شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
تحزنني فكرة أنّي لا أستطيع نقل ذكرياتي لابني عندما يكبر

تحزنني فكرة أنّي لا أستطيع نقل ذكرياتي لابني عندما يكبر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 8 أبريل 202203:24 م

استبدّ بي النعاس والملل بينما كنت جالسة في قطار المسافات الطويلة العائد إلى المدينة التي أسكن فيها، فقررت أن أستأنس بالاستماع إلى بعض الأغاني.

تفحصتُ قائمة الأغاني على هاتفي وشعرت بالملل تجاهها أيضاً، بعدها تذكرت أنني حمّلت تطبيق الراديو قبل فترة طويلة، وكان قد تموضع في جوالي بشكل مهمل في قائمة من القوائم الموجودة. فقلتُ لنفسي: "حسناً من الممتع أحياناً أن نستمع لأغانٍ نحبّها بالصدفة في محطة إذاعية".

شغّلت التطبيق، وإذ بصوت فيروز يصدح بأغنية ما، وبمحض الصدفة، كان الطقس صيفياً جميلاً والوقت قريباً من الغروب، فاستعدت في تلك اللحظة ذكرى حدثت، وكانت نفس الأغنية تُبث على الراديو في غروب يومٍ صيفيٍ.

المفارقة ليست في الأغنية نفسها، بل في الذكريات التي تمثلها بعض الأغاني بالنسبة لنا كبشر وبالمشاعر التي قد تثيرها حين نسمعها. هل يحدث أحياناً أن يحاول أحدنا تجنب سماع أغانٍ معينة للهروب من المشاعر المصاحبة لها؟ أو على عكس ذلك، قد يستمع آخرون إلى أغان معيّنة لكي تثير فيهم بعض المشاعر المنسية، مثل أغنية سمعوها في حالة حب أو فرح، فأصبحت مرتبطة بذلك الشعور.

الذكريات هي لعنتنا الأبدية، فالمكوّن الأساسي لما نطلق عليه "الوعي البشري" هو تراكم الذكريات، ولا يمكننا أن نوجد بهيئتنا اليوم دون ذكرياتنا. وبالوقت نفسه، أحد أسباب تعاستنا هو ذكرياتنا، فمهما كان الحدث جميلاً في وقته، يصبح مع الأيام كئيباً، لأنه ببساطة، لا شيء يبقى على حاله

عندما أسمع بعض الأغاني كالأغنية التي صادفتني على محطة الإذاعة، أتذكر منزل جدتي في قريتنا الصغيرة. هل تعرفون ذلك المنزل الصغير أعلى التلة الذي كنا نرسمه عندما كانوا يطلبون منا أن نرسم مشهداً طبيعياً خيالياً في المدرسة؟ نعم، إنّ منزل جدتي مثل هذا المنزل في عقول الأطفال الصغار.

لوهلة، شعرت بأنّي جالسة على شرفة هذا المنزل تحت عريشة العنب مع أقاربي الذين اعتدت الجلوس معهم، لكن سرعان ما بهتت بهجة هذه الصورة عندما باغتتها قسوة الحاضر. فمنهم من وافته المنيّة ومنهم من هاجر، ومن بينهم أنا. أما الذين بقوا في تلك البلاد فلا حول لهم ولا قوة في ظل هذا الوضع المأسوي الذي تعيشه سوريا والذي يزداد سوءاً في كل عام.

الذكريات هي لعنتنا الأبدية.

قلبتُ محطة الراديو التي كنت أسمعها بعدما تحوّلت مشاعر الفرح بالأغنية إلى حزن، وبدأتُ أبحث عن أغنية أخرى لعلّها تُنسيني تلك الذكريات الحزينة. لطالما كنت أهرب من ذكرياتي الحزينة، وكنت أتجنّب الحديث عنها كي لا أتذكرها بتفاصيلها. ولطالما كنت أتجنّب الأشياء التي يمكن أن تذكرني بها كالأغاني أو الصور.

الذكريات هي لعنتنا الأبدية، فالمكوّن الأساسي لما نطلق عليه "الوعي البشري" هو تراكم الذكريات، ولا يمكننا أن نوجد بهيئتنا اليوم دون ذكرياتنا. وبالوقت نفسه، أحد أسباب تعاستنا هو ذكرياتنا، فمهما كان الحدث جميلاً في وقته، يصبح مع الأيام كئيباً، لأنه ببساطة، لا شيء يبقى على حاله.

تحزنني فكرة أنّي لا أستطيع نقل ذكرياتي لابني عندما يكبر. لا يوجد سبب مقنع لحزني، لأنّي أعلم أنّ ذكريات ابني ومشاعره يجب أن تكون مستقلة عن ذكرياتي ومشاعري. ويجب أن يكوّن هذه الذكريات بتجربته الشخصية لا أن يستنسخها مني، ولكن كنت أتمنّى أنْ يرى قريتنا، أن يحظى بنزهة إلى أرضنا الملآى بالزيتون والأشجار ذات الثمار الشهية. والأمتع من ذلك أنْ ينعم بشرب المتة على الحطب.

كنت أتمنّى لو أنّه تعّرف إلى أعزّ الناس على قلبي قبل أنْ توافيهم المنية أو قبل احتجازهم رغماً عنهم في بلاد بائسة. كم كان سيكون جميلاً لو استطعت التحدث معه عن هذه الأشياء دون أنْ يبدي نظرة استغراب وفضول تجاهي، كنظرتي إلى أهلي عندما كانوا يحدّثونني عن أحد فارق الحياة قبل ولادتي، وكأنّي أحدّثه عن كوكب بعيد في الفضاء.

لا شكّ أنّ العودة إلى سوريا في ظلّ هذا النظام الديكتاتوري الحالي مستحيلة، ويبدو أنّ كثيراً من الموجودين في هذا العالم لن يستطيعوا أن ينعموا برفاهية زيارة أماكن طفولتهم المفضلة... لكن، هل هذا السبب كافٍ لإعادة ضبط مصنع المخ البشري كي لا يتذكر تلك الأشياء؟ 

ليس غريباً أنْ نحاول إعادة إحياء تلك المشاعر التي تمثلها ذكرياتنا الجميلة بالتلاعب بحاضرنا قليلاً. ليس غريباً أنْ نحاول البحث عن أماكن تشبه أماكننا القديمة، مثل البحث عن شبيه لمنزل جدتي في كلّ بلد أذهب إليه، أو البحث عن أشخاص يشبهون أحبابنا القدامى، يشبهون عائلتي وأصدقائي الذين غابوا.

لا شكّ أنّ العودة إلى سوريا في ظلّ هذا النظام الديكتاتوري الحالي مستحيلة، ويبدو أنّ كثيراً من الموجودين في هذا العالم لن يستطيعوا أن ينعموا برفاهية زيارة أماكن طفولتهم المفضلة، رفاهية الجلوس مع أحبائهم الطيبين، ورفاهية وضع وردة على قبور أحبائهم المتوفين. لكن، هل هذا السبب كافٍ لإعادة ضبط مصنع المخ البشري كي لا يتذكر تلك الأشياء؟ لا أعتقد ذلك. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard