شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أنا الحقير المدمّر: تمييع سردية ثنائيات الخير والشر في سينما الأطفال

أنا الحقير المدمّر: تمييع سردية ثنائيات الخير والشر في سينما الأطفال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 14 مايو 202212:59 م

مدخل

تخيلوا مشهداً يجتمع فيه خمسة عشر شريراً، من أشهر أشرار سينما الأطفال وأدبهم، ويشاركون بعضهم البعض بصعوبة مواجهتهم النفسية للأسئلة الأخلاقية التي تدور في أذهانهم حول أدوارهم وأعمالهم الشريرة في قصصهم، وكم هو مقلق أنهم يخسرون المعركة، مرةً تلو الأخرى في وجه قوى الخير. كيف من الممكن أن تجري جلسة دعم نفسية من هذا النوع؟ ماذا سيقول الأشرار لبعضهم البعض؟ ولماذا، بحق الجحيم ورب الأخلاق، لا يمكنهم التمرد على قدرهم المحتم الذي يمليه عليهم دورهم في القصة؟

تخيلوا أيضاً أنهم في نهاية جلسة الدعم، يرتلون معاً ميثاق الشر قائلين:

"أنا شرير، وهذا جيد. لن نكون أخياراً أبداً. وهذا ليس سيئاً. لا أريد أن أكون في دور غير دوري".

ثم يقفز أحدهم ويكسر المفهوم ضمناً قائلاً: "لا أريد أن أكون الشرير بعد الآن!". ماذا قد يحدث حينها؟

في العقدين الماضيين، ظهرت اتجاهات جديدة وثورية في عالم ثقافة الطفل، وخاصةً الأدبية والسينمائية.

حسناً، قد يكون هذا مشهداً افتراضياً تماماً، لكنكم لستم بحاجة إلى تخيّله حقاً، فقد حدث بالفعل في واقع معيّن. كان هذا المشهد هو المشهد الافتتاحي لفيلم Wreck-It Ralph، رالف المدمّر، من عام 2012، من إصدار ستديوهات ديزني. تدور حبكة الفيلم في عالم تعيش فيه شخصيات ألعاب الأركيد (ألعاب الفيديو)، بشكل مستقل، وتملك الشخصيات، الأشرار والأخيار، الوعي الذاتي الكامل داخل اللعبة وخارجها. في بداية الفيلم، يشارك رالف في مجموعة دعم للأشرار ويشاركهم أنه غير سعيد بدوره في اللعبة كشرير، وأنه يريد أن يصبح بطل قصته ولعبته. يجد رالف طريقةً للهروب من تمثيله الدور وطوال الفيلم يحاول تغيير مصيره وتقديم روايته ووجهة نظره لقصة اللعبة، بحيث يكون هو البطل وليس الشرير.

كسر قوالب الخير والشر

في العقدين الماضيين، ظهرت اتجاهات جديدة وثورية في عالم ثقافة الطفل، وخاصةً الأدبية والسينمائية. بعد عقد ناجح ومربح لعملاقة الإعلام للأطفال، شركة والت ديزني، في تسعينيات القرن الماضي، بدأ نجاح الأفلام بالتراجع مع مطلع الألفية. عندها أدركت شركة ديزني أنه من أجل استعادة النجاح الباهر لأفلامها في التسعينيات (فترة تُسمّى بعصر النهضة لديزني)، كان عليها استخدام تقنيات جديدة وثورية في سرد ​​القصص. أحد الاتجاهات الرئيسية في هذه التغييرات هو الميل إلى تحدّي مفهوم الأخلاق الحتمية والتشكيك في ثنائية مفاهيم الخير والشر في أفلامها، والتي لها آثار بعيدة المدى على تصميم شخصيتَي البطل وخصمه الشرير في أدب الأطفال وثقافتهم، وتوصيفهما.

على مدار سنوات طويلة في أدب الطفل وثقافته، تم تقديم القصص من وجهة نظر البطل في القصة. تم تصوير البطل نفسه كضحية لإساءة الشرير، وكشخص أُجبر على الشروع في حملة هروب أو تمرّد أو مقاومة ضد أفعال الشرير وحيله. حكايات ماما إوزة والأخوان غريم وأندرو لانغ، جنباً إلى جنب مع أفلام ديزني الأولى، حتى رالف المُدمّر (Wreck-It Ralph، 2012)، كانت دائماً تعرض قصة بطل القصة في مركز العمل وتتعامل مع شخصية الشرير بشكل مترهل، وتعرضها كشخصية مسطّحة.

كان الفصل بين مفاهيم الخير والشر وخصائصهما، مطلقاً وواضحاً ومعلناً في أدب الأطفال منذ نشأته في الشكل الحديث في القرن الثامن عشر. لكن في العقدين الماضيين، يمكننا ملاحظة اتجاه حاد نحو تغيير هذه المفاهيم وقلبها رأساً على عقب، من خلال التشكيك في هذه الازدواجية الحتمية المعلنة بين الخير والشر. كتب أطفال مختلفة، مثل "قصة الذئب" لفوروارد وكوهين (2005)، وسلسلة "جماعة الأشرار" لبلابي (2016)، وسلسلة "أرض الحكايا" لكريس كولفر (2013-2017)، إلى جانب أفلام الأطفال مثل "أنا الحقير" (Despicable Me، 2010)، وفيلم "ماليفسنت" (Maleficent، 2014)، هي فقط جزء صغير من الروائع الأدبية والسينمائية المعاصرة التي يعشقها الأطفال وتقدّم الخصم، الشرير، كشخصية واعية لشرّها في ضوء إيجابي، بل أكثر من ذلك، كشخصية تتغلب على البطل وتوبّخ إخلاصه ولطفه.

كان الفصل بين مفاهيم الخير والشر وخصائصهما، مطلقاً وواضحاً ومعلناً في أدب الأطفال منذ نشأته في الشكل الحديث في القرن الثامن عشر. لكن في العقدين الماضيين، يمكننا ملاحظة اتجاه حاد نحو تغيير هذه المفاهيم وقلبها رأساً على عقب، من خلال التشكيك في هذه الازدواجية الحتمية المعلنة بين الخير والشر

وهذا يعني أنه في الواقع يمكن القول إن كسر القوالب الفعلي لا يتعلق بكسر مفاهيم الخير والشر، إنما بكسر الأنماط الأخلاقية والمعنوية لشخصية البطل وشخصية الخصم، أي البطل والشرير. هذه هي الطريقة التي يتم بها التعبير عن قلب الأدوار بين البطل والشرير، وهذه هي الطريقة التي تركز بها الحبكة على إمكانية كون الشرير هو الضحية الحقيقية في القصة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن وجهة النظر في القصة تتغير وجوانب البطل والخصم تنقلب، وقصة البطل لا تكون في هذه الحالة في مركز الحبكة، بل تستبدلها شخصية الخصم الشرير التي تستلم بنفسها دور الراوي للقصة. بهذه الطريقة يسمع الجمهور رواية الشرير للأحداث، كشخص يرى نفسه ضحيةً، للمرة الأولى، بعد سنوات طويلة كنا قد سمعنا فيها، بشكل حصري، رواية الأبطال للأحداث فحسب. هكذا تولد، فعلياً، ثقافة سردية الشر.

يقدّم أدب عالم الأطفال وسينماهم، فصلاً حتمياً بين الخير والشر، بين الفقراء والأوغاد، وبين أولئك الذين يحاولون السير ضمن المألوف وأولئك الذين يسعون إلى الإخلال بالنظام الاجتماعي والإضرار به. وهكذا، على سبيل المثال، في قصة "ليلى الحمراء والذئب"، من الواضح أن ليلى الحمراء والصياد هما الشخصيتان اللتان تمثّلان الخير (إذ تكون ليلى الحمراء هي الضحية المسكينة والصياد هو البطل المنقذ)، بينما الذئب هو الخصم الشرير. أيضاً في فيلم ديزني "الجملية والوحش" (1991)، هناك فصل واضح بين البطلة بيل، الحسناء الجميلة، والخصم، ممثل الشر، غاستون، الذي يسعى إلى فرض نفسه على بيل وإيذاء الوحش. مثال آخر في فيلم "حورية البحر الصغيرة" (The Little Mermaid، 1989)، حيث تكون أورسولا، هي الساحرة الشريرة التي تسعى إلى إيذاء آريئيل، وتأخذ صوتها بينما آريئيل هي البطلة الطيبة والمسكينة التي تصبح ضحيةً لأعمال أورسولا الإجرامية. في كل هذه الحالات كما في حالات أخرى، هناك الخير وهناك الشر، وما يفصل بينهما هو عمل إجرامي، القتل المتعمد، أو الإكراه على الزواج، أو الاستشفاء الاحتيالي عن طريق الإكراه والاحتيال والاستعباد. إن الجريمة هي التي تخلق الخط الفاصل بين البطل الطيب الذي يكون عادةً ضحيةً، وبين الخصم الشرير المجرم، والمعتدي.

وهذا يعني أنه في الواقع يمكن القول إن كسر القوالب الفعلي لا يتعلق بكسر مفاهيم الخير والشر، إنما بكسر الأنماط الأخلاقية والمعنوية لشخصية البطل وشخصية الخصم، أي البطل والشرير.

نماذج البطل المخالف للعرف والبطل التراجيدي

فيلم مثل "رالف المدمّر" (Wreck-It Ralph)، أو "أنا الحقير" (Despicable Me)، هما أبرز الأمثلة في سينما الأطفال العالمية. لكن فحص كل منهما على حدة، يكشف لنا آليتين مختلفتين لقلب الأدوار، ويمكننا رؤيتها كذلك في كافة السياقات السردية الأخرى.

"أنا الحقير"، كما يوحي اسمه، يحكي قصة غرو، الشرير الحقير المتخصص والمتفوّق في الشر، الذي يتبنى ثلاث فتيات يتيمات كجزء من خطة لسرقة القمر. في الفيلم، يبدأ غرو بالتعرف إلى الفتيات، ومع مرور الوقت يصبح أكثر لطفاً وعاطفيةً تجاههن. وهكذا، يحكي الفيلم قصة شرير خارق تعلم أن يتعرّض لصفات الخير، التي تتفوق على ميزات الشر ومفاهيمه في قلبه، أي أن الفيلم يحكي قصة تلطيف شخصية الشرير وتحوّله إلى بطل.

في الخطاب الأدبي، يمكننا أن نزعم أن شخصية غرو، هي تمثيل مخلص لمفهوم الشخصية المضادة للبطل، أو شخصية البطل المخالف للعرف (Antihero)، إذ إن صقله كشرير يعزز الادعاء منذ البداية بكونه شريراً خارقاً، فشل في كونه شريراً. جذور البطل المخالف للعرف مغروسة في عالم العبثية، إذ يتحوّل فيه البطل إلى محدود القدرات ويظهر بمظهر بشع ومثير للسخرية ويجسد انهيار المُثل الاجتماعية. إن تمثيلات من هذا النوع معروفة جيداً في أدب الأطفال، خاصةً في شكل شخصية غرينش من الكتاب الكلاسيكي للدكتور سوس، "الغرينش الذي سرق الميلاد" (1975).

مقارنةً بغرو، البطل المخالف للعرف، الذي يمثّل بوضوح هذا التعريف، يصعب وصف رالف المدمّر بأنه شخصية بطل مخالف للعرف، وأصعب من ذلك وصفه كشخصية شريرة. فهو ليس بطلاً تقليدياً، ولا بطلاً مخالفاً للعرف بشكل واضح، وليس شريراً حقيقياً حتى. منذ بداية الفيلم، أوضح لنا رالف أنه ليس سعيداً بدوره، وأنه غير راضٍ عن وظيفته في اللعبة التي يقوم فيها فقط بدور الشرير. لهذا السبب، يشعر رالف بأن دوره في اللعبة يؤثر بشكل متزايد على حياته ويشعره بالوحدة. الغرابة والمفارقة الأخلاقية اللتان تميّزان غرو، فضفاضتان جداً في شخصية رالف. هذا ملحوظ حتى في شكلية تصميم الشخصية، إذ إن هيكل جسم غرو غير موحّد ووجهه مشوّه ليشبه وجهاً خبيثاً وشريراً بأنف طويل، بينما رالف يبدو مبتسماً، ورقيقاً ولطيفاً، على الرغم من حجم جسمه الكبير.

في الواقع، يمثل رالف صورةً أخرى لهذا اللا بطل، وهو البطل المأساوي. أي ذلك البطل الذي يهيمن قدره على حياته ويقوّض مكانته وروحه، لذلك يشرع في البحث عن دور أو تمثيل نموذجي جديد ينجو فيه من قدره. بمعنى آخر، يشرع البطل المأساوي في رحلة لإثبات نفسه مما كُتب أو قُدّر له، بالضبط كما يفعل رالف في الفيلم، إذ يحاول الهرب من مصيره الحتمي بأن يبقى شريراً، وهذا الأمر بالضبط ما لا يفعله غرو، بل إنه يكافحه معتقداً أن براءته من الشّر تعيبه.

إذاً رالف وغرو يمثلان نوعين مختلفين من اللا بطل، وقد تم منحهما مكانةً مركزيةً في ثقافة الطفل المعاصرة، وأصبحا شخصيتين رئيسيتين في ستوديوهات أفلام الأطفال المختلفة. نتيجةً لنجاح أفلامهما، شرعت ديزني في رحلة مفعمة بالاستثمارات لمحاولة إعادة سرد قصص الأشرار وتصويرهم كضحايا لطفولتهم أو لظروفهم المعيشية. على سبيل المثال، في فيلم "ماليفسنت" (Maleficent، 2014)، نكشف على قصة حياة الساحرة الشريرة (الجنية)، من فيلم الأميرة النائمة الكلاسيكي (Sleeping Beauty، 1959). يدّعي الفيلم الجديد أن الساحرة كانت بشكل عام جنية خير، وأنها قامت بحماية الحيوانات العجيبة التي عاشت بجوار مملكة الإنسان، حتى خانها الأمير وقطع جناحيها. أي أن الفيلم يدّعي أن أفعالها الشنيعة والشريرة في الفيلم الكلاسيكي، حدثت فقط لأن الأمير الذي أصبح ملكاً خانها، وهي تنتقم منه على ما فعل. يصوّر هذا الفيلم الشريرة على أنها بطلة تراجيدية أكثر من كونها بطلةً مخالفةً للعرف، إذ إن قصة أصولها تعرض عبثاً مأساوياً لا يمكن استرداده من دون انتقام.

باختصار، قصص البطولة والطيبة الواضحة والمطلقة لطهارة القلب، نزحت عن منصة ثقافة الطفل الشعبية وتركتها لقصص أصول الأشرار

في العام الماضي (2021)، أصدرت ديزني فيلماً جديداً بعنوان "كرويلا" (Cruella)، بهدف تكرير نجاح فيلم "ماليفسنت"، لتروي قصة أصول شريرة أخرى، هي بالطبع كرويلا، من فيلم "مئة مرقش ومرقش" (101 Dalmatians، 1961). كرويلا معروفة كواحدة من أكثر الشخصيات قسوةً في ثقافة الأطفال، لأن الدافع وراء شرها هو الجشع المطلق. في الفيلم الكلاسيكي الذي يستند إلى كتاب يحمل الاسم نفسه، مئة مرقش ومرقش (دودي سميث، 1956)، يُحكى أن كرويلا تتمكن من صيد 101 من الكلاب الدلماسية (المرقشة)، بهدف سلخها وصنع معطف من فروها. الفيلم الجديد يناقش أصول الجشع عند كرويلا، وسر افتتانها بعالم الموضة والأزياء، ولكنه لا يعالج قسوة قلبها وشرها إلا بالإشارة والتلميح. ولكن حتى هذا التلميح لا يوجّه قسوتها نحو الكلاب نفسها. في الفيلم، تنبع كل القسوة في قلب كرويلا من الرغبة في الانتقام من ربة العمل التي قتلت والدتها. أي أن الفيلم يعرض، مثل ماليفسنت، محاولةً لتبرير القسوة وإيجاد تفسير منطقي لها، من دون نجاح مقنع هذه المرة. إذاً يمكننا الادعاء بأن كرويلا أكثر تشابهاً مع شخصية غرو، فهي بطلة مخالفة للعرف بالمعنى الكامل للتعريف.

باختصار، قصص البطولة والطيبة الواضحة والمطلقة لطهارة القلب، نزحت عن منصة ثقافة الطفل الشعبية وتركتها لقصص أصول الأشرار. تجادل الباحثة ماندراشيا (Mandracchia، 2019)، في دراستها، في أن هذا الاتجاه لعكس صورة الشخصيات الشريرة وأخلاقياتها، ليس أكثر من نشاط تسويقي تقوم به شركة ديزني لإعادة إحياء مبيعات أفلامها الكلاسيكية، وتخصيبها. أي الاعتماد على خط تسويق جاهز بالفعل، ولا يتطلب سوى إنتاج الشخصية الشريرة التي لديها بالفعل العديد من المعجبين حول العالم، من أجل زيادة مبيعات البضائع والمنتجات الاستهلاكية ذات العلامات التجارية المعروفة. فمثلاً عند التسويق لفيلم كرويلا، تمت إعادة تسويق فيلم "مئة مرقش ومرقش"، وبيع العديد من ألعاب شخصياته، مما أعاد الفيلم إلى خط التسويق وإلى رفوف متاجر الألعاب.

في نهاية المطاف، نذكر أن اللا أبطال في ثقافة الأطفال، نجحوا في احتلال سينما الأطفال وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من هذه الثقافة. تمكّن الأبطال المُخلّون بالعُرف من نموذج غرو وكرويلا، والأبطال التراجيديون من نموذج رالف وماليفسنت، من استبدال البطل التقليدي، وهذا كله في سياق الحرب على السردية وعلى مكانة الراوي التي أخلاها موت المؤلف. ونتيجةً لهذا الحراك المفصلي في ثقافة الأبطال، نشهد مولداً جديداً لسردية الشرير وعرضه كضحية لظروف حياته.

حتى الآن، تطرّقت إلى هذه السردية، فقط من خلال التطرق إلى عالم الطفل وسينما الأطفال، ولكن بنظرة شاملة وواسعة نحو الميديا العالمية، يمكننا مشاهدة الكثير من الأشرار الذين أصبحوا أبطالاً ثقافيين

إسقاطات ثقافة سردية الشر

حتى الآن، تطرّقت إلى هذه السردية، فقط من خلال التطرق إلى عالم الطفل وسينما الأطفال، ولكن بنظرة شاملة وواسعة نحو الميديا العالمية، يمكننا مشاهدة الكثير من الأشرار الذين أصبحوا أبطالاً ثقافيين. أول ما يخطر في البال في السنة الأخيرة هما مسلسلا نيتفليكس حول المحتالَين، "سايمون لفايف" (محتال التندر، 2022)، و"آنا سوروكين" (ابتكار آنا، 2022)، إذ تحوّل كلاهما إلى بطلين في مسلسلات، تعرضهما بصورة كاريزماتية وكأنها تسعى إلى خلق التعاطف معهما ومع مهارتهما في الاحتيال. سبق هذه المسلسلات غيرها الكثير، مثل "لا تعبث مع القطط: اصطياد قاتل الإنترنت" (2019)، و"ملك النمر: القتل، الفوضى والجنون" (2020)، والتي خلقت بطولات ثقافيةً تتمثّل في تعنيف الحيوانات والقسوة البشرية ضدها. لم تظهر هذه الظاهرة فقط في مجال المسلسلات التلفزيونية، بل السينما كذلك تقوم بهذا النشاط منذ سنوات طويلة في قصص أفلام الرعب التي تحاول تبرير محفّزات القتل عند الأشرار، أو في الأفلام البوليسية التي تخوض في نفسية الشر وقد ترقص على حدود تبريره أحياناً. أذكر في هذا السياق طبعاً، فيلم الجوكر (2019)، الصادر مؤخراً والذي يعرض شخصية المجرم القاتل الضاحك المجنون كبطل قومي ثائر في نهاية المطاف.

سردية الشرّير ليست جديدةً على الأدب، ولا على السينما أو السياسة، ولكنها بالفعل جديدة على عالم الأطفال وثقافتهم، وأطفال اليوم هم أدباء الغد وسينمائيوه وساسته.

ولكن هناك ذكرى أخرى علينا تذكرها في هذا السياق. قد تبدو بعيدةً، إلا أنها أقرب مما نتخيّل، وهي طبعاً ذكرى فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتّحدة الأمريكية. ترامب هو شخص وقح ومؤذٍ وجشع، ومعروف بالذات بهذه الصفات. وبالرّغم من كل هذا فقد تمكّن من تسويق هذه الصفات كلها على أنها صفات ضرورية للقيادة القوية الشديدة. صفات ترامب الشريرة حوّلته إلى بطل ثقافي يتمكّن من تجنيد حيله وبطشه للتغلّب على منافسيه في عالم الصراع الرأسمالي الذي يعيش فيه. هذه الصّفات هي ذاتها الصفات التي حوّلته إلى رجل أعمال ناجح، وأعادت صياغة مفهوم النجاح المادي والنجاح الاقتصادي كنجاح يتم فقط بكون الشخص يتصرّف بهذه الفظاظة.

هل هناك علاقة مباشرة بين سردية ترامب كبطل ثقافي وصل إلى كرسي رئاسة الولايات المتحدة، وبين تغيير بؤرة سردية قصة الأطفال؟ لا أعتقد أن هذا الربط جائز بهذه الصورة، ولكن جل ما أقترحه، هو أن تغيير صورة السردية لمفاهيم الخير والشر تتغيّر في العالم بمفهوم أوسع. يمكننا مشاهدتها في عالم الأطفال، كما في عالم التلفاز والسينما، وكذلك في عالم السياسة العالمية.

قرّاء الأدب الروسي النهمون، يعرفون هذه التقنيات السردية مذ أصدر فيودور دوستويوفسكي، "الجريمة والعقاب"، أو "الإخوة كارامازوف" التي تخوض في نفسية القاتل وتتعاطف معها. أو كذلك في كتاب "لوليتا" لفلاديمير نابوكوف، الذي يتحايل على القارئ ليولّد عنده تعاطفاً مع شخصية هومبرت المهووس جنسياً بالطفلة دولوريس.

سردية الشرّير ليست جديدةً على الأدب، ولا على السينما أو السياسة، ولكنها بالفعل جديدة على عالم الأطفال وثقافتهم، وأطفال اليوم هم أدباء الغد وسينمائيوه وساسته. وهنا ما لنا إلا التساؤل: ماذا ستكون إسقاطات هذا التمييع لمعايير الخير والشر من خلال قلب المفهوم السردي للبطل؟ وهل كل هذا التغيير هو مجرّد إسقاط لثقافة نيوليبرالية تقدّس القسوة والشر، أم أنها شوائب عصر ما بعد حديث، لا يعترف بحتمية الخير والشر؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard