شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
حين زارني إبليس مع عشيرته... محاكمة أم كلثوم

حين زارني إبليس مع عشيرته... محاكمة أم كلثوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 21 مايو 202212:32 م


مسّه الشوق فذابا



"أهل الحب صحيح مساكين، صحيح مساكين"

جملة مفرداتها كالأفاعي السامة التي تعيش على قارات الترف، تسحقك كبلورات الملح لتظل ملك المغامرة.

جريمة شرف على التخت الشرقي

"الحب نعمة مش خطية... الله محبة... الخير محبة... النور محبة"

كان الحب نعمة على أكمل وجه في حياتي، أنا ووالدتي السيدة هالة، أو هالة القمر كما كان يحب أن يلقبها أبي، أما الخطية فكانت من نصيب السيد كمال، أبي، أو هكذا تم توزيع الأدوار بيننا، من يحب هو النعمة والمحبة والخير والنور، ومن يحارب الحب ويغضب منه هو الخطية في هذه اللعبة.

كانت بداية توزيعي أدوار الخير والشر حادثة عثور والدي على دفتري الصغير المنقوش من الخارج بألوان سخيفة، وعلى هامشه طبعة لصورة الست بالأبيض والأسود، وهي تحمل منديلها المكتوب تحته "أنت عمري". كان دفتراً خاصاً بالمذكرات، في منتصف غلافه من الجهتين، قطعة معدنية تمثل قفلاً أبلهاً صغيراً رديئاً، وجده أبي ملقى في كرسي سيارته الخلفي. كان من الممكن جداً تجاهل أمر الدفتر، بالأخص أنه جزء من شخصية جميع البنات في عمري، لكن تغيرت الأمور حين سقط منه جواب قديم كان نائماً في بطنه لأيام.

ما جذب انتباه أبي ليقرأ الجواب هو أنه كان يحفظ جيداً رائحة تلك الورقة وملمسها وحجم وشكل الحروف المنثورة عليها.

 جاءني في المساء وقدم لي الدفتر مع قبلة باردة. كانت أنفاسه تشبه رائحة صدى الدم الجاف. تقدم خطوات نحو الخروج من غرفتي، ثم عاد لي ومد يده  التي كانت ترتعش بشدة بالورقة المطوية، وطلب بصوت مسكين أن أعيدها لأمي قبل أن تنتبه لغيابها.

امتلأت الغرفة برائحة دم خالص بعد خروجه، تمزق يومها قلبه بصمت كما ظل يتمزق دوماً. تجاهلت بتجبر الموقف، وتأملت مقدمة الرسالة بشوق بالغ "ياللي مليت بالحب حياتي أهدي حياتي إليك"... تلونت ملامحي وأنا أقرأها للمرة العاشرة، وكأن شلالات المتعة منبعها قلبي، جوع غريب ونشوة شريرة. أظن يومها زارني إبليس مع عشيرته، ليزينوا ويباركوا شعوري. تجاهلت أبي المسكين وتشبثت بطرف الحبال التي تؤذيه، كان الجواب يشبه مجلدات لدراسة الحب، به أحلام وشوق وشغف رجل يعشق خطيبته التي تفرقهم الحدود الجغرافية بشكل مؤقت، كان الجواب من محمود، خطيب والدتي الراحل وصديق والدي الوحيد، الذي ابتلعته حرب الخليج مع آلاف المصريين، وبقيت أشعاره وأمنياته على قيد الحياة في بيتنا، بل الحياة كلها لبيتنا.

ثومة... من يذبح قلباً يُعدم، ومن يسرق حياة يُسجن، لا يغني ويغني ويغني ويصلح لكل زمن، أنتِ مذنبة... عودي، عودي لتجعلي منهجي قبلة العالمين في الحب، أريد أن أتحدث عن الحب كما أكتب لك عنه، دون أن يسخر عشاقك مني، عودي حتى أجد حبيباً يصلح للحياة... مجاز الست

كنت أجد دائما أن أمي هالة القمر غير راضية عن حياتها مع أبي، دون إدراكي  للسبب. سنوات من غياب الأسباب التي تجعل للشجار والشكوى مكاناً. تمرد صريح وعدم رضا دائم، مصاحب لنوبات بحث عن نقطة مجهولة في أبي لجلب الهدنة المنتظرة. أما أبي كمال، فهو دائماً في محاولات مستميتة لإثبات أنه يستحقها ويستحقني ويستحق أسرة تحبه كما يحبها. كانت ذروة الكارثة في صدق عقيدتهم بالحب المرسل عبر أغنيات الست، كيف يمكن للمصاب في قلبه أن يتعلم التأقلم ويبدع فيه؟

جلس أبي بجوار أمي التي لم تره يوماً حبيباً، أمام وصلات غناء كل تفاصيلها من أفاع تغرد كالكناري، لتعلم المرء كيف يداري ندبته تحت التراب كغراب أبناء آدم، ثم يسقيها ويرعاها ويصنع منها خبزاً يطعمه لقلبه سنوات، قد يكون ماؤه وملحه ونار موقده مقطعاً من عبارتين، مثل "في الدنيا دي مفيش أبداً أحلى من الحب، نتعب، نغلب، نشتكي منه لكن بنحب"، حتى تلاشى أبي مع الأيام وأصبح ظلاً، طويلاً، عريضاً، فارغاً، يحرس أرضاً بوراً، تنبت  كل ساعة ممثلاً سخيفاً يعرض شخصية من بنات خياله الطفولي، يأمل أن ينال بها في مرة إعجاب بطلته الوحيدة: هالة القمر.

يفشل فيمرض بالحمى ويقترب قلبه من الانتحار، فترفع أمي صوت المذياع بجانب مخدته المحمومة لتراضيه بلغتها الوحيدة التي نسمع لها مفردات في بيتنا، فتجبر خاطره بــ"وقابلتك أنت لقيتك بتغير كل حياتي... معرفش ازاي حبيتك معرفش ازاي يا حياتي"، فيعود ظله قوياً شاباً، كمشخصاتي مجتهد، يعرض بحماس أمامها شخصية رجل برجوازي، يشتري قصراً أنيقاً لحبيبته المومس، دون أن يسألها عن ماضيها، فيتغافل قلبها من جديد عن كرمه، وتكرس أيامها في عناق ذكرياتها، حين كانت جارية مملوكة لرجل وضيع، سكن نفس القصر في زمن سحيق، فتحيي رماده بــ "أهرب من قلبي أروح على فين... ليالينا الحلوة في كل مكان"، فيعود أبي تائهاً غاضباً، شكاء، بكاء، يأخذ بنصيحة صديقه وابن عمه وجدّه وحلاق الحي  بضرورة الجفاء، بضرورة أن يصبح قاسياً خائناً مؤذياً، فيهتز وتد بيتنا قليلاً بمعدل سالب واحد ريختر، فتسرع هالة في الاصلاح، تخشى تصاعد قوة الهزة فتطيح ببيتنا لسابع أرض، تحاوطه بزيف واضح كالشمس بــ "خصامنا ليه النوبة دي زاد... وخلى الخطوة ما بينا بلاد"، فتعود أعمدة بيتنا من الحديد والصلب.

امتلأت مع الأيام بأثر محمود الراحل عن هالة من خمسة عشر عاماً، أحببته، فخلوده داخلها جنوني، يستطيع أن يمحي أي منطق ويهدم أي فلسفة، تعلقت به كما تتعلق الصغيرات بأمراء الحكايات الخيالية، أصحاب الأحصنة البيضاء. أنست وحدتي رسائله التي تلجأ إليها أمي كلما قررت طي صفحة بيتنا الضاغطة، تذهب له من خلال كلماته التي تقرأها، وأنا وأبي جالسين فوق جفونها، لنذهب معها دون إرادة منا: يذهب أبي نحو الجحيم وأنا نحو الجنة، وتظل هالة عالقة في المنتصف.

سنوات وأنا أحاول فهم ما الذي يجعل إنساناً حياً يكره قطعة جماد من خشب؟ كان أبي يكره  صندوقاً مغطى بالقطيفة في طرف غرفة نومه، افترضت لسنوات أنه صُنع لحمل جهاز العرائس، أي أنه صندوق جهاز أمي، حتى أدركت أنه تابوت مخملي، وضعت فيه حبيبها ليزف معها لأبي، داخله عدد لا يحصى من الرسائل المكتوبة بخط اليد، رسائل تشبه البرديات الأثرية، تروي تاريخ اثنين من البشر، دوّنت بريشة ساحر مخضرم، ليعيش أصحابها أفضل حياة بعد البعث.

اكتشفت أيضاً من خلال هذا التابوت ملامح هالة الحقيقية، المليئة بالحياة، وهي بجوار محمود، داخل صور قديمة باهتة، لكنها حادة الصدق والوجود فيها. سمعت عبر كاسيت صغير مجموعة أشرطة ليومياته في الغربة ولأم كلثوم، ففهمت سر خلطة التحنيط التي عجنت بها أمي حياتنا. أسرتني التفاصيل حتى أنني استطعت أن أربط بين حكاياتهم المكتوبة والمسموعة، وبين أبطال القصص التي راحت تقصها لي هالة سنوات، لأغرق في النوم وتغرق هي في السهر ويغرق أبي في الوحدة. تحكي لي حكاياتهم القديمة بكل ألوانها ونكهاتها، دون أن تذكر اسمه، وحين يأتي أبي يصبح اسم حبيبها الشاطر حسن وتصبح هي ست الحُسن، وأحياناً يكون حبيبها علاء الدين وهي الأميرة ياسمين، أما أبي فكان دائماً حمار جحا.

تقصّ علي كيف أحبت جين طرزان، وقررت أن تعيش معه في الغابة وتكتفي به من كل البشر، وفجأة تنسى أنها تقوم بدور الأم التي تجتهد لتنام صغيرتها، إثر إرهاق خيالها التي تكدسه باللامعقول لتنعم بأحلام رائعة، فتكمل باقي القصة بغناء ضعيف الطرب،  قوي العرض، مثل راقصات الاستعراض في ملاهي الدرجة الثالثة "الليل وسماه ونجومه وقمره وسهره وأنت وأنا يا حبيبى أنا ياحياتي أنا كلنا فى الحب سوا"... تسيل دموعها، وأحياناً يقطع غناءها ضحك مخيف. كنت أتوحد معها وغصتها تتمدد داخلي، فأنا وهي الآن أرملتا رجل واحد "محمود". تخجل، وينقطع صوتها، وتنسحب من العرض حين تفيق على حقيقة أن جمهور نمرتها السخيفة الوحيد هو أبي.

كان كمال شريفاً لا يشبه حانتنا القميئة، يخيط حياءها بخيط ضعيف من صوته، بـ "هو صحيح الهوى غلاب ما عرفش أنا".

جنون كان هذا جنون، لا صوت آخر في حياتنا سوى النواح أو الابتهاج على النهج الكلثومي، كانت دماء شرف كمال تسيل على التخت الشرقي كل ثانية من حياته معنا، حتى تعلم كيف يعالج عار النزيف، فذبح كل ما نبت في قلبه من كرامة وكبرياء، حتى اختلطت الدماء وضاعت هوية الجاني. يغني أحزان الست وضعفها أمام الحبيب، ليغفر لنا خيانتنا ويعزي كرامته ويستسلم لحبه كما استسلمت أمي لحبها، فهو أيضاً يؤمن جيداً بأن "الهوى غلاب".

ضعت وفقدت الصواب. لا أعلم هل كنت أتجرّع منهج الحب أم الظلم؟ هل كنت ضحيتهما أم امتدادهما، هل كنت مراهقة اكتشف الحياة من خلال الحب، أم أبحث عن الحياة في الحب، فبيتنا كان يشبه نفقاً مظلماً صامتاً، أعيش فيه بمفردي مع أشباح مع أبناء أوفياء للصمت، مارسوا الجنون كحقيقة، فأصبح العبث منهجاً مقبولاً. 

غريبة على التخت الشرقي

"وعمري ما اشكي من حبك مهما غرامك لوعني"

رسمت الست بألوان واضحة على أيامي سيقان القلب وهي محملة بوحل الحب، بوحل وجهه الآخر، المتغافل عنه دوماً، فكان هذا الدرس الاول والأكثر صعوبة وتعقيداً، لأتقبل وعكت بيتنا المستمرة، فرحت أنمو جسدياً وعاطفياً تحت مظلة كوابيسهم، التي التحمت فيها الأعضاء الحية بالأغلال، وابتلع التقويم ملامح فصوله إثر اختلال دورانهم، وتمردت الأناشيد الوطنية على شعبها وراحت تغني لغير الحرية، ظل كمال يهتف سنوات بـ "وعمري ما اشكي من حبك مهما غرامك لوعني، ولكن أغير من اللي يحبك ويصون هواك اكتر مني" حتى مات.

عزيزتي أم كلثوم... كنتِ قوية وصادقة وأنتِ تغنين للغفران وتدعين للصبر والانتظار وتؤيدين العطاء، أما وأنتِ تغنين للكبرياء وتزعمين الهجر إثر القسوة، وتصرخين "فات الميعاد"، فكنتِ مضحكة حد الموت... مجاز الست

مات كمال بسكتة قلبية حادة إثر تجمهر جلطات مشاعره في بطن كل شريان قد يمكنه من الاستمرار في حبنا، كانت ملامحه راضية وفمه مفتوحاً وكأنه أحفورة لطائر مات وهو يصرخ، يومها رأيت جميع العاملين على التخت الشرقي يتسللون من بيتنا كالجرذان من أسفل الأبواب وفتحات التهوية. تلاشى كل شيء فجأة بوحشة، ما عدا منديل الست، ظل مطروح أرضاً، ملوثاً بدماء زرقاء، كانت أنفاس أبي الأخيرة التي بصقها عليهم ليوقع بها تمرده الوحيد، أما مومياء محمود الأثرية، فرأيتها زاحفة نحو بالوعة الصرف الصحي.

نزع عن هالة قمرها وأصبحت مجرد هالة فارغة، باهتة، وأصبحت أنا كابوساً يتنفس ولا ينتهي. قبل وفاة أبي بعامين أحببت شاباً اسمه آدم ولم يحبني يوماً. صببت في قالب علاقتنا كل الحب الذي درسته في بيتنا سنوات، أحببته بوفاء كحبي أنا وأمي لمحمود، وأحببته بيأس كما أحبنا أبي كمال. كان عمري سبعة عشر عاماً حين أمسكت بعقلي وهو يفكر في آدم دون أن يعطي محمود أدنى اهتمام، فرحت أقرأ رواية "أنت عمري" للست بعين أبي وأمي ومحمود،  فوجدتني فيها "صالحت بيك أيامي سامحت بيك الزمن... ونسيت معاك آلامي ونسيت معاك الشجن". انتقلت من حالة الغاز الدخيل على الحب في بيتنا إلى حالة سائل كالماء، يمنح بيتنا الحياة، ثم انتقلت برشاقة لمرحلة الصلابة، فأصبحت عنصراً مستقلاً عن غيره، يجد في كمال الأب لا العدو، ويجد في هالة الأم لا الشريكة في الحبيب.

تصالحت حقاً مع كل ما مضى دون الاحتياج لسنوات للإصلاح كما ظننت طويلاً، كان عمر آدم في حياتي أربعة أشهر حينها، فأهديته "اللي شوفته قبل ما تشوفك عينيه.. عمر ضايع يحسبوه ازاي عليا؟"، وأهداني يومها تجاهله.  

بلغت عامي الثامن عشر، وأصبح عمر علاقتي بآدم سنة، كان هو في آخر سنة دراسية في الجامعة وأنا كنت في الأولى. مثّل لي خلال شهور العام الصديق والمعلم والحبيب والأسرة، ومثلت له الوسام الذي يمنحه الغرور والرضا في الحياة، يرتدي وجودي فوق سترته ليغطي عورة خذلانه التي تركتها حبيبته السابقة عارية للذباب والبعوض، يغطي بقبولي له رفض أمه الدائم لوجوده في الحياة، ويملأ بي فراغات الأصدقاء الذين كرهوا رفقته.

يؤلمني ويلومني ويسحقني ويحقر كل أفعالي ثم يراضيني بكلمة "أحبك" فأرضى، ويتمسك قلبي بأركانه الجديدة ويصبح "الليل بعد ما كان غربة مليته أمان". كان غرام والدي مثل غرامي، متطرف يأتي معه الأذى والألم والرغبة في المزيد من الشقاء، وكأن مصير الحب شيء يورّث. وصف كمال حبه لهالة بأنه حب كلثومي، أي أنه واقعي، مليء بصفات الحبيب المرهقة، فصدقت أن سوء صفات الحبيب واردة، وممارستي للسوء في الحب أمر مقبول، واستمرار العلاقة هو المصير الحتمي.

بكيت يوماً كما لم أبك من قبل، من فرط قسوة آدم ومن ضغط الشعور بالتيه. جميع أطباق حبه مطبوخة بسموم قاتلة. كانت هالة متوحدة مع أحزانها التي أصبحت بالنسبة لي فيلماً لا يطاق، وكان كمال يسمع ويقرأ كل ما يدور داخلها وداخلي، دون مواجهة كما اعتاد، فجلس بجواري، وتجاهل سؤالي عن أسباب الحزن المتكوّم في ثنايا وجهي. مسح على راسي بحنان بالغ وعلى ظهري، ثم ضمني لصدره وقال بلامبالاة صادقة جداً: "الست تعلم الصبر". ارتخت اعصابي وهدأت حيرتي، ورحت أنتظر المقدمة الموسيقية لتنتهي، لأجد حلاً لكارثتي العاطفية، فقالت أخيراً: "أنساك..! ده كلام..؟ أنساك..! يا سلام .. أهو ده اللى مش ممكن أبداً.. ولا أفكر فيه أبداً".

راحت يده تداعب شعري وكأنها تواسي أفكاري، سكنني الهدوء بالتدريج، حتى عادت الموسيقى وعاد معها شعوري بالاضطراب والترقب، وعاد الأمل مرة أخرى مع صوت الست "ولا ليلة ولا يوم أنا دقت النوم أيام بعدك"، فأستقر مرة أخرى وأجد ونساً في ألمي. أصدق فكرة أن ما يفتك بقلبي هو مرض جماعي يلحق بكل من يحب فأطمئن، تأخذ الموسيقى نفس مسارها وتكرّر بعض الجمل في ختام كل كوبليه، وكل مرة تترك أثراً مختلفاً في نفسي، المرة الأولى أهدتني السكينة، والمرة الثانية أهدتني الونس، والمرة الثالثة أهدتني الصبر، ثم ألهمتني لأثابر حين طبعت صكوك الغفران للحبيب، بتذكيري بجماله وروعة وجوده، بــ"سنين ومرت زي الثواني في حبك أنت... وان كنت هقدر أحب تاني هحبك أنت".

لكنها وصفات علاج فاشلة، مؤقتة كمسكنات الأورام الخبيثة، مات كمال بعدما تعاطاها سنوات، مات من ألمه بعدما صبر وثابر تسع عشرة سنة، وهجرني آدم إلى الأبد بعد صبر ومثابرة عامين، فأصبحت زعيمة المرتدين، ناقمة وخائنة لنهجك، اغتال وجودي الشاسع وإيماني المجيد بالرحيل، أنحر عنق خلية نبتت هنا، لأعود غريبة كما جئت.

أريد أن أحب رجلاً يشبهني، يغفر زلاتي لأنه سوي وقوي، يحبني بتجربتي المؤلمة المحاطة بالكثير من الأحداث المخزية، يراها ميزة لا ندبة، لا يدينني ويمتصني ليُشفى ثم يطويني في درج النسيان، يرى خطأي بحجمه الحقيقي، لا يؤذيني ويسحقني ويستبدلني، وينتظر الغفران والصبر لأنني أحبه ولأنه مخلوق من شعر ولحن... مجاز الست

محاكمة أم كلثوم

"واتغيّرت شوية شوية، اتغيّرت ومش بإيديا.. وبديت أطوي حنيني اليك وأكره ضعفي وصبري عليك".

عزيزتي أم كلثوم

 كنتِ قوية وصادقة وأنتِ تغنين للغفران وتدعين للصبر والانتظار وتؤيدين العطاء، أما وأنتِ تغنين للكبرياء وتزعمين الهجر إثر القسوة، وتصرخين بـ فات الميعاد، فكنتِ مضحكة حد الموت.

لم يفت أي ميعاد إلا بقرار الحبيب الذي لم يحبنا يوماً، يفوت لأنه هو من قرر إلقائنا خارج حدود زمنه، أما نحن، فـنظل متربعين على الاطلال، وكلما شاء القلب التفكير في النسيان، نصفعه ليفيق من غفلته بـأمل "ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء"، وينشد وفائنا المذبوح لننتفض "هل رأى الحب سكارى مثلنا"، ونتمنى لو الحظ يشاء.

حتى سفنك وهي تطلق صفارات اللوم كانت تطلقها لداخلك، وفي الخارج تلضمين حبات الاتهام بالعفو والمشكلة بالحل، تعاتبيه بــ "أنت فين والحب فين ظالمه ليه ديما معاك.. انت لو حبيبت يومين كان هواك خلاك ملاك"، ثم تخففين من حدة عتابك بـ"ليه بتتجنى كده على الحب ليه؟"، وكأنك تخشين الاستجابة لموقفك.

تتلاعبين بقواعد اللغة، فتلجأ شجاراتك لحيلة الجمع حتى تهتز هيبة المقاصد وتضيع الحقوق وتنجح الحيلة، هتفت يوماً بنضال بـ"يا اللي ظلمتوه الحب وقولته وعدتوا عليه مش عارف ايه.. العيب فيكم يا في حبايبكم.. أما الحب يا روحي عليه"، فـامتثل الجميع أمام القاضي بالإجبار لرد حق الحب وتبرئته، أما حبيبيك الوغد فكان الوحيد الذي تغيب.

ثومة... أريد حباً يشبه الحياة، يشبه صعوبتها وغدرها ورضاها. آمنت سنوات بواقعية الحب في أغانيك، لكنها كانت واقعية ناقصة: هل أصبح الحب في زمننا أصعب فغيّم على رؤيتك؟ أم رؤيتك للحب هي الغيمة؟

أريد أن أحب رجلاً يشبهني، يغفر زلاتي لأنه سوي وقوي، يحبني بتجربتي المؤلمة المحاطة بالكثير من الأحداث المخزية، يراها ميزة لا ندبة تجلب العار، لا يدينني ويمتصني ليُشفى ثم يطويني في درج النسيان، يفترض سقوطي وميلي ويرى خطأي بحجمه الحقيقي، لا يؤذيني ويسحقني ويستبدلني، وينتظر الغفران والصبر لأنني أحبه ولأنه مخلوق من شعر ولحن.

ثومة... أريد حباً يشبه الإنسان بوحشيته وضعفه، أريد الحقيقة مهما عجنت بعلقم، فمرارة الحقيقة تحتمل أما عسل الوهم فيهلك. لا أريد كمال، الذي يهب حياته وحبه وهو لا يحب في نفسه شيئاً، ولا محمود ليحبني على طريقتك ويرحل ويتركني سجينة كذب الشعراء، ولا آدم ليرقع ثوبه البالي بي، ولا هالة التي أحبت وهماً لا وجود له في عالمنا.

ثومة... من يذبح قلباً يُعدم، ومن يسرق حياة يُسجن، لا يغني ويغني ويغني ويصلح لكل زمن، أنتِ مذنبة... عودي، عودي لتجعلي منهجي قبلة العالمين في الحب، أريد أن أتحدث عن الحب كما أكتب لك عنه، دون أن يسخر عشاقك مني، عودي حتى أجد حبيباً يصلح للحياة، عودي حتى لا يزورني كمال في المنام كل يوم، وهو يجلس بجوار محمود يتسامران تحت هالة القمر بانسجام ورضا لأنه مات وهو يتبعك، حتى موته رفض أن ينقذه، عودي لأنني أحتاج أن أسامح.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard