شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
انتحرت بعد أن همست في أذن طفلها... الفن واكتئاب ما بعد الولادة

انتحرت بعد أن همست في أذن طفلها... الفن واكتئاب ما بعد الولادة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 18 أبريل 202211:00 ص

يُنظر إلى الأمومة بنوعٍ من القداسة، التي تُضفي على الأم هالة القديسيين وصفات الملائكة، وتنزع عنها أحلامها وصفات الضعف البشري، ولا يعلم كثيرون في بلداننا العربية بشأن "اكتئاب الحمل والولادة"، الذي تعاني منه واحدة من بين كل 6 نساء من اللواتي ينجبن الأطفال، مع تفاوت درجات الاكتئاب، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.

"الابنة المفقودة"

ونادراً ما نجد عملاً فنياً يتناول تلك العلاقة المعقدة بين الأم وأطفالها، ويسلط الضوء على مساحات الحرية المهدرة للأمهات، وصراعهن النفسي بين الشعور بالذنب، والسعي لسرقة بعض من الحرية والخصوصية، وبين حبهن الغريزي لأبناءهن، مثلما فعل فيلم "الابنة المفقودة" 2021 The Lost Daughter، للكاتبة والمخرجة ماغي جيلنهال، المقتبس من رواية للكاتبة الإيطالية "إيلينا فيرانتي".

يسلط الفيلم الضوء على الضغوط التي يضعها المجتمع على الأمهات والأمومة، إذ يضطرهن إلى عدم الشكوى، والابتسام، بينما يصرخن داخلياً.

يُسقط الفيلم القداسة عن الأمومة، كما يُظهر جانباً من الصعوبات التي تواجهها المرأة الطموحة، وكيف تعاني وهي تحاول التوفيق بين حياتها المهنية والزوجية، ومسؤوليات الأمومة الثقيلة، وكذلك الصراع النفسي الداخلي الذي تعانيه بعد تحول أطفالها إلى عقبة أمام مستقبلها وحريتها، وترددها ما بين الشعور بالذنب والندم بسبب أنانيتها المتخيلة.

"جرعة هواء"

برأيي العمل الأصدق والأجمل الذي تناول اكتئاب الحمل والولادة، الفيلم الأمريكي "جرعة هواء" 2021 A Mouthful of Air، وهو مبني على رواية للكاتبة إيمي كوبلمان، والتي تولت أيضاً إخراج الفيلم.

الرواية تحمل الاسم نفسه، وقد صدرت عام 2003، كتبتها المؤلفة مستلهمة تجربتها الشخصية، وجسدت ببراعة الممثلة الأميركية أماندا سيفريد، شخصية بطلة الفيلم "جولي ديفيس"، كاتبة ورسامة قصص أطفال، التي تُقدم العديد من الكتب للأطفال لمساعدتهم على تجاوز مخاوفهم، ولكنها تواجه في حياتها الشخصية مخاوف عدة، تضاعفت بسبب إصابتها باكتئاب ما بعد الولادة.

تظهر بمظهر المتماسكة، تبتسم أمام زوجها وعائلتها، وتبكي وحيدة مع طفلها الرضيع، لينتهي بها الحال بقطع شرايين يديها في الحمّام، وطفلها يشاهد الرسوم المتحركة... أفلام وتجارب شخصية لمبدعات عن اكتئاب ما بعد الولادة

تظهر البطلة "جولي" بمظهر المتماسكة، تبتسم أمام زوجها المحب وعائلتها، بينما تغرق في مخاوفها وهواجسها، وتشرع بالبكاء عندما تكون وحيدة مع طفلها الرضيع "تيدي"، حتى تصل الأحداث إلى ذروتها حين تستغل فرصة قدوم أخت زوجها وأطفالها، فتنفذ مخططها للانتحار بقطع شرايين يديها داخل دورة المياه، وهي تراقب طفلها الذي يشاهد الرسوم المتحركة على التلفاز.

لحسن حظ "جولي" يتم إنقاذها، ويتابع حالتها الطبيب النفسي الذي يجعلها تتعاطى مضادات الاكتئاب، ويدعمها زوجها، وتساعدها أمها في الاعتناء بالطفل، ثم تكتشف أنها حامل من جديد، وترفض إجهاض الجنين، وتتوقف عن أخذ الأدوية لأنها تضر بالطفل، وتزداد حالتها سوءاً، فمرة تترك طفلها داخل لعبة أطفال، وأخرى تصاب بنوبة هلع داخل السوبر ماركت، وتعجز عن التسوق، فتحمل طفلها، وتركض إلى البيت تاركة عربتها وحقيبتها الشخصية.

تهمس لابنتها الرضيعة بأنها ستكون حولها في كل مكان حتى لو لم ترها.

بعد الولادة، تصرّ بطلة الفيلم على عدم أخذ مضادات الاكتئاب بحجة إرضاع المولودة الجديدة، ولكن بمجرد انتهائها من كتابة ورسم قصة الأطفال التي تعمل عليها، حتى تقرر إنهاء حياتها إلى الأبد، مستغلة خروج الزوج والابن الأكبر للتنزه، بعد أن تهمس لابنتها الرضيعة بأنها ستكون حولها في كل مكان حتى لو لم ترها.

وفي آخر مشهد لها، تحدق في السماء بسكينة، وكأنها وجدت أخيراً سعادتها الخاصة بالرحيل عن هذا العالم، ورغم أن بطلة الفيلم كانت محاطة بالداعمين، وتخلو حياتها من أزمات باستثناء العلاقة مع أبيها، الذي اختفى وظهر فجأة، إلاّ أن وحش الاكتئاب يبتلع بطلة الفيلم لتدق كاتبته ومخرجته ناقوس الخطر بقوة، محذرة من خطورته.

"هنا" في "لعبة نيوتن"

ويبدو أن صُناع الدراما والسينما المصرية بدأوا يلتفتون مؤخراً إلى تلك القضية، ليشيروا إليها ضمناً في عدد محدود من الأعمال الفنية، أبرزها مسلسل "لعبة نيوتن"، الذي عُرض في رمضان 2021.

أدهشت الفنانة منى زكي الجمهور والنقاد بأداءها المميز، خاصة في أحداث الحلقة العاشرة من المسلسل لشخصية الأم "هنا"، التي تتعرض لولادة مبكرة، وهي وحيدة في الولايات المتحدة الأمريكية، لتكتشف في اللحظة نفسها أن زوجها ألقى عليها "يمين الطلاق"، فتصاب بانهيار عصبي، وتعاني من اكتئاب الولادة، خصوصاً بعد أخذ فريق الأطباء طفلها منها لوضعه في الحضانة بسبب معاناته في التنفس، فتقوم بتهديد الأطباء بأن تُقدم على قتل نفسها في حالة عدم السماح لها برؤية طفلها، وتدخل في معركة قضائية لإثبات أهليتها النفسية لرعاية طفلها.

أما مسلسل "ليه لأ؟" فأشار لـ"اكتئاب الحمل والولادة" عبر شخصية "رانيا"، التي فوجئت بحملها، وأصيبت بعد الولادة بحالة اكتئاب استمرت لسنتين، ولم تعالج إلاّ بعد طلاقها، وتركها حضانة البنت لوالدها.

أظهر السيناريو معاناة "رانيا" الأم من فوبيا تحمل المسؤولية، وحين قررت استعادة ابنتها، وهي في السابعة من عمرها، كانت تواجه صعوبات في التعامل معها.

نجحت الفنانة الشابة "سارة عبد الرحمن" في أن تجسد شخصية "رانيا" المركبة، التي أصابها اكتئاب الولادة، تاركاً لديها أثراً سلبياً جعلها تخفق في دورها كأم من ناحية وكزوجة من ناحية أخرى، ليكون المحرك لأفعالها الملتوية، إلاّ أنها حصدت تعاطف الجمهور في مشهد واحد من المسلسل، أظهر مدى ضعفها وانكسارها، واستسلامها لحقيقة كونها غير مؤهلة للقيام بمهام الأم.

شجاعة البوح والكتابة

تعد تجربة الروائية التركية إليف شافاق في كتابها "حليب أسود" الصادر عام 2007، هي الأشهر بين تجارب الكاتبات اللواتي عانين من اكتئاب الحمل والولادة، وقد ألهم الكتاب العديد من النساء حول العالم لفهم الأمومة بشكل أعمق، ولتجاوز تلك المرحلة السوداء.

وثمة أقلام نسائية عربية جسدت بعض جوانب تلك التجربة، مثل أحاسيس الذنب، والخوف، والقلق، أبرزهن الكاتبة إيمان مرسال، كتبت في "كيف تلتئم؟ عن الأمومة وأشباحها": “بمجرد تأكدي من الحمل الذي أردته بكامل إراداتي لم أشعر بالفرح الذي توقعته، سيطر علي طوفان من المخاوف والرعب من أن جسدي غير صالح للقيام بهذه المهمة".

اختبرت الروائية نورا ناجي الشعور ذاته، تحكي لنا عن تجربتها: “كنت أعيش في مدينة بعيدة في كوريا الجنوبية، وحيدة جداً، بلا صديق أو رفيق، لا أتقن اللغة، لا أستطيع السير وحدي في الشوارع، لا أستطيع شراء علبة عصير أو كوب قهوة من مقهى، لا أستسيغ الطعام، لا أطيق الرائحة".

"عانيت كثيراً خلال الحمل. كنت أصاب بالغثيان الصباحي حتى الشهر السابع. ولم أعد قادرة على بلع الطعام. وهناك في هذه المدينة، يرفض الأطباء منحك أدوية من الصيدلية دون وصفة طبية، ولو كانت مسكناً للصداع أو مكملاً غذائياً”.

وتضيف الكاتبة: “عدت إلى مصر في الشهر السابع، وضعت طفلتي، ثم عدت مرة أخرى وهي بعمر شهر واحد، لأكمل رحلتي مع الغربة، وعلى كتفي كائن ضئيل يتغذى عليّ، لم أشعر نحو ابنتي بمشاعر الحب والأمومة كما يصفونها في الأفلام والمسلسلات والقصص، شعرت أن حياتي انتهت، وأنني مجرد عائل لكائن يمتصني، وفي نفس الوقت شعرت بخوف مستمر على هذا الكائن، لا أنام بسببه".

"تحولت عيني إلى تجويفين ضيقين وسط هالات سوداء، لا أملك رفاهية الراحة، ولا القراءة، ولا الكتابة، ولا حتى المرض، كنت وحيدة ومحطمة"، "شعرت أن حياتي انتهت، وأنني مجرد عائل لكائن يمتصني"

"فقدت شهيتي ووزني، وتحولت عيني إلى تجويفين ضيقين وسط هالات سوداء واسعة عميقة، لا أملك رفاهية الراحة ولا القراءة ولا الكتابة ولا حتى المرض، كنت وحيدة ومحطمة، وقتها عملت كمحرر حر لموقع عربي، وتوليت ملف العنف ضد الأطفال ما زاد الطين بلة”.

وتعتقد نورا أنها لم تتخلص من اكتئاب الحمل والولادة إلا بعد أن بدأت في كتابة رواية "الجدار"، وضعت فيها كل مخاوفها، فتعافت بنسبة جعلتها تبدأ في استعادة حياتها، ثم عادت إلى مصر، وشرعت في رحلة الشفاء مع طبيب نفسي.

وترى نورا أن تلك التجربة الصعبة منحتها شجاعة البوح والكتابة، ربما صنعتها على ما هي عليه اليوم.

جرعات عاطفية حارّة

دخلت القاصة شيماء زايد تجربة الحمل وهي غير مستعدة نفسياً، بينما تبدأ حياة جديدة في مكان بعيد، وهي مضطرة للسفر بين محافظتي الجيزة والبحيرة لاستكمال المرحلة التمهيدية للحصول على درجة الماجستير في الأدب والنقد.

وتعمل شيماء في الوقت ذاته بمجال الجرافيك، وتستكمل مشروعها القصصي "قلب الصلصال" بعد حصولها على منحة تفرغ من وزارة الثقافة.

شعرت بفشل شديد في الكتابة والدراسة والعمل.

لم تنتبه شيماء في البداية لتأثير التغيرات الفسيولوجية والجسدية، وتسلل الاكتئاب إلى روحها حتى احتلها بالكامل، وشعرت بفشل شديد في الكتابة والدراسة والعمل وحتى في إقامة حياة أسرية سوية.

في هذا السياق جاءت طفلتها "نور"، تقول: "كنت على موعد مع امتحانات التمهيدي في نفس شهر ولادة نور، أدور في دوامات متعاقبة، طفلة لا تكف عن الصراخ، وزنها يتناقص، وكتب كثيرة علي أن أجتاز الامتحان عقب هضمها، ثم سحبني الاكتئاب لمساحات عميقة من الإحساس بالذنب".

"أنا لا أصلح للأمومة، والأقسى اكتسابي ما يقرب من خمسة وعشرين كيلو جرام، وبعد حصولي على منحة وزارة الثقافة بدأت أستعين بمتخصصين لتجاوز الاكتئاب".

قالت شيماء لنفسها: "لابد أن أتفهم نفسي أولاً وأحتويها حتى استطيع أن أنجو".

وكانت النتيجة، بعد التعافي نسبياً، استئناف العمل على رسالة الماجستير، وخرجت مجموعتها القصصية الرابعة " جرعات حارة "، التي جسدت فيها مشاعر الأمومة، وخيبات الأمل المرتبطة بالاكتئاب، وتفهمت آنذاك أن "الإبداع يولد من رحم المعاناة".

ولكن، هل تعافت كلياً؟

تقول: "مازلت أقاوم”.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard