شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
البحث عن الصعيدي الرومانسي والحالم.. حوار عن الجنوب وحكاياته الدرامية

البحث عن الصعيدي الرومانسي والحالم.. حوار عن الجنوب وحكاياته الدرامية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 24 مايو 202201:48 م

يمكن القول وأنت مرتاح الضمير، إن اللهجة الصعيدية وشكل الصعيد في الدراما المصرية قبل مسلسل "الكبير" شيء، وبعده شيء آخر تماماً.

لأول مرة حدثت نقلة نوعية في استخدام المفردات والمصطلحات الصعيدية الغارقة في المحلية فعلاً، وكان ذلك على يد حسن قناوي، الفنان الماهر في معرفة تراث أجداده الصعايدة وهو منهم، واستخدم هذا الحب في عمل استثنائي.

البدايات

يقول حسن قناوي في بداية حواره لنا: مهمتي ليست تعطيش الجيم وتفخيم القاف، هذا ما كنت أحلم به وأنتظره.

في البداية كان من الصعب تحقيق ما أحلم به. فقط أتعلم من الأساتذة، حتى جاءت الفرصة عكس ما كنت أرغب، بالنسبة لممثل مبتدئ يشق طريقه في الإذاعة والدراما بالصعيد، عملت مصحّحاً للهجة لأول مرة في مسلسل جديد يكتبه العم محمد صفاء عامر، أبو الدراما الصعيدية الكلاسيكية الخالدة، "ذئاب الجبل" و"الضوء الشارد".

أعمال محفورة في وجدان المشاهدين في مصر والعالم العربي كله، ويعرفون الصعيد الحقيقي من خلاله. كان ذلك في عام 2006، وكان المسلسل هو " حق مشروع"، ومن بعده "أفراح إبليس" الجزء الأول، قبل رحيل محمد صفاء عامر في 2013، ومن ثم، وبسبب اقتران اسمي بالعمل معه، شاركت كمصحح لهجة في العديد من الأعمال المهمة، "دهشة" للفنان يحيي الفخراني و"واحة الغروب" عن رواية الكاتب بهاء طاهر.

لكن كل ذلك قبل مسلسل "الكبير قوي" بالطبع، كيف حدثت هذه النقلة؟

نشاط يدب في نبرة صوته، ويقول: "الكبير"، لقد أرسل القدر لي الصدفة الأمثل لما أفكر فيه وأحلم به عن الصعيد، في الجزء الأول من مسلسل "الكبير" عام 2010. ربما ليست صدفة، لكنه التوفيق الكبير أن تجتمع كل عوامل النجاح في عمل واحد، مثلما حدث في "الكبير".

لقد تغير كل شيء لصالح العمل. كان الجمهور متعطشاً لعمل كوميدي حقيقي، وفنان بذكاء وموهبة أحمد مكي والمخرج العبقري أحمد الجندي، لم يفوتا اللحظة في استخدام مفردات الحياة اليومية الواقعية في الصعيد، في الملابس، كما في الديكور، كما في اللهجة، لكن ثمة شيء ما ناقص.

مسكنا الخيط في مشهد مع الفنانة دنيا سمير غانم، المشهورة بفضولها، وكانت منتبهة بشدة لمخارج الألفاظ التي أنطقها، من الحنجرة والفم، وقفنا عند نطق كلمة "هناك"، فأخبرتها أنه عندنا في الصعيد يوجد 4 مصطلحات لمسافات تعبر عن "هناك" في العامية العادية، "هِنَه" و "هناكه" و "هناكهيتي" و"أبييه هناكهيتي". صعقت دنيا للحظات، وانطلقت نحو المخرج أحمد الجندي، حكت له "هدية" الحوار الذي دار بيننا، واتصل بمكي، وأخبره أنه سينتظره للانتهاء من تصوير فيلم "سمير أبو النيل"، ليبدأ العمل على الحلقات الأولى بشكل جديد مع قناوي.

ألم يكن مخططاً استخدام المفردات الصعيدية المحلية من البداية؟

من اللحظة الأولى طلب مكي أن نغرق في المحلية، ولا يريد المسألة مجرد لهجة، وترك المخرج لي مساحة للإبداع حتى في اختيارات الديكور والإكسسوار والطعام. قد يكون المشهد مكتوباً في ورقة ونصف الورقة، وبعد جلسة جماعية مطولة من الإضافات والتعديلات والتدخلات من الجميع، ربما يصل المشهد إلى خمس ورقات كاملة.

تحولت المقترحات إلى مطالب بالإضافات من التراث الصعيدي طوال الوقت. بحماس رحت أستحضر التراث الصعيدي المحكي، والنبش عن المفردات اليومية التي أوشكت على الانقراض. الأسماء المختلفة والمميزة الموجودة في الصعيد، لغة أجدادنا وأغانيهم الشعبية في الأفراح وفي العديد والطهور وغيرها، كنت أتصل مرات بخالتي في "نجع حمادي" لتذكرني بإحدى الأغنيات أو الحكايات الشعبية المرتبة فقط بقريتنا.

لكن لماذا "الكبير" نجح في استحضار التراث الصعيدي بشكل غير تقليدي؟

"الكبير" كان العمل الأنسب لاستحضار التراث الصعيدي، بعيداً عن مسلسلات الثأر أو تجارة الآثار وكليشيهات الدراما الصعيدية التقليدية. كما حدث في قصة "ابن الحاجة جلعادة" التي اختلقها "الكبير" في زيارة المحافظ للمزاريطة، عندما رأى أحد المجانين يجري عرياناً في الشارع. وأغنية "البلابيصا" التي غناها الكبير للعترة وجوني في بداية الجزء الثالث.

"طبازة" و"أم بعبيكة"، شخصيات صعيدية اشتهرت بين الناس، و"قزقز لبه"، "يا جوافة المستكاوي"، جمل ارتبطت بـ"الكبير قوي"... حوار مع القناوي عن طريقة استحضار وتجسيد الثقافة الصعيدية

شخصية "بعزق" كان اسمه "طارق" واخترت الاسم له، وكذلك "طبازة" و"أم بعبيكة"، هي الأسماء التي علقت مع الجمهور وأحبها وارتبطت بـ"الكبير"، وظهرت شعارات جديدة مرتبطة بالكبير فقط، مثل "جزرة وقطمها جحش"، و"يا وقعة مربربة"، و"أمسكك السلك عريان"، و"يا جوافة المستكاوي" و"قزقز لبه" وغيرها.

في الجزء السادس والأخير، شارك حسن قناوي أيضاً بدور صغير في "الكبير"، وهو دور "قناوي" الذي يتكلم بلغة "السيم" بطريقة مضحكة. حدثنا عن هذا الدور؟

عادت الصدفة أيضاً لاستخراج لغة مختلفة للشخصية، كنا في "بريك" في بداية تصوير الجزء السادس، واتصل بي صديق من أيام الطفولة اسمه رضيوي، وكنا اعتدنا على الحديث بيننا بهذه الطريقة لاستعادة ذكريات الطفولة. فسمعني المخرج ومكي وأنا أصرخ في التليفون: "ازيتنك يا واتند عتنمي؟ عاتنمل اتنيه؟" (ازيك يا واد عمي؟ عامل ايه؟) فأصابهم الذهول. وقررنا تجربتها لما عرفوا تمكني منها. جربناها في الفرح الأول، وعندما نجحت ثبتها المخرج للشخصية. لكن "السيم نفسه" ليس من اختراعي أو صعيدي، فقد كان منتشراً في مصر منذ الأربعينيات تقريباً، ولا أعرف مصدره رغم بحثي في الموضوع، وقد فوجئت عندما رأيت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة تتكلم بنفس السيم في فيلم "اليتيمتين"، بداية المشاهد مع والدها والفنانة ثريا حلمي.

أنا لا أخترع مفردة أو حكاية، أنا فقط أنبش في التراث وأعيد إحياءه. وحتى أكون على دراية كاملة بالعمل الفني، من إخراج وسيناريو وتصوير، التحقت لمدة عامين، دراسات حرة في المعهد العالي للسينما. فأنا أيضاً بجوار عملي كمصحح لهجة، ممثل، وشاركت في عدة مسلسلات كممثل، ومصحح لهجة في السنوات الأخيرة.

"اللهجة الصعيدية ليست نصاً مقدساً"

كيف تعمل على الحوار في تصحيح اللهجة، وما القدر المسموح لك به في التدخل في تغييره؟

اللهجة الصعيدية ليست نصاً مقدساً، ولم نأت هنا لنعلم الناس وندرس لهم، هذا أكبر درس تعلمته من الكاتب الراحل محمد صفاء عامر، عندما رأى إصراري وتشبثي طوال الوقت بتنفيذ كل ما يُقال بالحرف الواحد، وكنت لا أراعي أية ظروف أخرى، ما أفسد أحد المشاهد الخارجية أثناء التصوير في آخر لحظات الشروق، وبسبب كسرة في كلمة "تستاهل" نطقها الممثل، طلبت إيقاف التصوير فوراً، ما كلف الجميع يوم تصوير إضافي. يومها تعلمت درساً جديداً في الاحترافية في العمل، ولا يمكن أن أنسى نظرة عتاب الفنانة القديرة عبلة كامل في مشهد كان من المفترض أنها تبكي على ابنها المقتول، ومع نزول دمعتها قالت: "ابني"، فقولت: "ستوب"، لأنها المفروض تقول "ولدي"، فصرخ الجميع بصوت واحد: "حرام عليك كانت تعدي".

ليست مبالغة مني التدقيق في كل التفاصيل، هذا ما تعلمته من المخرجين والكتاب العظماء الذين عملت معهم، فذات مرة أعاد المخرج الكبير الراحل محمد فاضل تصوير مشهد طويل، بعد تصويره وإعجاب الجميع به، أثناء تصوير مسلسل "هدى شعراوي". فبعد مشاهدة المخرج للمشهد مرة أخرى، وجد سيدة القصر الارستقراطية تنادي على خولي القصر الذي كنت ألعب أنا دوره، وتقول له: "أنت يا زفت يا اللي اسمك همام". وهنا كان الخطأ الذي اكتشفه المخرج، فالزفت أحد مشتقات البترول الذي تم اكتشافه عام 1933 بينما تدور الأحداث بين عامي 1910/ 1920. وهذا هو الفارق بين مخرج يحترم عقلية المشاهد. ومخرج آخر غير مهتم بالتفاصيل. وهذا ما تعلمته وأحاول تطبيقه في كل عمل. ودائماً أقول: "يا جماعة كل واحد يكتب ويعمل اللي يعرفه".

"عبد الله غيث، أفضل من تحدث بالصعيدية، والفنان يحيى الفخراني كذلك، ومن الجيل الجديد الأفضل على الإطلاق هي دنيا سمير غانم التي أدهشتني بتحدثها باللهجة الصعيدية كأنها مولودة في نجع في قنا"

لا يمكن أن يؤلف كاتب مسلسلاً عن الصعيد وهو ليس منه، ولا عن بدو سيناء أو الواحات وهو لا يعرف لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فقد عملت مع مؤلف ومخرج في عمل ما ووجدت أن هناك 7 حلقات مبنية على تفصيلة غير حقيقية بالمرة عن الثأر في الصعيد، وأن أم القتيل استأجرت رجلاً من خارج العائلة لتأخذ بثأر ابنها، وهذا لا يمكن أن يحدث، واضطر المؤلف والمخرج لإعادة الحلقات وتغيير الأحداث بسبب خطأ بسيط.

لقد اختبرت معاناة الممثل مع مصحّح اللهجة، عندما قمت في مسلسل "دهشة" بدور أحد شيوخ القبائل في واحة سيوة، وأحضروا لي مصحّحاً للهجة، وعن نفسي أرتاح للعمل مع الممثلين الجدد، يؤدون دور الصعيدي أفضل من الممثل الذي يخلط بين الفلاحي والصعيدي، فيخرج الكلام مشوهاً.

الممثل الجديد يستقبل اللهجة وهو يعلم أنها جديدة عليه، بينما يظن البعض أنه خبير في اللهجات فيكون صعباً في تغيير طريقة نطقه وتعليمه النطق الصحيح، لكن هناك ممثلين لديهم موهبة خاصة في تعلم طريقة النطق السليمة بلكنة صعيدية لا تفرقها عمن تربى في قلب الصعيد، ومكي ودنيا سمير وهشام إسماعيل هم الأكثر تمكناً حالياً في اللهجة الصحيحة على الإطلاق.

كيف ترى تناول المخرجين والكتاب للصعيد وحياته الاجتماعية، بعيداً عن الكلشيهات؟

لازال كتاب ومخرجو الدراما في مصر لم يقدموا الحياة الاجتماعية العادية في الصعيد، بعيداً عن القصص التقليدية، لم نعد نرى نموذج الرجل الصعيدي الحالم الرومانسي مثلاً، لابد أن يظهر متجهماً، ولا نرى أبطالاً أطباء أو مهندسين أو شاعراً صعيدياً إلا في إطار الكوميدي أو التاريخي. رغم أن أغلب شعراء الحب من الصعيد، وخرج منه علماء كبار.

الشباب في القرى هناك من يلبس الجينز والتي شيرت والشورت، ليس جميعهم يرتدون جلاليب وعمم، ويقتل ابن عمه ليأخذ ورث جده، ويبحث عن مساخيط. في الصعيد، يوجد عمال وموظفون وصنايعية، و الناس تخرج وتتنزه وتذهب للسينما وتسهر، يمكنك أن تعبر عنهم وعن حياتهم بشكل صحيح لو كنت مهتماً ولا تستسهل، وتتجه للصورة النمطية.

وماذا عن الصعيد في السينما المصرية؟

"ثمة اختلاف بين تعامل مخرجي وكُتّاب الدراما وبين السينما في استخدام اللهجة في كل الأحوال، وليست الصعيدية فقط، لا يمكن المقارنة بين السينما والتليفزيون من ناحية المشاهد، وعدد ساعات التصوير، أو من ناحية الأسلوب الفني.

هناك مخرجون عظام اهتموا باللهجة الصعيدية، وتركت أثراً في وجدان المشاهد، مثل فيلم "شيء من الخوف"، الذي صحّح لهجته وكتب أغانيه عبد الرحمن الأبنودي، ويمكن أن نعتبره مؤسس مهنة تصحيح اللهجة في السينما والدراما، وكذلك عمله في فيلم "عرق البلح"

رغم ذلك هناك مخرجون عظام اهتموا باللهجة الصعيدية في أعمالهم، ما جعلها بصمة في وجدان المشاهد أكثر من غيرها، مثل فيلم "شيء من الخوف" الذي صحّح لهجته وكتب أغانيه الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي، الذي يمكن اعتباره مؤسس مهنة تصحيح اللهجة في السينما والدراما، وعمل مع كبار المخرجين وكتاب السيناريو، الذين تناولوا الصعيد في أعمالهم، كالتحفة الخالدة "عرق البلح" للمخرج رضوان الكاشف.

في اعتقادي، أهمية العمل وصناعه، وجديته، هي ما تحدد العناصر التي يهتم بها المخرج، وما يمكن أن يغفله أو يتجاهله بالمرة، فهناك أفلام نجحت جماهيرياً وارتبط بها المشاهد المصري، مثل فيلم "العتبة الخضرا"، الذي قدم فيه إسماعيل ياسين واحداً من أجمل أدوراه، لكنه دمر اللهجة الصعيدية تماماً، وهو ما فعله كثيرون غيره، لدرجة أن البعض اعتقد أن الصعايدة يتحدثون بهذه الطريقة المفتعلة المضحكة.

ومن هم أفضل الممثلين تمكناً من اللهجة الصعيدية؟

التمكن من اللهجة موهبة مثل التمثيل، فقد تجد ممثلاً كبيراً لا يجيد التكلم بلهجات مختلفة، فالفنان عادل إمام مثلاً لم يقدم دور الصعيدي ولا مرة.

بينما هناك ممثلون تتلبسهم اللهجة بالفعل، مثل الراحل عبد الله غيث، أفضل من تحدث بالصعيدية، والفنان يحيي الفخراني كذلك، ومن الجيل الجديد الأفضل على الإطلاق هي دنيا سمير غانم التي أدهشتني بتحدثها باللهجة الصعيدية كأنها مولودة في نجع في قنا.

هل يمكن أن يتكرر نجاح عمل آخر عن الصعيد مثل "الكبير"؟

بالنسبة لي أعتبر نفسي قد أخلصت لتراث أجدادي واحترمته، فكافأني التراث بهذا النجاح، وقمت بتعليم ابني وابن شقيقتي تصحيح اللهجة أيضاً، وأحلم بالاهتمام بكل اللهجات المختلفة والمتعددة في مصر، وتطورها، عن طريق جمعها والبحث فيها، ودراستها باعتبارها إرثاً انسانياً خاصاً جداً". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard