شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من يوميات محررة صحافية

من يوميات محررة صحافية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 24 أبريل 202202:47 م


أفكر في كتابة هذه المادة منذ أشهر، وفي كل مرة أؤجل العمل لانشغالي على الأغلب بالرد على عشرات الإيميلات. اليوم، قررت أن أزيح عن كاهلي هذا العبء، لأتحدث عن "بعض أوجه معاناتي مع مهنة التحرير الصحافي"، وما حفّزني على ذلك إيميلان وصلاني خلال الفترة الماضية، الأول من "صحافية" لم يعجبها أنني طلبت منها تفاصيل حول موضوع معيّن لتكون مادتها أكثر غنى وأهميةً للقراء، فامتنعت نهائياً عن نشرها لأن ذلك يبدو أسهل من أن تبذل المزيد من الجهد، والثاني من "صحافي" وبّخني لأنني لم أفهم ما هي الفكرة التي يريد أن يكتب عنها، والتي "تعذّب" كثيراً في شرحها.

للأسف، هذه نماذج أصادفها بشكل دوري مذ بدأت بالعمل في مهنة التحرير، قبل قرابة عام ونصف، مع صحافيين وصحافيات من مختلف البلدان العربية. للأمر أسباب كثيرة على ما أعتقد، على رأسها كون مهنة "المحرر الصحافي" غير واضحة المعالم في أذهان كثيرين، حتى في أذهان بعض الصحافيين. فالبعض يعتقدونه مدققاً لغوياً، وآخرون ينظرون إليه على أنه مسؤول عن إعادة صياغة موادهم، وربما كتابتها، وبالطبع هناك كثر ممن يعرفون أن مهمة المحرر لا تتضمن أن ينوب عن الكاتب، وإنما أن يشذّب له مواده، ويضمن خلوّها من أنواع الأخطاء جميعها، وتوافقها مع أساسيات المعايير الصحافية والسياسة التحريرية للوسيلة الإعلامية.

"الصحافيون" الذين سأكتب عنهم قلّة، لكن وجودهم كافٍ لاستنزاف أعصاب المحررين والمحررات، وجعل أيام عملهم أصعب بكثير.

وبقدر ما أستمتع بتفاصيل هذا العمل، وأكتسب منه خبرةً يندر الحصول عليها في مجالات أخرى، وأتعرّف إلى صحافيين رائعين وأتبادل معهم مختلف أنواع الخبرات، بقدر ما أتعرض لمواقف قد تكون قليلةً، لكنها تدفعني، كما فعلت يوم أمس، للاتصال بأحد أصدقائي وسؤاله: "هل أنا فعلاً معقّدة إلى هذه الدرجة، وحاملة السلم بالعرض، وأطالب الصحافيين بما هو غير مطلوب أساساً؟".

لا يهدّئ من مخاوفي هذه سوى صديقة تمارس المهنة منذ نحو ثلاثين عاماً، وقد أسرّت لي قبل أيام، بأنها لم تتوقع انحدار مستوى العمل الصحافي في العالم العربي إلى هذه الدرجة، لكنها وقعت قبل فترة على نماذج لأعمال قبل أن يتم تحريرها ونشرها، وكانت صدمةً كبيرةً بالنسبة إليها. "على أيام الصحافة الورقية، هذا المستوى من المواد كان فوراً يُرفض ويستحيل نشره، وأي مادة تستغرق في تحريرها أكثر من نصف ساعة، هي ليست مادةً جديرةً بالنشر. الصحافة مسؤولية"، تقول لي.

اليوم، قررت أن أحكي بعضاً من حكايات كواليس عالم التحرير الصحافي هذه الأيام. بالطبع الأمر أبداً ليس للتعميم، و"الصحافيون" الذين سأكتب عنهم في السطور اللاحقة، قلّة، لكن وجودهم كافٍ لاستنزاف أعصاب المحررين والمحررات، وجعل أيام عملهم أصعب بكثير.

الصحافيون "اللي بيزعلوا بسرعة"

أول النماذج هم الصحافيون "الحساسون". بعضهم "ما بيلقى كلمة"، كما نقول في العامية السورية، وإن تجرأ المحرر وطلب منهم تعديلاً، أو شرحاً، أو إضافةً، "يقلبون الطاولة"، ويمتنعون عن إتمام المادة وحتى عن نشرها، على الأغلب لأن كبرياءهم قد جُرح.

البعض يلقون باللوم على المحرر، لأنه "لم يفهم عليهم"، وآخرون يستنكرون "كثرة طلبات المحررين". أحياناً أشعر وكأن بعض الصحافيين يعتقدون بأن بينهم وبين المحررين ثأراً شخصياً، وإلا لم يطلب منهم المحرر "كثير الغلبة"، هذه الطلبات كلها، مثل ذكر المصادر، وإضافة فقرتين إلى سياق الموضوع وخلفيته، وأعمار المتحدثين وأماكن سكنهم، بل وحتى وضع عناوين فرعية!

صحافيون يعتقدون أنفسهم "هيكل"

هذا نموذج يتقاطع مع النموذج الأول، لكن هنا بعض الصحافيين يرون أنفسهم "أهم من عليها"، فيحدث الزعل إن تجرأ المحرر على تغيير بعض الكلمات، أو تعديل بعض الأخطاء.

بالتأكيد من المفهوم أن يحرص الصحافي على صياغاته التي تعب عليها، وعباراته التي أفترضُ أنه أمضى وقتاً لا بأس به في كتابتها، لكن أن يصرّ البعض على أن المحرر غيّر عبارات كانت صحيحةً وبدّلها، ليجعلها خطأً، فلا أملك هنا سوى أن أقول عبارةً تتردد دائماً على لسان أحد أصدقائي المحررين المتعَبين: "الله يتوب علينا من هالمهنة".

تكمن المشكلة برأيي في استسهال العمل الصحافي من قِبل كثيرين، وهو أمر له عوامل عدة، منها تدنّي مستوى النشر في العقد أو حتى العقدين الأخيرين، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وبروز مهن جديدة بعيدة عن الصحافة، وما تحمله في طياتها من مسؤولية باتت للأسف تغيب عن بال البعض

صحافيون "حرامية"

حقيقةً، هذه الفئة مسلية بالنسبة إلي. معظم المواد التي أعمل على تحريرها، تمرّ بمجموعة إجراءات لأتأكد من أنها "غير مسروقة" من مكان آخر، وما أسهل ذلك اليوم. لأكون منصفةً، ليست كثيرةً على الإطلاق حالات السرقة الصحافية التي واجهتها، لكن ما يسلّي هي ردود أفعال الصحافيين عندما أرسل إليهم روابط المواد الأصلية، وتبريراتهم الغريبة، ومنها مثلاً أن المتحدث (الذي كان اسمه في المادة الأصلية أحمد، وفي المادة الجديدة مصطفى)، قال العبارات نفسها بالحرف لصحافيين مختلفين، ولا ذنب للصحافي المسكين في ذلك.

أحب أن أنصح هذه الفئة بأن تكون أكثر احترافيةً، فلا بأس ببذل بعض الجهد في تغيير الصياغات، كي يعجز "غوغل" وغيره من مواقع كشف التلاعب والاحتيال، عن التعرّف على حالات السرقة هذه.

صحافيون كسولون

أستغرب أحياناً حين أفتح مادةً وصلتني للتو، وأبدأ بقراءتها، لأكتشف بعد مقطعين أو ثلاثة، أنها مليئة بأنواع الأخطاء كافة، اللغوية والإملائية والقواعدية والمفاهيمية.

أتفهم بكل تأكيد أن الجميع لا يمتلكون السوية نفسها في اللغة العربية والقدرة على الكتابة بها والتعبير من خلالها، لكن يصعب عليّ أن أتفهم "كسل" صحافيين لا يبالون بإرسال مواد أنا متأكدة من أنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء مراجعتها مرةً واحدةً، ومن دون أدنى شعور بالخجل. ولم ذلك؟ فلدينا الأستاذ المحرر ومهمته تصحيح أخطائنا مهما كانت فادحةً.

لا أتفهم "كسل" صحافيين لا يبالون بإرسال مواد لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء مراجعتها مرةً واحدةً.

صحافيّون يربّحون المحرر "جميلة"

ذات مرة، استلمت إيمايلاً كتب فيه الصحافي: "مرحبا زينة، أرسل إليك المادة التي تعبت عليها كثيراً، واضطررت إلى أن أقرأ أكثر من مرجع لأنجزها". الله يعطيك العافية أستاذ، لكن أليس من الطبيعي أن تقرأ بعض المراجع لإنجاز معظم المواد الصحافية؟

هذا ما نسميه في العامية السورية "تربيح جميلة"، أي إشعار الطرف الآخر بأنني قدّمت إليه خدمةً هائلةً، في حين أنني قمت بأمر طبيعي للغاية.

تكمن المشكلة هنا برأيي في استسهال العمل الصحافي من قِبل كثيرين، وهو أمر له عوامل عدة، منها تدنّي مستوى النشر في العقد أو حتى العقدين الأخيرين، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وبروز مهن جديدة منها على سبيل المثال "منشئ المحتوى"، الذي يرى أنه قادر على كتابة مقالات ونشرها من خلال تجميع معلومات من هنا وهناك، وطبعاً مع كامل الاحترام لكل هذه المهن، إلا أنها بعيدة عن الصحافة، وما تحمله في طياتها من مسؤولية باتت للأسف تغيب عن بال البعض.

كل يوم أسأل نفسي: "إن كنت عزيزي/ عزيزتي لا تملك/ ين أبسط أدوات الصحافة، لماذا تصرّ/ ين على العمل في هذه المهنة المتعبة؟". وحقيقةً، لا أجد جواباً.

أحياناً أشعر وكأن بعض الصحافيين يعتقدون بأن بينهم وبين المحررين ثأراً شخصياً، وإلا لم يطلب منهم المحرر "كثير الغلبة"، هذه الطلبات كلها، مثل ذكر المصادر، وإضافة فقرتين إلى سياق الموضوع وخلفيته، وأعمار المتحدثين وأماكن سكنهم، بل وحتى وضع عناوين فرعية!

صحافيون لا يتقنون أدنى مهارات التواصل

التساؤل السابق يقودني إلى سؤال آخر: كيف يعمل في الصحافة من لا يتقن أدنى مهارات التواصل؟

أستلم كل يوم تقريباً إيميلات من دون عنوان، ومن دون محتوى، فيها أحياناً مجرد ملفّ من دون اسم. وفي العودة إلى الصحافيين الحساسين، فإن "صحافية" زعلت مني ذات مرة حين طلبت منها التعريف بنفسها، بعد أن أرسلت إليّ من إيميل عنوانه لا يحوي سوى حروف وأرقام.

لا أدري هنا حقيقةً على من يقع اللوم؛ على مؤسساتنا التعليمية، أو على المؤسسات الصحافية، أو على الصحافيين أنفسهم، وجزء منهم لا يهتم على الإطلاق بتطوير مهاراته لتواكب أدنى ما هو مطلوب اليوم في عصر الإنترنت؟ وهنا أتحدث عن صحافيين وصحافيات معظمهم من جيل الشباب، وجيل الخريجين الجدد، وليس الجيل الأقدم الذي قد نبرر له عدم مواكبته تقنيات اليوم.

علمتني الصحافة الصبر، والكثير من الصبر، وأيضاً التواضع، وهي قاعدة أخذتها من الصحافي الكبير رياض نجيب الريس، وأعلّقها "حلقةً في أذني". يقول: "إياكم والغرور. الغرور مقتل الصحافي". بالطبع لا أدّعي أنني صحافية أو محررة استثنائية، خاصةً وأن خبرتي في هذين المجالين، الصحافة والتحرير، ما تزال متواضعةً، لكنني أعلم بأنني أسعى إلى الحرص على أخلاقيات هذه المهنة التي أحب وأساسياتها، وهي المهنة التي اخترت العمل فيها بكل قناعة وشغف.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard