شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"المَشْيّ طاب- لها والدقّ على طبلها"*... نساء يوقظن الصائمين من النيل إلى الفرات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 20 أبريل 202210:32 م

لا يكاد شارع مصري يخلو من صوت جميل يشق الليل في رمضان، ليعلن عن موعد وجبة السحور واقتراب آذان الفجر.

قد يكون الصوت صادراً عن فرد أو فرقة صغيرة من الرجال أو الأطفال، أو اجتماع الاثنين معاً، يدورون بعد ساعات من انتصاف الليل معلنين عن أنفسهم بدقات مميزة على طبلة صغيرة. لكن المهنة الموسمية التي ظلت قروناً طويلة حكراً على الرجال، تشهد منذ سنوات قلائل تواجداً نسائياً، من اللافت أنه لا يقتصر على مصر وحدها، وإنما بات يظهر في مناطق متفرقة من العالم العربي.

دلال... مسحراتية القاهرة

"يا ولاد حارتنا اتلموا... شوفوا رمضان، شوفوا خفة دمه... بر وتقوى... مدفع يضرب" بتلك الكلمات التي غنتها قبل عقود الفنانة الراحلة هدى سلطان، يسرى صوت أنثوي وقت السحور بشوارع حي المعادي جنوب القاهرة، ليعلن عن وصول دلال عبد الحميد المسحراتية.

تعلق دلال بدور المسحراتي بدأ عندما كان يصحبها شقيقها الذي مارس هذا الدور في طفولتها، خلال جولاته في رمضان، حتى لقي ربه في 2011 قبل رمضان بشهر واحد.

المهنة الموسمية التي ظلت قروناً طويلة حكراً على الرجال، تشهد منذ سنوات قلائل تواجداً نسائياً، من اللافت أنه لا يقتصر على مصر وحدها، وإنما بات يظهر في مناطق متفرقة من العالم العربي

تقول دلال لرصيف22 أنها وجدت نفسها تمسك طبلة أخيها وتدور حيث كان يدور في شوارع المعادي، أرادت أن تبقي على التقليد حياص، وكأنها وسيلتها للتواصل مع شقيقها الراحل: "صدمة الفراق كانت السبب الرئيسي، عندما غاب المسحراتي عن الشارع وجدت نفسي تلقائياً دون أن أشعر، أحمل طبلته وأقلده وأغني أغانيه، وفوجئت بتشجيع كبير من أهالي المنطقة".

لدلال مفهوم خاص عن دور المسحراتي "التسحير لا يعني أن تسير بطبلة في الشارع، ولكن هناك دور في الحفاظ على التراث"، مبينة أنها لا تبتكر أو ترتجل، ولكنها تنشد الأغاني التراثية، لتجد أن الأطفال حفظوا الأغنية وبدأوا يرددونها، ويطلبون منها إعادتها لهم، والمناداة على الأسماء، "الأطفال إذا نسيت اسم أي منهم يخرج من النافذة ويذكرني باسمه لأردده". ولاتساع حي المعادي، تلجأ دلال إلى تقسيم الحي إلى جزأين، وكل يوم تتجول في جزء مختلف.

وحول علاقة مهمتها كمسحراتية وعائلتها، بينت أنها واجهت اعتراضات في البداية من أسرتها نظراً لكونها مهنة شاقة، وأنهم كانوا يرون شقيقها يأتي مجهداً، ولكنهم عندما وجدوا تعلقها بمهنة التسحير تركوها وما تحب.

وأشارت عبد الحميد، أن مهنتها لا تعني التقصير في أداء في تحضير السحور لأسرتها، إذ تبدأ جولاتها عند منتصف الليل، وتعود قبل أذان الفجر بساعة لتحضر الطعام لأولادها، ولهم نصيب من مهنتها، حيث تبدأ تجهيز السحور بالنداء على أسمائهم.

وتوضح مسحراتية القاهرة، أن مهمتها الرمضانية لا تمر من دون فواتير، تدفعها من غياب صوتها بعض الأيام وتورم قدميها في أيام أخرى.

تختم دلال التسحير كل عام ليلة الوقفة، وتلتقط الصور مع من يريد وتقبل العطايا التي يمنحها الناس "عن طيب نفس"، لكنها لا تطوف لطلبها، كما لا تطوف على المحتفلين أول أيام العيد. أما باقي أيام العام، اعتادت عبدالحميد أن تعمل في مهنة أخرى من المهن التي يكاد يحتكرها الرجال وهو مهنة كي الملابس، لكن بعض مرضها تركت تلك المهنة وتفرغت لتربية أبنائها وتكتفي بالتسحير في رمضان من كل عام.

سودانية في مصر

بنغمات مميزة وأغان غير مألوفة، تدور السودانية أحلام في شوارع قرية الدلجمون في محافظة الغربية (محافظة ريفية شمال غرب العاصمة).

"لا إله إلا الله... الصائم حبيب الله" ترددها أحلام أناء الدق على طبلتها كما تعلمت في السودان التي تركتها وراءها منذ أكثر من 30 عاماً، اختارت خلالها الابتعاد عن صخب العاصمة المصرية، والاستقرار في قرية وادعة بعيدة تشبه حقولها وألوانها ألوان وطنها البعيد.

في رمضان من كل عام، عندما تشير عقارب الساعة إلى منتصف الليل، تخرج أحلام السودانية من بيتها في قرية الدلجمون المصرية، وفي يدها طبلة تكسرت أطرافها، ولم يتبق منها إلا الطارة، وقطعة بلاستيكية تستخدمها في الطَرْق. يؤنس رحلتها أطفال القرية الذين يرافقونها حتى ترجع لمنزلها قبيل الفجر

في رمضان من كل عام، عندما تشير عقارب الساعة إلى منتصف الليل، تخرج أحلام من منزلها البسيط في الدلجمون وفي يدها طبلة تكسرت أطرافها، ولم يتبق منها إلا الجزء الأمامي (الطارة) وقطعة بلاستيكية تستخدمها في الطرق، ويؤنس رحلتها الليلية، التي تستمر نحو 4 ساعات، أطفال القرية الذين يرافقونها حتى ترجع لمنزلها قبيل الفجر.

" حب الناس أجمل نعمة. لو غبت يوم بلاقي أهالي قرية بيسألوا عليا" بلهجتها السودانية التي تميزت بها، تبدأ أحلام حسن عمار القادمة من دنقلة بالسودان الحديث عن مشوارها في العمل مسحراتية في مصر.

جاءت أحلام إلى مصر منذ 32عاماً، وتزوجت في قرية الدلجمون وأقامت مع زوجها ورُزقت بخمس أولاد "ثلاثة بنات وولدين".

نقلت أحلام مهنة التسحير التي تعلمتها من أهلها في دنقلة بالسودان إلى قريتها الجديدة من أجل مساعدة زوجها، رغم اختلاف عادات المصريين والسودانيين برمضان بالبداية ولكنها ما لبثت أن تأقلمت.

بلغت أحلام من العمر 57 عاماً، وباتت تشعر بالتعب من رحلاتها الليلية في القرية الواسعة التي يتخطى عدد سكانها 100 ألف نسمة، ولكن تواجد الأطفال بجانبها يهون عليها المشقة اليومية.

ورغم المآسي التي تضطر إلى التعامل معها، كالحريق الذي أتى على بيت الأسرة وقضى على "جهاز ابنتها" التي كانت تستعد للزواج، تواصل أحلام وأبنائها العمل في كل مهنة يمكنهم ممارستها حتى يتمكنوا من استعادة ما فقدوه وترويج البنات، وتواصل أحلام رغم حزنها نشر البهجة الرمضانية كل ليلة من كل رمضان.

مسحراتية بالوراثة

"اصحي يا غفلان وحد الرحمن، تسحروا السحور فيه بركة رسول الله"، كلمات تمتلئ بالروحانية والبهجة تسمعها كل ليلة في الواحدة بعد منتصف الليل مع دقات طبلة صغيرة تحملها الحاجة فاطمة السيد أبو جندي، التي بلغت من العمر 60 عاماً ولا تزال تدور في شوارع قرية كفر عنان في الغربية لتوقظ من ينوون الصيام.

تقول فاطمة لرصيف22 إنها ورثت المهنة عن والدها المسحراتي، الذي خرجت معه منذ العاشرة من عمرها، ورافقته لمدة 10 سنوات حتى توفى، وعزمت بعد رحيله أن تكمل مسيرته. ثم تزوجت وأنجبت 4 بنات، تشربنّ منها "عشقها للتسحير"، ومنذ رحيل زوجها باتت فاطمة تمارس التسحير كمهنة مدرة للدخل، لا مجرد إحياء لذكرى أبيها الراحل.

لكن محبة المهنة باق، تقول فاطمة إنها تنتظر الليل "بفارغ الصبر" لترى الأطفال تلتف من حولها.

أفنت الحاجة فاطمة 40 عاماً من سُناها الستين، تجوب الشوارع في شهر رمضان المبارك، تحمل بيديها طبلة صغيرة خضراء، مزينة ببعض الألوان ورِقّها قديم، يظهر عليه أثر دقات أصابعها، بينما ينتظر أهالي القرية كباراً وصغاراً ليسمعوا أسماءهم بصوتها.

لم يكن التسحير مهنة الحاجة فاطمة الوحيدة، حيث عملت في التجارة لتغطي تجهيز بناتها. وفي الشهر الكريم، تخرج صباحاً لتباشر عملها بالتجارة حتى موعد الإفطار.

لا تحمل فاطمة هم أعمال المنزل وتتركها لبناتها، ما يجعلها لا تنشغل عن مهمة التسحير الليلية بالتفكير في سحور الأسرة.

ولكن كان للزمن رأي آخر في مهنة فاطمة، حيث تعرضت لوعكة صحية أعجزتها عن الحركة لتستكمل ابنتها الكبرى فاتن المسيرة، فتخرج ليلاً لتوقظ السكان مرددة نفس كلمات والدتها.

تقول فاتن لرصيف22، إن الناس ألقوا عليها من محبتهم لأمها، فيعطونها الحلويات أو بعض المال كل ليلة، ومع نهاية الشهر تجد كل منزل يمنحها مبلغاً رمزياً يسعدها.

آخر مسحراتية الصعيد

يتزين صعيد مصر بتجربتين نسائيتين عريقتين مثل تاريخه، تتمثل الأولى في "الحاجة بطة" ابنه عروس المنيا، التي غيبها الموت في العام الماضي بسبب مرض السرطان.

ويحكي أحمد وجيه، الإعلامي وجار المسحراتية الراحلة لرصيف22، أنها لم يكن لها عائلة أو أولاد بعد وفاة زوجها، وكانت تعيش في منزل بسيط ضيق، وكانت تعيش على العمل بالبيوت والمساعدات من أهل الخير إلى جانب التسحير، والذي كانت تعتبره قربة إلى الله في أواخر أيامها.

بينما لايزال النموذج الآخر على قيد الحياة، وهي "أم حسن" المسحراتية، التي تدور لتسحير أهالي مدينة قوص بمحافظة قنا، وتبلغ من العمر الآن 80 عاماً، وتتميز بجلبابها الأسود وطبلتها الصغيرة.

تحكي أم حسن لرصيف22، أن المرض أقعدها عن مهنتها فلم تعد تقوى على التسحير سوى أيام قليلة من الشهر الفضيل.

ورثت أم حسن المهنة عن والدها بعد أن أصابه المرض، مشيرة أنها تتنقل مع عائلتها ما بين قوص والأقصر، ولا تتقاضى سوى معاشها الذي يكفي بالكاد لنفقات علاجها.

"مسحرجية" بغداد

"سحور سحور، واصحى يا صايم وخلي الفاطر نايم"، بتلك العبارات طافت علا الربيعي في أرجاء بغداد قبل ست سنوات، لتصبح أول مسحراتية "مسحرجية" عراقية.

كانت تجربة علا الوحيدة انطلاقاً من مبادئها النسوية، إذ أرادت إثبات انه لا يوجد دور يقوم به الرجال لا تستطيع النساء القيام به، وأن المجتمع "يجب أن يتقبل أن تعمل البنت مسحراتية، وأي عمل يظن أنه حكر على الذكور فقط"، وكانت رؤية وقراءة أخبار عن نساء يقمن بهذا الدور في تركيا حافزاً لها على المبادرة بنقل التجربة إلى العراق.

وأكدت الربيعي لرصيف22، أنها عندما نفذت الفكرة، كان التحدي الأكبر هو أن تخرج وحدها إلى الشارع بطبلتها وعصابة رأسها وقت السحور، لأنها خافت من المضايقات، ولذلك اصطحبت طاقم مكون من أصدقائها والمصور الذي قام بتصوير التجربة، لضمان عدم تعرض أحد لها، ومرت بالفعل التجربة في شوارع بغداد بسلام، بل جاء الكثير التقط الصور معها.

وأضافت أول مسحراتية عراقية أن التجربة كانت بالنسبة لها لطيفة، ولكنها لم تكن كذلك عند الشارع العراقي الذي لم يتقبل الموضوع، وكانت معظم التعليقات سلبية عندما نزل الفيديو، وتركزت حول أنه "عيب" أن تعمل البنت مسحراتية.

وحول موقف الأسرة، بينت الربيعي أن عائلتها دائماً داعمة لها "طالما لم تؤذ أحداً". مشيرة إلى أنه بعد الفيديو الخاص، بها قامت ثلاث عراقيات بتصوير فيديوهات لأنفسهن وهن يقمن بمهمة التسحير ويتجولن في الشارع، ولم يلقين نفس الهجوم، مما فسرته على أن مبادرتها دفعت المجتمع إلى التفكير في المسألة وقبولها.

-------

(*) بتصرف عن الشاعر المصري الراحل فؤاد حداد

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard