شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"حطام"... عن البصيرة والهوس والوقوف على حافة الهاويّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 24 يونيو 202211:00 ص

"أنا أعيش في المجاز"، أغلقت كتاب حطام: طوف جيريكو وفن أن تكون ضائعاً في البحر (2022) للفنان البريطاني توم دي فريستون، ودخلت في لعبة عقلية- لغويّة لأتخيل كيف نطق د. علي سليمان هذه العبارة المكتوبة بالخط المائل، هي فرصة نادرة بالنسبة لي، فبعكس الجمل والفقرات التي لا أستطيع عبرها تخيّل صوت الكاتب أو إحدى شخصياته، أنا أعرف صوت علي، سبق أن درّسني مادة تاريخ المسرح والمسرح الشيكسبيري في المعهد العالي للفنون المسرحيّة في دمشق، أي أعرف نبرته وكيفية نطقه للكلمات وإيقاع جمله، علاقتي وعلاقة الطلاب معه صوتيّة بامتياز، فعليّ فقد بصره عام إثر انفجار في دمشق عام 1996، هو يصغي إلى كل ما كنا نقول، حتى تفاهات الطلاب وسخريتهم من بعضهم البعض، كانت حاضرةً "أمامه".

نطق علي (أو اقتبس توم منه) الجملة السابقة بالإنجليزية، هكذا هي في الكتابI live in the metaphor، والجملة العربيّة من ترجمتي، وعلى الرغم من أني أعرف صوت سليمان الهادئ، وجمله المقطّعة بدقة مألوفة، لكن، عجزت عن تخيله ينطق الكلمة السابقة بالإنجليزية، لم أدرك كيف قطّعها، هل نطقها دفعة واحدة، أم قسمها إلى مقطعين؟ لا مجال لمعرفة ذلك في مخيلتي.

يتعاون المسرحي علي سليمان  في كتاب "حطام"  مع توم دي فريستون الـ"مهووس" بلوحة طوف ميدوسا ، لنكتشف في الكتاب عدة تواريخ: حكاية سليمان، خراب سوريا، طفولة توم، تاريخ لوحة طوف ميدوسا التي لا يبصرها سليمان، تاريخ حياة توم، قراءات واقتباسات من الأدب والفن والشعر

رمية نرد

قادني فضول الطالب ليعرف عن أستاذه أكثر إلى كتاب "حطام"، الذي يتعاون فيه علي المقيم في أوكسفورد مع توم، ضمن عدة مشاريع فنيّة-بحثيّة، نتج عنها مشروع "رأيت ذلك"، لكن الكتاب يكشف عن رحلة على المستوى الإنساني والتعاطفي بين الاثنين، فتوم، "مهووس" بلوحة طوف ميدوسا (1819)، التي أنجزها ثودور جيريكو (1791-1824) والموجودة حالياً في اللوفر، "هوسٌ" دفعه لقراءة "كلّ" ما كتب عنها وعن مؤلفها، وكل ما يحيل إليها قديماً وماضياً. أما عليّ الذي ترك دمشق والمقيم في أوكسفورد، فتعرف على توم صدفةً أثناء حديث عن مشروع شيكسبيري ما. ليبدآ معاً رحلة للبحث عن الطوف أو بنائه، نكتشف عبر هذه الرحلة عدة تواريخ: حكاية سليمان، خراب سوريا، طفولة توم، تاريخ لوحة جيريكو التي لا يبصرها سليمان، تاريخ جيريكو نفسه، تاريخ حياة توم، قراءات واقتباسات من الأدب والفن والشعر، محاولات توم أن يضع نفسه مكان سليمان، ومفارقة غياب البصر والشهادة، محاولات سليمان نفسه "رؤية" لوحات توم ولمسها، عرض أداء مرتجل يهدد الجسد، تحول علي إلى مؤدٍّ على لوحة ثم خشبة، لكن نهايةً، احترق كل شيء.

أغلب ما سبق لا يهم، أو هو مهم، إن كنت أكتب مراجعة تقليديّة عن كتاب، لكني بدأت بضمير "أنا" وأكتب عن شخص أعرفه وأحاول تخيل صوته، ولا تهمني شخصياً لوحة جيركيو، ولا مقارنتها بصور الغرقى السوريين في المتوسط وتاريخ الدمار، ولا سيرة توم وموت والده وألمه الشخصي، والأهم، من هذا التوم الذي يريد أن يجعل رجل أعمى يبصر لوحةًّ؟

أقرأ الكتاب بوصفي حاضراً فيه، أو بصورة ما، شخصيةً غائبةً أقحمت نفسها حماساً وسذاجةً وفضولاً، فلا أحضر باللفظ الواضح والاسم الذي يمكن تمييزه، بل كشاهد غائب، أقرأ عن عليّ وحكايته الشخصيّة، كيف فقد بصره، وكيف كنا نجلس في القاعة لنستمع لكلماته، والأهم، كيف شهدنا سويةً الموت، أو القذائف التي تقترب من ساحة الأمويين في دمشق، أدّعي هنا أني قادر على "فهم" عليّ أكثر من ذاك التوم، فأنا أفهم عربيته، ولا داع لأن استخدم لوحةً ما، أصادر شيئاً من عليّ لأقحم نفسي، قارئاً مبتذلاً، يظن أنه يعرف أكثر مما تقوله الشخوص في الكتاب عن نفسها.

بدأت الكتابة بضمير "أنا" لأني أصف شخص أعرفه ولا صعوبة في تخيل صوته وهو يتكلم، ولا تهمني شخصياً لوحة جيركيو، ولا مقارنتها بصور الغرقى السوريين في المتوسط وتاريخ الدمار، ولا سيرة توم وموت والده وألمه الشخصي، بل ذاك الذي عرفته "علي" وهو يصف ما كنا متفقين على أن لا نتحدث عنه في دمشق

يحكي سليمان عن لحظات أعرفها بدقة حين كان أستاذاً في المعهد، أقرأ وصفه لأصوات القنابل، وما كنا نقرأه في الدرس، أتحول إلى شاهد معه على ما حصل، أبحث عن اسمه بين الصفحات لشكله المميز Ali، لا كلمة انكليزية بهذا الشكل، أقارن كيف يتذكر ما حصل، وهو الذي لا يبصر، مع ما أتذكره أنا عن ذات الأحداث، يذكر عليّ مرةً حين سقطت قذيفة قريبة "منّا" حين كنا في الدرس، وكيف شعر فجأة بيد تمسك بيده، أعرف من أمسك يده، أذكر صمته حينها، وسؤاله: "هل الجميع على ما يرام؟"، أقرأ ذات النص بالإنكليزية، أترجمه للعربيّة، ثم أقلبه للعامية المحكية في سوريا، هكذا أتذكر.

يحاول توم مراراً أن يضع نفسه مكان سليمان، على المستوى الواقعي (فقدان البصر، التحليق في الهواء لحظة الانفجار في التسعينيات، ترقّب الموت في أي لحظة في دمشق) وعلى المستوى التعاطفي (ماذا يعني أن يفقد أحدهم منزله، وأن يترك كل شيء وراءه ليكمل حياته في أوكسفورد؟). منذ البداية أعلم استحالة الأمر، وعلي نفسه يعلم ذلك، وأنا القارئ- الشاهد الدخيل، المفترض أن أجد مقاربات لأفسر موقفي الهش، ثم أخرى عن كيفية قراءة تاريخ الفن والمسرح وتداخله مع الحياة الشخصية للفنان وشريكه، لدي عدّة كافية لتبرير كل ذلك، وإخفاء "أناي" أمام شخوص الكتاب، لكن هناك استحالتين، الأولى، علي لا يبصر، لا يمكن أن أكون/نكون نحن المبصرين مكانه، جغرافيا العالم بالنسبة لعلي وعلامته مختلفة عما نمتلكه، أما الثانيّة فهي القذيفة، تلك التي وقعت في المعهد العالي للفنون المسرحيّة في دمشق وهددت حياة سليمان، إذ هددتني أيضاً، ولا يمكن أن آخذ مسافة، لا من عليّ، بل من موت قادم من السماء لا إرادة لي في دفعه أو تفاديه، أنا وعلي نشترك بشيء واحد فقط، الحظ، لم نمت حينها، ولا مهارة كافية للفكاك من رمية نرد الحظ، (اقتباس مشوه من قصيدة مالارمية الشهيرة).

يشير توم في الكتاب إلى إصابته بنوبات من "الهوس- Mania"، تلك التي قادته إلى إحراق لوحاته، ثم "احتراق" مرسمه بأكمله بكل ما فيه من أعمال، أي احترق تاريخه الذاتي- الفنيّ، ليبقى حطام طوف ميدوزا مجازياً هو الباقي، هذا الهوس يعيد(نا)ــي إلى جيسون محقق، ونظريته حول الـ "Manic"، الحالة التي تقود صاحبها إلى إفناء كل ما حوله، حتى إفناء العالم من أجل موضوع هوسه (يصل المهووس أحياناً إلى إفناء نفسه)، في حالة توم، هذا الموضوع/ الغرض هو الطوف، وما يحويه من حطام كرنفالي نتج عن حريق المرسم وولد عملاً فنياً.

الانطلاق من الـ "Mania" يكشف عن حالة مميزة من التعاطف بين علي وتوم، إن كان علي لا يبصر ما نراه، وله خرائطه الخاصة وأدواته الخاصة لـ"يرى"، فتوم أيضاً أَعمَهٌ بسبب هوسه، قاده التحديق في موضوعه هوسه إلى تلاشي كلّ ما حوله، صحيح أن الكتاب يوضح بدقة عمل توم كباحث-فنان، وقارئ شديد الحساسيّة، لكنه يقرأ وهو على وشك أن يفقد بصيرته، عملية التدمير ذاتها قادته إلى الحطام ثم الحافة، أما عليّ، فـ"يعيش في المجاز"، ووصل إلى الحافة سابقاً.

هنا يظهر الاختلاف: علي يتلمس طريقه/ما حوله ليبصر، توم يدمر ما حوله وذاته، ليصل إلى عتبة عليّ، حيث الواقع والمخيلة شديدا التقارب، لا حدود واضحة بينهما على حد تعبير عليّ، وهنا يظهر جهد توم التعاطفي الجسدي والنفسي، وسؤال: "كيف يمكن أن أضع نفسي مكان شخص، وجد نفسه يطفو في الهواء قبل أن يرتطم جسده على الإسمنت ليفقد بصره ووجهه؟".

أنا القارئ- الشاهد الدخيل في هذا النص، المفترض أن أجد مقاربات متعددة لأفسر موقفي الهش، ثم أخرى عن كيفية قراءة تاريخ الفن والمسرح وتداخله مع الحياة الشخصية للفنان وشريكه، لدي عدّة كافية لتبرير كل ذلك، وإخفاء "أناي" أمام شخوص الكتاب، لكن هناك استحالتان...

الألم لا ينتهي بعمل فني

يفترض لودفيك فيتغنشتاين في تحقيقات فلسفية ضمن القضية 262، "أن من يقدم لنفسه تفسيراً شخصياً للفظة ما، يجب عليه أيضاً أن يتعهد في سرّه باستعمال هذه اللفظة بطريقة كذا وكذا، فكيف يتعهد بفعل ذلك"، هذا التعهد، يتطور في الحالة التعاطفيّة، أي سعي لخلق معنى واحد وتعريف واحد للفظة، إن استخدمها توم أو علي، فسيكون لها نفس الوقع لديهما، ولها نفس القدرة على إنتاج ذات المشاعر لديهما، لا ذات الصور. أفكر، إن كان الكتاب، تعهداً بين الاثنين (أو حتى الثلاثة: هناك سيرة جيرنيكو نفسه)، على الاتفاق على لفظة، ما هي؟ "مجاز- Metaphor"، إجابة سهلة ، ومحاولة للتهرب وإنهاء المقال ذاته، "حطام"، لا، عنوان الكتاب حل أشد سذاجة من سابقه، فيتغنشتاين يختار في القضية اللاحقة كلمة "ألم"، لكنها أيضاً لا تعكس حكاية توم مع علي، فالألم إن كان شديداً لا ينتهي بعمل فنّي.

يشير توم في بداية الكتاب إلى سؤال طرحه حول إمكانية إنتاج الفنّ على حافة الموت، على حافة الكارثة، بعد أن ودع جسد والده شبه الميت وعاد إلى منزله، تنويعات هذا السؤال تتكرر على طوال الكتاب، وتأخذ منحى شخصياً بعد أن احترق مرسم توم وتحول إلى كتلة من طلاء محترق ورماد. هذا الحد على الهاوية، يقف عنده علي، توم، جيركو والملك لير، تلك الهاوية التي توجد وراء الباب الذي يحوي الهاويّة، حسب فيتغنشتاين في قضية أخرى، ذاك المكان المجهول، الذي ربما توجد كلمة (نتفق جميعاً على معناها) من أجل وصفه، كلمة واحدة تخلق لدينا جميعاً ذات المشاعر، كلمة غير مجازيّة، لا اختلاف على معناها ولا لبس حولها أينما ومتى نطقت، لا أعلم ما هي، حتى رحلة علي وتوم التي أوصلتهما إلى "حافة" الهاوية بين المخيلة والواقع، لم تفض إلى إيجاد الكلمة، ربما هي بعد الهاوية، ربما هناك "حيث لم يرجع مسافر"، كلمة تطفو بانتظار نطقها، تلمسها من بقي على طوف ميدوزا، ومن نجا من عبور المتوسط، ومن احترق مرسمه، ومن أخطأته القذيفة، ومن أفنى العالم بهوسه، من يعيش في المجاز ومن يعيش بين دلاء الألوان.

بمعنى آخر، الرحلة إلى الحافة، فنياً وعاطفياً وواقعياً، تنتهي دائماً عند الحافة نفسها، ثم رجعة أو سكينة عندها، خصوصاً أن هناك عند "الما بعد" مسافة لا يمكن قطعها، تلك التي يحصل عندها التعاطف/التطابق التام، هناك حيث تطفو الكلمة.

يقين الرحلة وما تخلقه من إشباع و"حقيقة"، لا ينفي الفضول حول ما بعد الحافة، تلك المساحة المشتركة بين الجميع نظرياً، لكن هناك قيد أنملة دائماً مفقود، أيكفي أن تحدق بنا الهاوية، حسب التعبير النيتشوي، لنفهم العجز عن نطق تلك الكلمة؟ أذكر، في مشهد العاصفة، والملك لير على الحافة مع المهرج، وبعد دخول كينت، خادم لير المطيع، أول عبارة يقولها لير هي: "سأكون مثالاً على الصبر، لن أقول شيئاً"، كأنها تعليق على العلاقة مع المرآة وصورها المتخيلة أو الخادعة، أو ربما هو لن يقول شيء لخادمه، أو سيصمت أمام عقاب الطبيعة/ العاصفة. ما الذي لن ينطقه لير لمن معه، ولنا نحن المشاهدين الذين رافقناه إلى "الحافة"؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard