شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"أشتري الهدية وأخبرهما بأنها من جدّتهما"... أمّهات في الغربة بعيدات عن أمّهاتهن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 22 مارس 202203:42 م

يأتي هذا التقرير كجزء من مقالات وتقارير عن الأمومة في الغربة

تجربتي مع الحمل ومن ثم الولادة والأمومة، في خطواتها الأولى، كانت بعيدةً عن أمّي، أنا التي تركت بلادي قبل سنوات اختياراً، وكانت العودة إلى "البيت" احتمالاً وارداً. لكن مع الأمومة، أصبحت مستحيلةً، فالبيت الآن، أصبح بعيداً عن البيت الأوّل، وعلى قدر ما حمل البعد تجارب وتغييرات جميلةً، على قدر ما حمل أيضاً أوجاعاً يوميّةً، تأخذ أشكالاً مختلفةً مع التجارب المتنوعة.

لكن مع الأمومة، هنالك وجع حاضر مع كل تفصيل فيها، أكثره حاجتي أنا الإنسانة إلى أمّي، وحاجتي أنا الأمّ إلى أمّي. ومنه، حاجتي أنا الأمّ إلى أن تشكّل جدة ابنتَيّ جزءاً أساسياً ومهماً من حياتهما. لكن البعد الجغرافي له محدودياته؛ فالمسافة ما بيني وبين أمّي ليست مشياً على الأقدام ولا متوفرةً دوماً، فهنالك بحث دائم عن أطر بديلة تجمع بين أمّي/ الجدّة وبين حفديتَيها، وبين ابنتيّ وبين جدّتهما، كي تحاول هذه الأطر أن تعوّض الخسارات المرافقة للمسافات والبعد، وأن تبني شكلاً ما من علاقة تعود بالحبّ والفائدة على كل الأطراف. والأهم، تجلب الحنّية إلى حيواتنا جميعاً.

مع عيد الأمّ الأوّل لي كأمّ، ووسط كل ما أفكّر فيه، أردت أيضاً أن أبحث عن أوجاع مشتركة مع أمّهات أخريات يعشن في الغربة/ الشتات/ المهجر، سواء اخترن ذلك أو اضطررن إليه.

مع عيد الأمّ الأوّل لي كأمّ، ووسط كل ما أفكّر فيه، أردت أيضاً أن أبحث عن أوجاع مشتركة مع أمّهات أخريات يعشن في الغربة/ الشتات/ المهجر، سواء اخترن ذلك أو اضطررن إليه. أوجاع تُبنى عليها أشكال بديلة من التواصل في هذا الزمن المحاصر بالكوارث السياسية والاجتماعية والبيئية. ماذا يعني أن نكون أمّهات بعيداً عن أمهاتنا؟ كيف نبني علاقات بين الحفيدات/ الأحفاد وجدّاتهن/ م؟ كيف نقرّب قيمة الجدّة إلى حيوات أبنائنا وبناتنا وهم/ هن بعيدون/ بعيدات عنهم/ ن؟

من خلال هذا التقرير، جمّعت بعض القصص لأمّهات من بلاد عربية مختلفة يعشن في أوروبا، وتحدثن عن حاجتهن الإنسانية إلى أمهاتهن، وكيف وجدن طرق تواصل بين أمومتهن اليومية وأمهّاتهن البعيدات جغرافياً.

الجارات في فرنسا أصبحن كالجدّات

بعد خروج مايا البوطي (39 عاماً، صحافية)، وزوجها من سوريا، بقيت والدة زوجها في البلد. حاولت مايا اختيار بلد يعيش فيه أهلها، فاختارت الأردن. وبالرغم من إقامة والدتها في بلد بعيد عن عمّان، إلا أنها تشجعت على الإنجاب وإنشاء عائلة مع زوجها، وذلك لأن والدتها قريبة من حيث المسافة. وجود والدتها كان عاملاً مساعداً خاصّةً في فترة الأمومة الأولى، إذ ساهمت معها في تربية ابنتها ودعمتها، خاصةً أن مايا كانت تعمل على تقديم رسالة الماجستير آنذاك. عندما انتقلت مايا وزوجها إلى فرنسا، كان عمر ابنتها سنةً، وصارت تكبر بعيداً عن جدّتها التي في سوريا وتلك التي في الأردن، لكن محاولات جمع الحفيدة بالجدتين، استمرت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

في حديث مع مايا لرصيف22، قالت: "تحكي ابنتي مع جدتيها بالفرنسية، وتفهم كل ما تقولانه لها بالعربية. في فرنسا، أصبحت جاراتنا هن جدّات ابنتي، وتحبّهن كثيراً، لكننا نحكي لها كل يوم عن جدتيها البعيدتين، إلى أن التقت بجدّتها التي في الأردن مؤخراً، وكانت متلهفةً للقائها بعد كل هذه السنوات، وبعد الخوف من أن تشعر بأنها أسطورة في خيالها الصغير".

وتتابع مايا: "حسب تعريفي للعائلة، فهي التي نختار أن نبنيها ونحميها ونرعاها، وأريد لابنتي أن تحبّ العائلة وتحبّ جدتيها، شرط أن تحبّها العائلة، وألا تكون عائلة تظلمها وتقمعها".

وأنا أتحدث مع مايا عن الجدّات، أخبرتني بأنهم في طريقهم لزيارة الجدّة في سوريا، وهي تتمنى أن تعرف ابنتها أن جدّتيها قويتان ومحبّتان، وأن تكبر وهي فخورة بتاريخ عائلتها البعيدة".

من خلال هذا التقرير، جمّعت بعض القصص لأمّهات من بلاد عربية مختلفة يعشن في أوروبا، وتحدثن عن حاجتهن الإنسانية إلى أمهاتهن، وكيف وجدن طرق تواصل بين أمومتهن اليومية وأمهّاتهن البعيدات جغرافياً

الفرق كبير بين جليسة الأطفال والجدّة

غادرت نهال حسام الدين (29 عاماً)، مصر وابنها في الثالثة من عمره. "اعتمدت على أمّي اعتماداً شبه كامل في ما يخص ابني"، تقول في حديث إلى رصيف22، مشيرةً إلى أنّ أمّها كانت ترعاه عندما كان عليها أن تعمل أو ترغب في الخروج خارج البيت أو النوم في مكان آخر.

بعد السفر إلى هولندا، أصبحت تجربة الأمومة بالنسبة لنهال صعبةً على صعيدين.

عن هذا تقول: "الأوّل أنه ما من أحد متاح بكل الحبّ كأمّي، كي يرعى ابني. أعتمد اليوم على جليسات أطفال، لكن بالطبع الفرق كبير بين الجدّة وجليسة الأطفال. أما الصعيد الثاني، فهو أني عندما أرى الأطفال في هولندا بصحبة جدّاتهم، يثير هذا في داخلي الشجون من أني حُرمت من وجود أمّي، وهي حُرمت من علاقتها بحفيدها التي كانت قويةً جدّاً، وأن ابني حُرم من حبّ جدّته غير المشروط".

تخبرنا نهال بأن علاقة أمّها بابنها في أثناء وجودها في مصر كانت قويةً جداً، وكانت تقرأ له قصصاً قبل النوم بإيقاع شبه يومي. ومع السفر، بذلت الأمّ مجهوداً كبيراً لمواصلة هذا التقليد. وتتابع نهال: "واصلت القراءة له كل يوم عبر مكالمة الفيديو، وفي أوقات كثيرة كان ابني يأخذ الموبايل معه إلى السرير لمحادثة جدّته وهي تقوم بقراءة قصّة له حتى ينام، وتبقى المكالمة مفتوحةً حتى تتأكد من أنه نام".

ماذا يعني أن نكون أمّهات بعيداً عن أمهاتنا؟ كيف نبني علاقات بين الحفيدات/ الأحفاد وجدّاتهن/ م؟ كيف نقرّب قيمة الجدّة إلى حيوات أبنائنا وبناتنا وهم/ هن بعيدون/ بعيدات عنهم/ ن؟

يتعلّم اليوم ابن نهال الكتابة بالعربية، محاولاً أن يكتب لجدّته رسالةً كي يرسلها عبر البريد، وقد اتفق معها على أن ينتظر منها رداً.

أصبح الأمان هوساً

تسكن ميساء هنلدية (فلسطين، 37 عاماً)، في فرنسا. أنجبت طفلها عام 2018، واشترطت عندها على والدتها عدم القدوم إلا بعد الولادة، كي تعيشا التجربة كثنائي.

وتتابع في حديث إلى رصيف22: "إلا أني وفور وصولها، فهمت لماذا يجب أن تكون أمّي بجانبي. خلال شهرين، لم أفعل شيئاً سوى الرضاعة وتدليل طفلي، ثم عادت أمّي إلى فلسطين، وبدأنا نعيش تجربة الغربة، أي يجب أن نفعل كل شيء وحدنا. أصبحت فكرة الأمان هوسنا. في البداية، لم نستطع الحصول على مكان في الحضانة، ولم أقتنع بأي جليسة أطفال، وكنت أقول دائماً 'مش مثل أمي'. فتركت عملي في المسرح، لأن أوقات العمل مسائية وفي نهاية الأسبوع، وكنت أردد مليون مرة في اليوم 'لو أمّي هون'".

لم تزُر ميساء عائلتها في فلسطين منذ 2019، وذلك بسبب جائحة كورونا، فتعويض العلاقة جاء من خلال التواصل اليومي عبر مكالمات الفيديو التي تحتوي حديثاً عن الشوق وقبلةً من خلف الشاشة، ومتابعة تطوّر طفلها باللغة العربية من خلال الحديث مع جدّته هناك، وتتابع: "وصل بي الأمر إلى أن أقوم بـ'سحر'، وأخرج حبّةً من الشوكلاتة من خلف الشاشة كهدية من التاتا". تنهي ميساء حديثها قائلةً: "لا أريد أن أصل إلى فلسطين وابني لا يعرف عائلته".

السعادة مع البعد

أما خلود رشيد، فانتقلت إلى إيرلندا من فلسطين بعد عامين من ولادة ابنها، ومنذ ذلك الوقت وهي بعيدة عن أمّها. تجربتها كأم في هذا السياق، صعبة ومليئة بالتحديات، حسب تعبيرها. وتضيف في حديث إلى رصيف22: "لو كانت أمّي بجانبي، لكان كل شيء أسهل. لكن في الوقت نفسه، أنا سعيدة بالبعد، إذ يمنحني مساحةً كاملةً لأن أكون مع ابني وأعطيه القيم التي قررنا تبنيها أنا وشريكي من غير أي تدخل. لكن البعد فيه غياب معنوي وعاطفي وحسّي".

في إجابة عن سؤال كيف تحافظ خلود على تواصل بين ابنها وأمّها، تقول: "نتحدث على الأقل مرةً أو مرتين في الأسبوع محادثاتٍ صوتيةً أو فيديو، وفي المناسبات الخاصّة أصوّر فيديو وأرسله إليها، وفي المناسبات الخاصة في البلد، تقوم عائلتي بالشيء نفسه. لكن، كلما كبر الأولاد، يصبح الحديث مع الجدّات أصعب. كما أن موضوع اللغة فيه تحدٍّ؛ يفهم ابني على أمّي، لكن صعب أن يعبّر عن نفسه بالعربي".

وختمت خلود حديثها قائلةً: "لو أمّي بجانبي، لكنت فكرت في طفل آخر، لكن ولأني في الغربة، قررت أني غير قادرة على إنجاب المزيد من الأطفال".

الاحتياج إلى الأمّ حتى لو لخمس دقائق

اضطرت بسمة مصطفى (صحافية، 32 عاماً، مصر)، إلى أن تترك بلدها إلى المنفى برلين، وهي أمّ لطفلتين وُلدتا في القاهرة. تحكي بسمة أن تجربتها كأم بعيدة عن أمها صعبة جداً، واصفةً إياها بـ"خط الأمان" بالنسبة إليها. وتتابع: "لكن منذ أن تركت مصر، فإن رفاهة الانهيار لي كأم وكإنسانة، معدومة تقريباً. كما أنه تمرّ عليّ لحظات أحتاج فيها إلى أمّي فقط، كما حين أمشي في الشارع أحياناً، وأشعر بأنه لا مكان أذهب إليه من كثرة ما أشعر بالعجز، وبأني محتاجة إلى أمّي حتى لو لخمس دقائق".

تخبرني بسمة بأنها في الوقت نفسه، لا تشارك هذا الإحساس بالضعف مع أمها، أو بصعوبة الحياة وهي بعيدة عنها، خوفاً عليها وخوفاً من أن تحزن كثيراً. وتتابع: "أشعر بأن أمومتي منقوصة عن غيرها، لأني أفتقد إحساس الحماية والأمان بعيداً عنها، ولأني أشعر كأم بأني في حاجة إلى حمايتها كي أحمي أطفالي".

تتحدث ابنتا بسمة يومياً مع جدتهما، كما ترسلان لها رسائل صوتيةً. عن هذا تقول: "هما حريصتان على التواصل معها بلا مجهود مني، وذلك لأنهما مرتبطان بها كثيراً. ألعابهما التي في مصر، تُرسل منها أمّي قليلاً كل فترة، وهذا يؤثر إيجاباً على نفسية ابنتيّ. وفي أحيان كثيرة حين لا تستطيع أمي إرسال هدايا لهما في المناسبات، أقوم أنا بشراء الهدية وأخبرهما بأنها من جدّتهما".

التواصل بالنسبة إلى بسمة بين ابنتيها وأمها مهم جداً لها، لأنها تريد أن تبقي هذا الارتباط بعائلتها في مصر، حتى اللقاء من جديد، بالرغم من صعوبته في ظلّ الظروف السياسية وكذلك الاقتصادية.

"لو كانت أمّي بجانبي، لكان كل شيء أسهل. لكن في الوقت نفسه، أنا سعيدة بالبعد، إذ يمنحني مساحةً كاملةً لأن أكون مع ابني وأعطيه القيم التي قررنا تبنيها أنا وشريكي من غير أي تدخل. لكن البعد فيه غياب معنوي وعاطفي وحسّي"

الثابت الوحيد في الحياة

أصبحت سارة النداف (سورية، ومترجمة أفلام سابقاً ومصممة أزياء مستقبلاً)، أماً في ألمانيا قبل أربع سنوات ونصف، ولم تلتقِ بأمها منذ سبع سنوات. "أغار دائماً عندما تكون أمّي مع بنات أختي، وأختي خارج البيت وتشعر بالأمان لأن أم بناتها الثانية، أي جدّتهن، موجودة معهن"، تقول سارة في حديث إلى رصيف22.

وتتابع: "أن أكون أمّاً عزبة بعيدةً عن أمي، أي ألا أشعر إلا بالقلق عندما أعمل أي شيء وحدي من دون ابنتي، حتى لو كانت في الروضة. وبما أني في الغربة، فهذا يعني أن عدد الأصدقاء محدود ومن النادر أن أكون مضطرةً إلى ترك ابنتي بعض الساعات مع شخص آخر. ودائماً أقول لو أمي هناك، لعشت حياةً طبيعيةً ولشعرت بالأمان للمرة الأولى بعد أربع سنوات ونصف".

وتتابع: "يومياً، وقبل أن أترك السرير صباحاً، نتحدث أنا وابنتي مع أمّي. من الضروري أن تتواصل ابنتي مع جدّتها، لأنها الثابت الوحيد والآمن في حياتنا".

الغربة وقوانين كورونا

تعيش رزان العزة (فلسطين، 35 عاماً)، منذ 13 عاماً في فرنسا. وقد أصبحت أماً في نهاية العام 2020 للمرة الأولى. في تلك الفترة، كانت تمرّ فرنسا بموجة كوفيد19 جديدة، وفُرض على المدينة منع التجوّل عند كل مساء.

إجراءات السفر والحصول على فيزا لدخول فرنسا بالنسبة إلى والدة رزان، كانت شبه مستحيلة. فأصبحت رزان، أماً وحيدةً مع طفلتها وزوجها. عندما وضعت القابلة ابنتها على صدرها للمرة الأولى، وجدت نفسها لا شعورياً تغنّي لها، "والغريب أن أوّل أغنية خطرت على بالي كانت 'يا رب تشتي وأروح عند ستي'"، تقول رزان في حديث إلى رصيف22.

"أن أكون أمّاً عزبة بعيدةً عن أمي، أي ألا أشعر إلا بالقلق عندما أعمل أي شيء وحدي من دون ابنتي"

وتتابع: "كنت أتكلم مع ابنتي كثيراً خلال الحمل وأغني لها هذه الأغنية تحديداً، والتي خطرت على بالي في خضم مشاعر مختلطة عشتها فور الولادة. بكيت كثيراً في أوّل أسبوع لي من الأمومة. لا أعتقد أن الهرمونات وحدها هي السبب، لأني كنت فعلاً مفتقدةً وجود أمّي إلى جانبي. وكأن الشخص الوحيد الذي كان من الممكن أن يفهم ما أشعر به في ذلك الوقت، أمي".

عن التواصل بين ابنتها وأمّها، تقول رزان: "ترى ابنتي جدّتها وتتفاعل معها على الأقل مرتين في الأسبوع عبر شاشة الهاتف. في البداية كنت قلقةً من تعلّقها بالهاتف، لكن هذه هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لها للتواصل مع جدّتها، وبالنسبة إليها الهاتف هو للحديث من خلاله مع عائلتي فحسب. طفلتي عمرها الآن 14 شهراً، وهي تميّز جدّتها جيداً، حتى أن كلمة 'تيتا'، كانت ثالث كلمة نطقتها".

فقدان التواصل مع الأمّ

لـ ف.ل (38 عاماً) سورية ومقيمة في برلين، حكاية مختلفة بعض الشيء. فهي أصبحت أماً في العام 2015 في ألمانيا وهي بعيدة عن أمّها. لكن البعد عن الوالدة لم يكن جديداً بالنسبة إليها، فهي تعيش بعيداً عن أمها منذ عام 1998، عندما غادرت والدتها سوريا متجهةً إلى دُبي.

في حديث إلى رصيف22، تحكي ف.ل، أن تجربتها مع الحمل كانت أسهل مما توقعت. "كنت بعيدةً عن مجتمعي، لكني كنت في ظروف مريحة نفسياً؛ أقرأ وأحصل على معلومات، وكان العالم في ألمانيا جديداً، وكان أفضل من أن أكون وسط مجتمعي"، تقول.

والدة ف.ل.، كانت حاضرةً في أثناء ولادتها الأولى، لكن حضورها لم يكن مريحاً بالنسبة لها. وتتابع: "بعد شهور من ولادة ابني، ازداد غضبي تجاه أمّي. غضب له علاقة بتعاملها معنا في طفولتنا. وعندما قررت مشاركتها مشاعري ومشكلاتي وأنا صغيرة، رفضت أن تصغي، وكانت تقول لي إني ما زلت أعيش في الماضي. أحب أمّي، لكن ما من تواصل حقيقي بيننا، لأنها لم ترَ أني أيضاً أمر بمشكلات عليها مراعاتها كأم".

وتضيف: "عندما رأيت ابني، وكان عمره بضعة أيام، عرفت أني أحبّه كثيراً، لكن الأكثر دهشةً هو معرفة أنه يحبّني ويحتاج إليّ. الطفل يحبّ أهله. لكني لم أعش طفولتي في بيئة محبّة، ولذلك أشعر انه من الأفضل أني أربّي ابني وابنتي بعيداً عن أمّي، على الرغم من أني أتمنى لو كانت قريبةً أكثر. ابناي يتواصلان معها باستمرار، وأحاول في كل زيارة لها أن أتجاهل مشكلاتي معها، لأني أريد علاقةً طيبةً بينهم".

ترى ف.ل.، أن البعد عن أمها جعلها تعتمد على نفسها أكثر، وتكتشف نفسها كأم من دون قلق من حولها. وتتابع: "أنا اليوم في برلين، ولا أشعر بأن مجتمعي يلاحقني في رأسي، ليس أمي مباشرةً، بل كل المجتمع الذي تربيت فيه. وهذا أفضل على مستويات عديدة. حتى طرق التربية التي مارسها أهلنا علينا، أعمل جاهدةً على محوها من ذاكرتي. على سبيل المثال، عندما يكسر أبنائي غرضاً في البيت، كيف يمكن بدلاً من أن أصرخ عليهم (كيفما عوملنا)، أن أبلع ريقي وأتنفس ومع كل الغضب الذي في داخلي أن أحكي لهم 'تعالوا نكنّس سوا"، لأني لا أريد أن أصرخ عليهم كما فعل أهلي في الماضي معي. وهذا من إيجابيات البعد عن أمّي".

"الأم هي مصدر الأمان، والأمان هو سرّ أي نجاح. في البعد الجغرافي عن هذا الأمان أو فقدانه، تصبح نسبته قليلةً ونبدأ بالبحث عنه. وهذا ما يحدث معنا في الغربة. الكثيرات منا يبحثن عن 'أم بديلة'، ونكوّن مشاعر أخرى تجاه بعض الأشخاص حولنا لنعوض مكانياً بُعد الأم أو فقدانها"

غياب مصدر الأمان

في حديث مع المستشارة النفسية السورية والمقيمة في تركيا، علا مروى، حول تأثير العيش بعيداً عن الأمهات، تقول لرصيف22: "الأم هي مصدر الأمان، والأمان هو سرّ أي نجاح. في البعد الجغرافي عن هذا الأمان أو فقدانه، تصبح نسبته قليلةً ونبدأ بالبحث عنه. وهذا ما يحدث معنا في الغربة. الكثيرات منا يبحثن عن 'أم بديلة'، ونكوّن مشاعر أخرى تجاه بعض الأشخاص حولنا لنعوض مكانياً بُعد الأم أو فقدانها، كمصدر أمان مكاني يملأ هذه الفجوة".

وتتابع: "الأم وأم الأم هما مصدر الأمان الأوّل، والأمان يمنحنا الثقة، وفي وجود الثقة، نبني حيطاً متيناً معززاً بالبناء، يكون كالسند، لكن إن كان هذا الحائط بمثابة كرتون أو لوح خفيف، سأكون حريصةً وأنا أسند ظهري إلى الخلف، لأنه لن يسندني. هذه المشاعر نعيشها يومياً، وللأسف، خوفنا من فقدان مصدر الأمان هذا، حتى ونحن بعيدات، يشكّل لدينا أزمةً. أنا يومياً أعيش مع الأسئلة: 'ليش هني مش معي؟ ليش أمي بعيدة'؟...".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard