شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عمر خيرت... سيرة عائلة تهوى التمرد فتورثه جيلاً بعد جيل

عمر خيرت... سيرة عائلة تهوى التمرد فتورثه جيلاً بعد جيل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 15 أبريل 202210:03 ص

لم أتعجب من مقولة "حفلاته تشبه الشازلونج" التي أطلقها عليه جمهوره، فإنه بالفعل يجيد الطب النفسي دون أن يشعر، ولمَ لا، فالموسيقى بوجه عام تستخدم كعلاج، إذ إنها تتماس مع العقل الواعي واللاواعي، فبإمكانها تقليل أعراض الأمراض النفسية مثلاً، وبعيداً عن قتل الدراسات لهذا الموضوع بحثاً، إلا أنني أثق في القدرة الخفية للفن على التأثير في النفوس.

طبيب أرواح

وبشكل خاص عندما أستمع إلى موسيقى عمر خيرت، أشعر إنني بحاجة إلى التأمل، والانصات لصوتي الداخلي، فأجده يعبر عن مشاعري حينها، مثلاً في مقطوعة "خلي بالك من عقلك" تشعر في بداياتها بالسلام الذي نتج عن لقاء حبيبين لأول مرة، كلنا يعرف قصة الفيلم التي جسدت قصة حب بين "باحث ومريضة نفسية" في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، ثم تتصاعد موسيقى خيرت فجأة نتيجة الصراع الذي ينتج عن حبهما، بسبب عدم تقبل المجتمع والناس لذلك، لكن يهزم الحبيبُ الأشرار، ويخلص حبيبته منهم، ثم يحل السلام مجدداً بانتصار قصة حبهما ضد المجتمع والشر والتعب النفسي، فالحب طوق نجاتنا وموسيقاه عبرت عن ذلك.

يعزف خيرت بقلبه وليس بأنامله، لديه إحساس عالٍ بالأعمال التي تقدم له، يجيد استيعابها جيداً نتيجة قراءته العميقة لطبقاتها، كأنه طبيب أرواح، موسيقاه تشبه شازلونج، استرخ وتأمل، اهدأ واشعر، اسبح فيها وانس همومك وأحزانك ومشاكلك وانتقل إلى عالم آخر يذهلك، فتظل مسحوراً به للأبد. أنت لا تستطيع التعبير أصلاً عن إحساسك بعد سماعه، فلنخلص الأمر بعبارة "إنه يعانقك عناقاً طويلاً، تغرق في عمقه، وتشفى مما كنت تعاني منه".

أعماله إدمان

محمود خيرت المتمرد الأكبر تزوج من اليونانية المسيحية ماريا ليونيد، رغم رفض عائلتيهما آنذاك، وصعوبة قبول الأمر أصلاً في هذا الوقت، لكن حبهما انتصر وأنجبا كل من عمر وأبو بكر وعثمان وعلي "أبو عمر خيرت"

بشكل شخصي أدمن سماع موسيقاه التصويرية في كل من "قضية عم أحمد"، "غوايش"، "خلي بالك من عقلك"، "صابر يا عم صابر"، "البخيل وأنا"، "مسألة مبدأ"، "اللقاء الثاني"، "إعدام ميت"، "عسل أسود"، "ولاد العم"، "الممر"، "الخواجة عبد القادر"، "الداعية"، "ضمير أبله حكمت"، "ليلة القبض على فاطمة"، وأعشق ألحانه في أغاني: "عارفة"، "100 سنة سينما"، "ونخاف من بكره ليه"، "مصر يا أطهر قلب"، "فيها حاجة حلوة"، "في هويد الليل"، "زي الهوى"، وتوزيعه لأغاني عبد الوهاب وغيرهم.

أختار عمر خيرت لنفسه لقب المتمرد، ليروي سيرة سبعة عقود من عشقه للفن في كتابه "المتمرد، سرية حياة عمر خيرت"، حرره محمد الشماع، والصادر حديثاً عن دار "نهضة مصر". عشت مع الكتاب حكاياته الفنية والإنسانية والاجتماعية، ورؤيته الخاصة للمجتمع والفن والموسيقى والزواج والحب، لكن كيف بدأت مسيرة عمر خيرت؟

شجرة عائلة فنية عريقة

صورة من حفل توقيع كتاب "المتمرد، سرية حياة عمر خيرت"

تخيل معي لو أنك وُلدت في بيت ترجع شجرة عائلته لجد يعمل خطاطاً كبيراً للخديوي سعيد، والذي كتب على أزرار ضباط التشريفة بالذهب، ونتيجة لاتقان عملك، يمنحك الخديوي أرضاً بشارع خيرت -والذي يعود تسميته للجد الأكبر خيرت-بحي السيدة زينب بالقاهرة، تؤسس عليها إمبراطورية فنية عريقة، مثل التي أسسها الجد الأكبر عبيد الله، والذي أنجب حفيداً سماه محمود خيرت، والذي أصبح بعدها مؤسس البناء الثقافي والفني لعائلة خيرت، وأحد أعمدة نهضة مصر، إذ كان موسيقياً، رساماً، نحاتاً، شاعراً، روائياً، مترجماً ومثقفاً، هوى الموسيقى، صادق كبار الفنانين في بيته الذي جمع سيد درويش، بديع خيري، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، محمود مختار، مصطفى لطفي المنفلوطي وغيرهم، ماذا سيكون شكل علاقتك بالفن حينئذٍ؟

ورث حب الفن أباً عن جدٍ

محمود خيرت المتمرد الأكبر، والذي كافح حتى تخرج في كلية الحقوق، وتزوج من اليونانية المسيحية ماريا ليونيد، رغم رفض عائلتيهما آنذاك، وصعوبة قبول الأمر أصلاً في هذا الوقت، فلم يكن زواج المسلمين بالمسيحين شائعاً، لكن حبهما انتصر وأنجبا كل من عمر وأبو بكر وعثمان وعلي "أبو عمر خيرت".

عزف في حفل التوقيع

آمن محمود خيرت بالفن وأنه أعظم مُربٍ للذوق والوجدان، فأحضر أساتذة لأولاده ليتعلموا الموسيقى الشرقية والغربية في سن مبكرة على آلتيَ الكمان والبيانو، حتى كون الأبناء الأربعة "أوركسترا خيرت" وعرضوا أعمالهم أمام الملك فؤاد، وعمه أبو بكر خيرت ساهم في تطوير آلة القانون.

لا ينسى عمر خيرت أبداً جملة عبد الوهاب له بعد موسيقى مسلسل "ضمير أبله حكمت" قائلاً: "ربنا يخليك لمصر"، الذي يعتبرها شهادة ووسام على صدره، كان عمر وقتها في بداياته، وتلقى دعماً هائلاً عظيماً من الموسيقار عبد الوهاب بنفسه

الأب علي خيرت كان معمارياً كبيراً، وله تصميمات لمساجد كثيرة في مصر، وعمه صمم المبنى المخصص لأكاديمية الفنون ومبنى معهد الكونسرفتوار، وكان أول عميد له، وعمّاه الآخران تفوقا في مجالي الطب والدراسات الأنثرولوجية، ورغم ذلك نبغ كل منهم في الموسيقى التي توارثت حبها الأجيال بالجينات الوراثية.

عمه أبو بكر خيرت مثله الأعلى

وُلد عمر خيرت في 11 نوفمبر 1948، محملاً بجينات فنية تجري في عروقه مجرى الدم، منحدراً من شجرة عائلة فنية باقتدار، تُنبئ بأنه سيصبح واحداً منهم، ليُكمل تلك المسيرة الرائعة.

عزف عمر خيرت على البيانو مبكراً، فأدرك أبوه وعمه أنه سيصبح ولعاً بالموسيقى، وفي سن الحادية عشر أتقن العزف الأكاديمي فألتحق بمعهد الكونسرفتوار. شاهد عمه أبو بكر خيرت، عازفاً كبيراً في حفلات الأوبرا ومؤلفاً للعديد من المؤلفات السيمفونية التي تجمع بين تراثنا الشرقي والموسيقى العالمية، تمنى أن يصبح مثله ذات يوم.

بعد وفاة العم أبو بكر خيرت بشكل مفاجئ، تعرض عمر خيرت للكثير من المواقف الشريرة في معهد الكونسرفتوار، فأستكمل دراساته للموسيقى من خلال ترينتي كوليدج أوف ميوزك، وحصل على دبلوم فني العزف والنظريات الموسيقية.

يعترف عمر خيرت أنه رجل شرقي بدرجة كبيرة، تزوج أكثر من مرة من مصريات لأنه يعشق الجمال المصري، لكنه لم يكن محظوظاً في كل زيجاته، لأن جميع زوجاته لم يتحملن وجود الموسيقى في حياته كضرة

فترة الستينات حملت وجهي التمرد والسعد

يعتبر "عمر خيرت" نفسه محظوظاً بنشأته في فترة الستينيات، تلك الفترة التي ملأها الزخم وتغيرت فيها مصر تغيراً جذرياً على كل المستويات، خاصة في الثورة والحرية والموسيقى، تطلع خيرت كأي شاب آنذاك إلى كل ما هو جديد؛ أستخلص ما يناسب ثقافته وحريته، سمع موسيقاه الوطنية، مستلهماً موسيقى الشعوب الأخرى؛ صانعاً فناً مختلفاً عن السائد، فناً متمرداً -على حسب قوله- لأنه يهوى التمرد.

استفاد من مرحلة الستينيات الغنية ثقافياً وموسيقياً وإنسانياً، وتمرد فيها للدرجة التي لعب فيها درامز. كما كوَّن هو وعزت أبو عوف ووجدي فرنسيس فرقة les petites Chats  وعملوا حفلات كثيرة في الإسكندرية والبلاد العربية، ونجحوا نجاحاً هائلاً حتى انضم إليهم عمر خورشيد وذاع صيتهم، وبعد أربع سنوات من النجاح، انفصل عن الفرقة وعاد لشغفه القديم، البيانو.

فاتن حمامة بوابة عبوره الحقيقي للجمهور

كما يلقي الكتاب الضوء على محطات عمر خيرت الفنية، بداية من تعرفه على سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، حيث ترجع صداقته لكمال القريعي، زوج نادية ذو الفقار بنت فاتن حمامة، لسبب معرفتهما، حيث دعاه على حفلة عيد زواج فاتن والدكتور محمد عبد الوهاب بمطعم الهيلتون ليعزف، وعجبها عزفه ثم رشحته لعمل موسيقى برنامجها الإذاعي "قطرات الندى" ثم "فيلم ليلة القبض على فاطمة"، والذي كان بمثابة جواز مرور له، حيث نجح الفيلم جداً وأشاد الجمهور بالموسيقى، ما شجعه على طرحها في ألبوم لتنتشر أكثر بين الناس، وبالفعل نجح الألبوم، وكانت بداية تحقيق الحلم.

ومن فاتن إلى الملك فريد شوقي الذي عمل له تتر "قضية عم أحمد"، ومنه إلى تتر "خلي بالك من عقلك" لعادل إمام وشريهان، وفيلم "إعدام ميت" الذي عمل تتره لمحمود عبد العزيز، والذي يحكي قصة حقيقية عن جاسوس خان بلده، يدعى سليمان من سيناء، هرب منها وعاش جاسوساً لإسرائيل ومنحته الجنسية، وخلف ولداً سماه عودة، جعله خائناً هو الأخر، هزت تلك القصة وجدان الفنانين، ودفعت السيناريست محمود مسعود إلى تغييرها في الفيلم.

الاعتزاز بفنه رغم عدم تقدير المنتجين

توالت بعدها الأعمال الذي ألفها مثل "أنا اللي قتلت الحنش"، "عفواً أيها القانون"، "امرأة مطلقة"، "وصمة عار"، "موعد مع القدر" وغيرهم.

وقتها كان تفكير المنتجين منصباً على التوفير المادي، لكنه كان يعلم قدر نفسه وقيمة ما يصنعه جيداً ومقدار المجهود المبذول فيه، حيث كان يشترط بعض الأشياء في العمل الذي يضع الموسيقى التصويرية له، وأهمها جودته، بذل الوقت والجهد والطاقة الكافيين لاقتناص الفكرة، ثم كتابتها وتوزيعها، واختيار أمهر العازفين للعمل معه.

كان يقرأ سيناريوهات الأعمال المعروضة عليه كاملة ثم يعقد عدة جلسات مع المخرج ليعمق صلته أكثر بالعمل. آمن أن الموسيقى التصويرية لا تسد فراغاته بل تستكمل أحداثه، فيؤلف موسيقى تخدمه وتضيف له، تكون خلاصة إحساسه نحوه، ومن ثم التأثير في إحساس الآخرين.

توزيع "وهابيات" بشكل مختلف

وزع أعمال الموسيقار عبد الوهاب في قالب أوركسترالي هارموني، من إنتاج شركة "صوت الحب"، كان هدفه من ذلك أن يسمع الناس مؤلفات موجودة بالفعل، ولكن بشكل جديد، لإعداد المستمع لاستقبال توزيع موسيقي مختلف ومتمرد على السائد. عجبت توزيعاته عبد الوهاب، وسماها بنفسه "وهابيات" عندما قابل خيرت بعد ذلك. ومن الجدير بالذكر أنه لا ينسى أبداً جملة عبد الوهاب له بعد موسيقى مسلسل "ضمير أبله حكمت" قائلاً: "ربنا يخليك لمصر"، الذي يعتبرها شهادة ووسام على صدره، كان عمر وقتها في بداياته، وتلقى دعماً هائلاً عظيماً من الموسيقار عبد الوهاب بنفسه.

التلحين... أرض جديدة خاضها بشجاعة

أثبت أنه بإمكانه دخول مجال التلحين عندما لحن أغنيات مسلسل "غوايش"، أظهر أسلوبه في تلحين الأغنية الشرقية المحتوية على تلات أرباع تون، ومعالجتها هارمونياً، أعتقد الجميع استحالة ذلك؛ لأنه خواجة، يعزف البيانو ويدرس الموسيقى الغربية ويعزف الدرامز، لكنه خاض التجربة؛ ليثبت لنفسه أولاً أنه مغامر لا مثيل له، كانت كلمات سيد حجاب دليله في أرض جديدة يضع قدمه فيها لأول مرة، لكنه خاض بجسارة مُحب لما يفعل، ومُجرب يعشق موسيقاه، استجمع من كلمات حجاب كل المشاعر الممكنة، ووضعها في ستة ألحان للنجم علي الحجار للمسلسل ومن ثم دخل إلى أرض التلحين.

الجزء الإنساني في حياة عمر خيرت

كأي فنان يحبه جمهوره، يتطلعون إلى معرفة الجزء الشخصي في حياته، لذلك سأله الشماع عن الزواج والحب، فحكى أنه رجل شرقي بدرجة كبيرة، تزوج أكثر من مرة من مصريات لأنه يعشق الجمال المصري، لكنه لم يكن محظوظاً في كل زيجاته، لأن جميع زوجاته لم يتحملن وجود الموسيقى في حياته كضرة، فهي زوجته الثانية التي اعتقدن جميعاً أنها تعوق حياتهن الزوجية معه، لم يتفهمن طبيعته كفنان، كما يرى أن الحب بعد الزواج ليس كمثل الحب قبل الزواج، لكنه ضروري لاستمرار الحياة، فهو إنسان دائم البحث عن الحب، لذلك يحب الموسيقى، والتي بدورها تحب الجمال، والذي بدوره موجود في السيدات. انفصل عنهن جميعاً بهدوء، وعاش بدون زوجة، عاش لأبنائه عمر وشيرين وأحفاده وجمهوره.

ذروة الاستمتاع هنا

وضع الشماع كل الأسئلة التي تدور في أذهان جميع المصريين والعرب والعالم بخصوص عمر خيرت. سمع كل مؤلفاته وألحانه وتوزيعاته الموسيقية، قرأ كل ما كُتب عنه، استوعب كل تفصيلة في حياته، حتى عندما التقى به، وضع كل ما دار بذهنه على طاولته، فحكى كل شيء، وسلط الضوء أيضاً على تجربته مع عادل إمام في "الإرهابي" و"النوم في العسل"، ويوسف شاهين الذي وصفه بالفنان المتمرد والذي تعاون معه في "اليوم السادس"، "سكوت هنصور"، وتعاونه مع شريف عرفة في أفلام "الجزيرة"، "ولاد العم"، و"الممر" وغيرها من الحكايات الشيقة الممتعة، وعبر عن آرائه في كل من الأغنية الشبابية والوطنية والهابطة، إنها موضوعات تشغل بال كل مثقف واعٍ. طرحها في فصول رشيقة، بسيطة اللغة، سلسة الأسلوب، لخص كل تلك العقود الفنية بين أنامل القارئ، والأجمل لو قرأها على خلفية موسيقى عمر خيرت مثلما فعلت، فوصلت إلى ذروة الاستمتاع، جرّب وأخبرني بماذا شعرت؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard