شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
نمليّة جدتي.. معبدي وحِرزي في الغربة

نمليّة جدتي.. معبدي وحِرزي في الغربة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 21 مايو 202202:15 م

حياكة الكلام


في ليالي الغربة الباردة، بنصف جفنٍ وجديلةٍ أنام، كدميةٍ محشوة بالفراغ، تنتظر أحداً أن ينسجَ ضفائرَها المبعثرة أو يركلَها إلى اللامكان. فتلوْح لي جدتي، تدثّرني بمنديلها الحريري المذهّب، تلقي تعاويذها، وتترك لي كنزاً صغيراً ثم تمضي.

جدتي كانت تصنع الجمالَ وتسكبُه في طبق، جمالٌ بسيط وعميق، جمالٌ يغفو منذ الطفولة في أبعد نقطة من الذاكرة، ثم سيتدفق خلال السنوات العشر الفائتة ليحرسني في غربتي، فيملأ البطنَ الجائع والقلب المشتاق، ويُشبِع الحنينَ كأغنيةٍ تهدهد الروح في ليلةٍ تشرينية كئيبة.

يقولون "لكل وطنٍ رائحة" ولوطني رائحةُ جدتي، رائحةُ طعامها المرتب في "النمليّة". غارٌ من الدّرر والنفائس، محفورٌ في الحائط ومُشكّلٌ من رفوف خشبية خضراء، أُغلقت بشبك من السلك الخفيف، ليسمح برؤية الهدايا المخبّأة، فيدق القلب ويتدفق الريق لمشهد المكدوس والشنكليش والمخلل الذي ينتظر.

منجم حياة

"الجدة منجمُ حياة، يتناسب حظُّ الواحد طرديّاً مع الفترة التي يسمح له بها القدر للتوغل بعيداً داخلَ أعماق هذا المنجم"، يقول الكاتب المصريّ عمر طاهر في كتابه "كُحل وحبّهان".

جدتي كانت تصنع الجمالَ وتسكبُه في طبق، جمال بسيط وعميق، جمال يغفو منذ الطفولة في أبعد نقطة من الذاكرة، ثم سيتدفق خلال السنوات العشر الفائتة ليحرسني في غربتي... مجاز

يحدثنا عن أكلة المسقعة التي ترقّق القلب، وعن حلاوة طعمها عندما كانت تطهوها جدته و"تضيف لها قطع البطاطس المتناثرة. صلابةُ البطاطس مع قوام الأكلة الرخو أشبه بحوار مع شخص كبير وناضج، لكنه في نفس الوقت "ابن نكتة".

مسقعة جدتي مريم بذات البهاء والتفاصيل، تزيدُ عليها إضافةً سُريالية، التويج الأخضر في رأس الباذنجانة، تقطّعه وترميه في الحلّة ليضفي بعض الفرادة والدهشة على الطعم.

حيث أعيش الحياة تطحنُ كما الرحى، أحمالٌ وصخبٌ وزِحامٌ يلتهم الوقتَ كوحش لا يشبع. رغم ذلك سيباغتني الشوق في لحظات غادرة، فتفيق الروائح والأجواء والأشخاص، نتحاور ونبكي ونضحك.

أعدّ لهم فطائر جدتي المحشوة بالجبن والبصل الأخضر، بصوتها المبحوح الذي ورثتُ بعضاً منه، تباركني وتوّجه صنيعي.

لم تعلم جدتي أن أطباقها ستعيش في الذاكرة لعقود، واستعادة نكهاتها سترمّم ندوب الفراق والغربة.

تلك الأطباق كانت تُعَد بحبّ، الطزاجة شرطٌ أساسي، لذلك كانت تطهو مرتين يومياً، ظهراً على الغداء بعد عودة جدي من الحقل، ثم مرة أخرى مساءً، بعد عودته من نوبته الثانية في الزراعة. أسلوبها في الحياة كان سريالياً أيضاً.

معابد جدتي

لطعام جدتي مريم مذاق الجنة، جميعُه من صنع يديها، ليس في الطبخ فقط، بل في دورة حياة الصنف أيضاً. كان لديها حاكورةٌ، والحاكورة "أرضٌ تُبَحس لزرع الأشجار قُرب الدُور". تزرعُ فيها البطاطس والباذنجان والخيار والبندورة والبصل، تظللها أشجار الرمان والتوت والتين التي كانت مواسمُها مهرجاناتٍ للعب والنهم.

في معبد جدتي كانت هناك دجاجاتٌ وبطّ وإوز، أعشاشها مبنيّةٌ قرب جُرنٍ حجري، تطحَن فيه القمح ثم تحيلُه خبزاً يُطهى في تنورٍ مشيّدٍ بذات البقعة المقدسة التي اختصرت جمال الكون وخيراته.

على بعد أمتار من هذا، كان هناك فردوسٌ آخر، دكانٌ صغير تبيع فيه جدتي الدخان والولاعات، كرّاسات صغيرة وأقلام رصاص، وبعض أحذية الجلد البسيطة. على ضفة مقابلة، تصطف سكاكر أحلامي وعسليات طفولتي. بسكويت وآيس كريم وعلكة وأشياء أخرى، كان جل أحلامي أن أنال بعضاً منها، ولأجل ذلك كنت أتبرع لجدتي بترتيب الأرفف وعرض المنتوجات بطريقة أكثر إشراقاً.

أكبسُ على جرح الغربة ببعضٍ من توابل جدتي وخلطاتها، فتصيرُ الغربة وطناً مقدماً في طبق لا يشبه سوى جدتي مريم، بقدّها الفارع ومنديلها الحريري الذي يكلّل رأسها، تتدلى تحته ليراتٌ ذهبية وسالفَين، فيزيدُ ذلك الجمالُ الخالص وهجاً ودلالاً... مجاز

لهذا ولأسباب أخرى كثيرة، كانت الحياة هانئةً قرب مريم، ربما لذلك ناهز جدي التسعين عاماً عندما رحل إليها، عاش منها أكثر من ربع قرن متكئاً على ذكرياتهما، مخلصا لها، مخاطباً طيفها في بعض الوقت:

لاقعد على الدربين وانطُر

وأكل من عشاب البرّ وانطُر

ويارب تغّيم الدنيا وتمطُر

ويابلكي يجون مع قطر الندى

قبل وفاته بأشهر كان يُكثر من مناجاتها، فيقول:

بكيت وبكي الغوالي على بجاي (بكائي)

ياريتني كون بديارن علب جاي (شاي)

ولشوف عيونهم قبل الغياب

قرأتُ أن "الذاكرة ليست كلَّ شيء، لكنها في بعض الأحيان كلُّ ما لدينا". هي مُتكأ وحِصن، ألوذ إليه عندما تصبح الغربة جنيّة شريرة، لن يطردَ أشباحها سوى تميمةُ جدتي، ووصفاتُها المعلقة في روحي كحِرز أزرق، كحلم عابر برائحة الورد والعسل.

أكبسُ على جرح الغربة ببعضٍ من توابلها وخلطاتها، فتصيرُ الغربة وطناً مقدماً في طبق لا يشبه سوى مريم، بقدّها الفارع ومنديلها الحريري الذي يكلّل رأسها، تتدلى تحته ليراتٌ ذهبية وسالفَين، فيزيدُ ذلك الجمالُ الخالص وهجاً ودلالاً.

كلَّ يوم تأتيني جدتي، تربّت على كتفي، تلقي بعض تعاويذها، تعطيني كنزاً صغيراً، ثم ترحل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image