شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"من أكثر المحاصيل تأثّراً"... مزارعو القمح في مصر في مواجهة التغير المناخي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأربعاء 6 أبريل 202201:10 م

على أطراف مدينة منيا القمح في محافظة الشرقية، والتي تبعد 60 كيلومتراً عن القاهرة، تقع عيناك على مساحات كبيرة مزروعة بمحصول القمح. يشق المزارع أحمد قاسم طريقه بخطوات ثقيلة وهو يسير وسط أرض زراعية حوّل محصول القمح لونها إلى الذهبي. مد يده وبدأ يتفحص بعض سنابل القمح ويلقي تعليماته إلى مجموعة من المزارعين بالتوقف عن ريّ المحصول إلى حين انتهاء العاصفة الترابية التي يتوقع أن تتعرض لها المحافظة.

خشونة الأرض الزراعية لم تُجبر قاسم على ارتداء خُفَّين في قدميه، فتراه يتنقل بين أرضه الزراعية وسط أعواد القمح حافي القدمين، يتفحص سنابله خشية إصابتها بالصدأ، الذي ينتشر بسرعة كبيرة بين الزرع.

مظاهر الفرحة المعتادة بموسم حصاد القمح في مصر تحل مكانها عاماً بعد آخر مشاعر الخوف من نقص الإنتاجية.

ربما لم يكن قاسم على دراية بمصطلح التغيرات المناخية ومدى تأثيرها على المحاصيل الزراعية، إلا أن الضرر الذي لحق بمحصوله من القمح العام الماضي بسبب موجة الحر الشديدة التي تعرضت لها مصر قبل الحصاد، جعله يبحث عن الحلول لعدم تكرار خسارة محصوله.

وينطلق موسم حصاد محصول القمح في منتصف نيسان/ أبريل من كل عام، وينتظره المزارعون "على أحرّ من الجمر"، فمنهم من يريد سداد ديونه، وآخرون يخزنون جزءاً لسد احتياجات عائلاتهم الغذائية، إلا أن مظاهر الفرحة المعتادة تحل مكانها عاماً بعد آخر مشاعر الخوف من نقص الإنتاجية، وأيضاً من التسعيرة التي تحددها الحكومة لشراء المحصول من المزارعين، والتي باتت لا تتناسب مع تكلفة الزراعة التي ترتفع بدورها كل عام.

كما أن غياب الإرشاد الزراعي يُعدّ من العوامل التي ساهمت في خفض إنتاجية المحصول، وجعلت المزارع فريسةً للتغيرات المناخية على حد وصف قاسم، وقد اكتسب أغلب المزارعين خبرتهم في التعامل مع التقلبات المناخية من خلال ممارستهم وفطرتهم في التعامل مع الطبيعة.

تصوير محمود الخواص

أمراض وآفات

يقول قاسم في حديث إلى رصيف22: "القمح أو الغلة كما نطلق عليها، من أكثر المحاصيل ارتباطاً بدرجات الحرارة، إذ إن الحرارة المرتفعة والمفاجئة تؤثر على سرعة نمو القمح، مما يؤدي إلى قصر موسم النمو وزيادة العقم وانخفاض عدد السنابل وعدد الحبوب لكل سنبلة ووزن حبة الغلة، وتالياً تنخفض إنتاجية المحصول".

يلتقط المزارع محمد مجاهد طرف الحديث مؤكداً أن درجات الحرارة تتحكم بشكل كبير في مراحل تطور النبات خلال موسم النمو من بداية الإنبات إلى نهاية النضج، والارتفاع المفاجئ عن المعدلات الطبيعية يؤدي إلى دخول النبات مرحلة الشيخوخة مما يعمل على انخفاض إنتاجية الحبوب في السنبلة وقلة وزنها.

ربما لم يكن قاسم على دراية بمصطلح التغيرات المناخية ومدى تأثيرها على المحاصيل الزراعية، إلا أن الضرر الذي لحق بمحصوله من القمح العام الماضي بسبب موجة الحر الشديدة التي تعرضت لها مصر قبل الحصاد، جعله يبحث عن الحلول لعدم تكرار خسارة محصوله

بدءاً من منتصف شباط/ فبراير، حين يبدأ الارتفاع التدريجي في درجات الحرارة، يحرص مزارعو القمح على الذهاب إلى الحقل بوتيرة يومية ومستمرة تحسّباً لظهور حشرة المن، ويتحدث عنها المزارع أحمد منعم بقوله: "الارتفاع في درجات الحرارة يتسبب في زيادة انتشار الآفات وأمراض النباتات مثل حشرة المن، وهي خطرة للغاية إذ تصيب المحصول بمرحلتَي البادرة والتفريع، وتبدأ من تحت سطح التربة وصولاً إلى الساق والأوراق وحتى السنابل، وتمتص العصارة، وتالياً تسبب خسائر كبيرةً".

وأشار منعم إلى أن صدأ القمح من أكثر أمراض القمح انتشاراً في مصر الآن، بسبب التقلبات المناخية الحادة والسريعة، ويظهر على هيئة بثرات طولية على سطح الورقة، ويمكن أن تؤدي العدوى إلى انخفاض الإنتاجية بنسبة قد تصل إلى 20% بسبب موت الأوراق المصابة بشكل مبكر.

تكاليف كبيرة

لا تتوقف التحديات بالنسبة إلى المزارعين عند التكيف مع التغيرات المناخية، وإنما تتعداها إلى الأدوية المغشوشة المنتشرة بشكل كبير في الأسواق، والتي من المفترض أن تقضي على الآفات.

ويتحدث عنها قاسم قائلاً: "اشترينا دواءً بـ60 ألف جنيه (3،330 دولاراً)، ولكن تبيّن أنه مغشوش، وبسبب مصاريف الأدوية والمبيدات اضطر مزارعون إلى بيع أراضيهم لسداد ديونهم في السوق. كل سنة نشتري المبيدات وتعود الآفات للظهور في العام التالي. استنفدنا أموالنا على هذا الأمر، ولا أحد من المسؤولين فكّر في تعويض المزارعين عن خساراتهم".

إلى جانب ذلك، يعاني المزارعون من ارتفاع قيمة إيجار الأرض كما يشرح المزارع محمد معروف، إذ يصل بدل إيجار الفدّان الواحد (تبلغ مساحة الفدان في مصر 4،200 متر مربع)، إلى 12 ألف جنيه (660 دولاراً) في السنة. وينتج الفدّان 18 إردباً من القمح (الإردب يعادل 150 كيلوغراماً)، وفي حالة إصابة المحصول بالصدأ تنخفض الإنتاجية لتصل إلى ستة أرادب، ويتحمل المزارع وحده تكلفة خسارته على حد قوله.

تصوير محمود الخواص

وانتقد معروف صرف الحكومة المصرية الأسمدة المدعمة لأصحاب الحيازات الزراعية فحسب، ولجوء المزارعين من مستأجري الأراضي إلى السوق السوداء لصرف احتياجاتهم من الأسمدة، ما يعني تكاليف إضافيةً، إذ إن سعر طن الأسمدة في الجمعيات الزراعية يصل إلى 4،500 جنيه (250 دولاراً)، ويتضاعف في السوق السوداء ليصل إلى ثمانية آلاف جنيه للطن.

بذلك، يقدّر معروف تكلفة زراعة محصول القمح للفدان الواحد بستة آلاف جنيه (330 دولاراً)، في حين حددت الحكومة المصرية أسعار توريد القمح المحلي للموسم الحالي بما يتراوح بين 800 و820 جنيهاً للإردب الواحد، بزيادة 100 جنيه عن العام الفائت، في محاولة لتعويض النقص الحاصل في الاستيراد جراء الحرب في أوكرانيا بالناتج المحلي، في حين يطالب المزارعون برفع المبلغ إلى ألف جنيه، كي يكون مجدياً بالنسبة إليهم.

وتقدّر أرقام رسمية زراعة 6.3 مليون فدان في مصر بالقمح، ما ينتج 9 إلى 10 ملايين طن، بينما تصل احتياجات المصريين إلى 18 مليون طن، وتحاول وزارة الزراعة رفع الإنتاجية إلى 12 مليون طن لسد الفجوة، لكن الأمر يواجه تحديات خاصةً مع انخفاض معدل الأمطار.

تدابير ممكنة

في حديث إلى رصيف22، أكد حسين عبد الرحمن أبو صدام، نقيب الفلاحين في مصر، أن الحاجة إلى تهيئة المحاصيل الزراعية للتكيف مع التغيرات المناخية المحتملة أصبحت واحدةً من أهم التحديات التي تواجه التطوير في قطاع الزراعة.

يعاني المزارعون أيضاً من الأدوية المغشوشة وارتفاع قيمة إيجار الأراضي والتكاليف العالية للأسمدة.

ولفت أبو صدام إلى أن القطاع الزراعي سيواجه على المدى البعيد انخفاضاً في الناتج إذا لم تُتّخَذ تدابير كافية للتكيف، من خلال استنباط الأصناف وتطويرها، خاصةً تلك التي تتحمل الملوحة والجفاف والحرارة، وهي الظروف التي ستسود خلال الأعوام المقبلة، وتقاوم الأمراض. وطالب خلال حديثه الحكومة المصرية باتخاذ إجراءات حاسمة في هذا الخصوص.

كما نوّه بإمكانية تغيير مواعيد الزراعة بما يلائم الظروف الجوية الجديدة، وضرورة الانتباه إلى زراعة الأصناف في المناطق المناخية الملائمة لها، ومن الأفضل أن يكون نموّها قصيراً لتقليل الاحتياجات المائية اللازمة لها، مع تشديده على ضرورة الري في المواعيد المناسبة فقط وبالكميات اللازمة للحفاظ على المياه.

وأشار إلى دراسة أجرتها وحدة بحوث الأرصاد الجوية الزراعية في مصر، وأثبتت أن تغيير موعد الزراعة من أول أسبوعين في تشرين الثاني/ نوفمبر وتأخيره بمقدار 25 يوماً أدى إلى زيادة إنتاجية محصول القمح بنسبة تقارب 4 في المئة.

توقعات سلبية

تبيّن الدراسة المذكورة والتي جرت تحت إشراف الدكتورة سامية المرصفاوي خبيرة التغيرات المناخية والمديرة السابقة للمعمل المركزي للمناخ الزراعي، أن التغيرات المناخية وما تسببه من ارتفاع في درجة حرارة سطح الأرض ستؤثر سلباً على إنتاجية العديد من المحاصيل الزراعية المصرية.

ومن أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة أن إنتاجية محصول القمح ستقل قرابة 9% إذا ارتفعت الحرارة درجتين مئويتين، وسيصل معدل النقص إلى 18% إذا ارتفعت ثلاث درجات ونصف. كما سيزداد الاستهلاك المائي لهذا المحصول 2.5% مقارنةً بالاستهلاك الحالي.

تصوير محمود الخواص

وفي هذا السياق، قال الدكتور أحمد حافظ، الباحث في معهد المحاصيل الحقلية التابع لوزارة الزراعة المصرية، إن جميع الدراسات اتفقت على أن تأثير التغيرات المناخية ينعكس على زراعة محصول القمح، خاصةً في المناطق الساحلية ودلتا النيل التي يتوقع تعرض أجزاء منها تُقدّر بنحو 15% للغرق نتيجة ظاهرة الاحتباس الحراري.

وتابع حافظ في حديثه إلى رصيف22: "تتوقع بعض الدراسات أن يكون هناك نقص في محصول القمح بنحو 18% خلال عام 2050، كما تشير بعض الدراسات إلى استخدام عدد من النماذج والاحتمالات والمعادلات، وإلى زيادة الاحتياجات المائية للمحاصيل الرئيسية في منطقة الدلتا فوق المعدلات الحالية بنسبة 28%".

من الممكن تغيير مواعيد الزراعة بما يلائم الظروف الجوية الجديدة، مع ضرورة الانتباه إلى زراعة الأصناف في المناطق المناخية الملائمة لها، ومن الأفضل أن يكون نموّها قصيراً لتقليل الاحتياجات المائية اللازمة لها

من جانبه أوضح الدكتور محمود رجب، أستاذ الزراعة، أن التغيرات المناخية تسبب خسائر كبيرةً في الإنتاج الزراعي في مصر بنسبة تتعدى 25%، بجانب خفض جودة المحصول وإفراز السموم الخطيرة بسبب الآفات والحشرات. ويشير لرصيف22 إلى أن أهم الأمراض التي تصيب القمح مرض الأصداء الثلاثة، الأصفر والبرتقالي والأسود، وتكمن خطورته بشكل خاص في سهولة انتقاله عبر آلاف الكيلومترات بفعل الرياح.

ولكل ما ذُكر عواقب وخيمة على الأمن الغذائي وسبل عيش الأجيال القادمة، كما يشير الدكتور مجدي علام، مستشار برنامج المناخ العالمي وأمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، مؤكداً ضرورة إجراء مزيد من الأبحاث حول طرق إنتاج جديدة ومبتكرة للغذاء.

وشدد علام خلال حديثه إلى رصيف22، على "أهمية وضع برنامج للتكيف مع التغيرات المناخية لأن الأبحاث أكدت أنها أصبحت ضيفاً مستداماً معنا، ويجب أن تلتفت إليها الجهات المسؤولة وأصحاب القرار والمزارعون والمصدّرون، ورفع الوعي حول أهمية تغيير الممارسات الزراعية التقليدية عند الحاجة، من خلال وسائل الإعلام وإرسال رسائل نصية على مدار الساعة للمزارعين توجههم بالإجراءات الواجب اتّباعها مع محاصيلهم الزراعية".

ولفت علام إلى إمكانية التوجه إلى الزراعة الذكية، وهي تقنية جديدة تعتمد على التكنولوجيا واستخدام الإنترنت وأجهزة الاستشعار عن بعد لتحليل المعلومات واتخاذ أفضل قرارات الإنتاج الممكنة بأقل التكاليف، وتقدّم للمزارع إنتاجاً زراعياً أوفر، وتكشف له عن التقلبات المناخية المفاجئة وخريطة الطقس لأسابيع، وتخبره بمواعيد الري وطرق مكافحة الآفات ومراقبة التربة والمحاصيل خلال مراحل نموه.

وقد أصدرت منظمة الأغذية والزراعة، دليل الزراعة الذكية مناخياً، ويضم مجموعةً واسعةً من المعارف والخبرات لكي يسترشد بها على نحو أفضل واضعو السياسات ومديرو البرامج والخبراء القطاعيون والأكاديميون وخبراء الإرشاد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard