكرون شيئاً عن بلدهم، فقد أتوا صغاراً والباقون ولدوا في هذا المخيم. لم أخبرهم عن وطنهم، فالفقر وقلة الحيلة أكبر من قصص الوطن"، وتابعت: "كان لدينا بيت وكنّا سعداء. أفتقد أرضي وبيتي وحتى الأشجار المحيطة به والتي كنت أعتني بها. انظري إلينا. هربنا أنا وزوجي وأطفالي وكبيرتهم في الـ13 من عمرها الآن، وقدمنا من بلد الحرب إلى بلد لا يقدّم لنا شيئاً سوى خيمة تحرقنا في الصيف وتغرقنا في الشتاء. حتى المنظمات لا تهتم لأمرنا. أمنيتي أن أهاجر بهم إلى بلاد تحترم إنسانيتنا لتتعلم بناتي القراءة والكتابة، كما أتمنى أن يعيشوا بسلام، فأي وطن سيقدم لي الأمان سيكون وطني". نطقتْ "سوريا" العبارة الأخيرة بصوت منخفض وبلعثمة بالأحرف، ثم عاد الصمت ينهمر كرذاذ لا مهرب منه.

أرض وسماء صافية وبيوت كثيرة

إلى جانبنا، كان جالساً صبي لم يتعدَّ عمره العاشرة اسمه "عديّ". طلب الحديث كمَن يعرف الوطن جيداً. هو مختلف عن رفيقته "نبات"، فهو يرتاد المدرسة منذ سن صغيرة. وصف "الوطن" كأنه عاش فيه سنوات طويلة.

بابتسامة واضحة، قال: "الوطن أحلى من كل شيء، أرض وسماء صافية وبيوت كثيرة وأراضٍ لكل الناس، وكل طلباتهم تتحقق". ثم شرد قليلاً وأكمل: "عندما أعود سأسلّم على كل الناس وأزرع شجراً وعرائش، وعندما يأتي رمضان سأصومه وألعب مع رفاقي ولن أؤذي أحداً".

كان يجلس على حجر جنب شجرة، وتختلط ملامح الحزن والفرح على وجهه. راح يتذكر رحلة لجوئه الصعبة من سوريا إلى لبنان. فرغم صغر سنّه حينها، ما زالت تلك الذاكرة في مخيلته: "هربنا من الحرب ومشينا في الحقول وضاعت أختي الصغيرة. رماها المهرّب في الحقل عندما رأى العسكري، ولو لم تصرخ من خوفها لكنّا أضعناها إلى الأبد. لكننا اليوم هنا مع أهلي، نذهب أنا وأختي إلى المدرسة ونعرف أننا سنعود يوماً ما إلى سوريا".

"الوطن تراب أحمر". بهذه العبارة نطقتْ "نبات"، وهي تنظر إلى الأرض. نعم، الوطن أحمر، قالت الفتاة ذات التسع سنوات بصوت منخفض، ثم عادت إلى صمتها الخجول وراحت تفتل خصلة من شعرها بأصابعها

"كان شباك غرفتنا يطلّ على الحقل" تقول عنود (13 عاماً). تتذكر بيتها في حمص: "كان ثلاثة غرف، وفسحة كبيرة أمام المنزل، كان أخوالي يجاوروننا فألعب مع أولادهم اللقيطة والغميضة". وتتابع: "هكذا أذكر وطني. أنا أعرف أن الوطن هو هويتي وبلدي، جئت إلى المخيم بعمر الثماني سنوات، لا أعرف الكثير عن بلدي لكنني أتمنى أن أسافر إلى الخارج لأصبح طبيبة أو صحافية، فهنا أنا أنزل صباحاً إلى الحقل وأعود مساءً. لا أعرف شيئاً خارج هذه المنطقة".

بارتباك وقلق تتنهد "شوق" (13 عاماً). لم تستطع وصف الوطن. تصمت طويلاً قبل أن تعبرّ عن ضيقها من المخيم، حيث لا فرص للتعليم ولا لاكتساب أي مهارة، وتقول: "الوطن كان يعني لي كثيراً في السابق، أما الآن فلا شيء، عادي".

تعمل "شوق" في انتزاع العشب من الأراضي الزراعية لمدة ست ساعات يومياً، وحسبما تشرح، هي تعمل لشراء ثياب العيد. أما عن أحلامها، فتقول: "حلمي أن أكمل حياتي في أي وطن آخر وأكمل تعليمي وأصبح طبيبة". كمن يداري الحزن خلف الكلمات، تكمل: "بحب يكون عندي تلفون وساوي سناني".

يركض أحمد خلفنا باندفاع، ويهتف "أنا ما بعرف شو يعني وطن، بس لما إكبر بدي إعمل بسطة خضرة".

لم يسبق لي أن زرت هذا المكان من قبل. مخيم الغزيل الواقع بالقرب من نهر الغزيل في منطقة بر الياس البقاعية، أو "المنسي" كما يطلق عليه قاطنوه، هو عبارة عن خيم موزعة بشكل مشتّت كزخّة بؤس. ملامح كثيرة يشكّل المكان بؤسها. مكانٌ لن يغادر الذاكرة.

ذاكرة مبتورة وأحلام مؤجلة

دارت والدة "عنود" الدمع المتجمّد في مقلتيها بكفها القابض على كوب من الشاي مرفوع أمام وجهها. لم أحاول استدراك ما فاتني من حكايات الأطفال عن ذاك الوطن الأحمر أو حكايات الشجر المُتخيل في عيونهم، فالوطن صغير جداً أمام ذاكرتهم المبتورة وأحلامهم المؤجلة.

يقول أستاذ التربية على المواطنية في الجامعة اللبنانية علي خليفة، عن الوطن: "علينا أن نعرّف الوطن كتحديد للكلمة، هو مستقر جغرافي، ومساحة من الأرض. الحكي عن الوطن للاجئين هو بداية المعاناة، فهو شيء ينقصهم. تدريس الأطفال اللاجئين عن الوطن يبدأ من نقص، فهذا الوطن موجود فقط في مخيلتهم أو ذكرياتهم حسب أعمارهم. أما إذا أردنا التكلم مع أطفال وُلدوا خارج وطنهم، فأين الوطن بالنسبة إليهم؟ الوطن موجود عند أهلهم أو في خيالهم الجماعي أو في السردية التي تنقلها الجماعة".

"الوطن أحلى من كل شيء، أرض وسماء صافية وبيوت كثيرة وأراضٍ لكل الناس، وكل طلباتهم تتحقق"

يكمل خليفة الذي شارك في نشاطات مع أطفال لاجئين سوريين: "نعمل على العناصر في المجال الوجداني العاطفي عند الأطفال اللاجئين لتنمية الحنين إلى أرض لا يعرفونها، ونحاول تحويل هذه المشاعر إلى انتماء جماعي، وقد يشعرهم هذا الانتماء الجماعي بالتمايز عن المحيط الخارجي، وإذا اندمجوا مع الخارج يخافون من فقدان صورة الوطن في خيالهم".

ويضيف خليفة: "هناك مكونات لثقافة المواطنية، مثلاً الأعياد الوطنية التي قد تختلف في مجتمع اللجوء وتبقى في ذاكرتهم، وقد نعمل معهم لبناء بعض المهارات والقدرات وهي نقطة التقاء مع المجتمع المضيف الذي عليه بدوره تأمين حقوق اللاجىء الاجتماعية والاقتصادية والقانونية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard