شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
شرق المتوسط... بلاغة الحشد المقبل على احتمالات الغرق والنجاة

شرق المتوسط... بلاغة الحشد المقبل على احتمالات الغرق والنجاة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 15 مارس 202203:55 م

تستضيف صالة يوروبيا في باريس معرضاً للفنان التشكيلي السوري أسعد فرزات بعنوان "حكايات مصورة من شرق المتوسط"، المستوحى من قصيدة الشاعر السوري نوري الجراح، "الخروج من شرق المتوسط" المنشورة عام 2019، القصيدة الملحمية التي ستصدر قريباً في طبعة مزدوجة بالعربية والفرنسية، وسيقام في هذا الشهر في الصالة ذاتها أمسية لقراءتها باللغتين.

الملفت في المعرض أن لوحات فرزات لا تُترجم قصيدة الجراح، فالأخيرة عتبة نحو تحليق المخيلة واللون في فضاء التراجيديا الإنسانية للسوريين، لنرى أنفسنا أمام لوحات مستقلة في ذاتها، يحضر فيها طيف القصيدة، لتكتسب بعدها معالمها الخاصة، وهذا ما يتضح حين نطلع على تجارب ومعارض فرزات السابقة، فالأخير يُوصف بأنه "فنان البورتريه" إذ تحتل الأوجه، على اختلاف تكوينها وملامحها ومُحيّاها، مكانة واسعة في إنتاجه الفني، لكننا الآن، أمام الحشد، لا أوجه نراها في اللوحات، "الجميع" يتماهى في القدر الجماعي وينظر نحو البحر، مساحة الحلم والموت.

تستضيف صالة يوروبيا في باريس معرضاً للفنان التشكيلي السوري أسعد فرزات بعنوان "حكايات مصورة من شرق المتوسط"، المستوحى من قصيدة الشاعر السوري نوري الجراح، "الخروج من شرق المتوسط" المنشورة عام 2019

الانتقال من لحظة الوجه إلى زمن الحشد يرتبط غالباً بالمأساة السورية نفسها، أو ربما هو تعبير عن سؤال جمالي يحاول فرزات طرحه، كيف يمكن رصد "أوجه" الجميع ضمن إطار اللوحة، يتضح الأمر حين التحديق في لوحات المعرض، كل ضربة ريشة، فرد، أو ربما أسرة، كلها تقف بمواجهة "البحر"، ذاك الذي تختلط حدوده مع الأجساد، لا الأوجه فقط، والملفت أن لا ظلام أمام البحر/ الحلم، بل نور من نوع ما، أمل بالرحيل/ النجاة، أو ربما كما نقرأ في القصيدة: "كان أن كنتُ/ وكان البحر نافذتي وصوتي والشراع/ والوقت جندي من الزبد/ وحطام آلهة على الألواح". و"تَسْطَعُ الشَّمْسُ عَلَى مَوْتَى يَطُوفُونَ الجِوَارَ/ لاَ أَرَى وَجْهِي/ وَلاَ وَجْهَ أَحَدْ".

الطفو- الغرق- الهواء

نتلمس في اللوحات تحولات الجسد السوري في البحر، هو يطفو، يغرق، لا أرض ثابتة تحته، فالماء يتركه معلقاً بين موتين، موته المادي، وموت الحلم نفسه، وأيضاً "امرأةٍ هربتْ بها موجةٌ/ يداها غُصنان مكسورانِ على داليةْ/ وياسمينُ شَعْرِها أرجوحةٌ للزبدْ"، حتى الشاطئ نفسه، خط اليابسة الأخير، يلتهم خطوات الحشد المقبل على الرحيل ويهدد قراره بالبقاء أو المخاطرة، مغوياً إياه بالنجاة، وكأن لا عودة إلى المدينة، "كَأَنَّ الهَوَاءَ فِي دِمَشْقَ حُطُامُ أَجْسَادٍ وُحُطَامُ أَصْوَاتٍ".

نتلمس في لوحات الفنان السوري أسعد فرزات تحولات الجسد السوري في البحر، هو يطفو، يغرق، لا أرض ثابتة تحته، فالماء يتركه معلقاً بين موتين، موته المادي، وموت الحلم نفسه

مع ذلك يبقى أمل الغريق/ الحالم وحتى الفنان، معلقاً بالهواء، مادة النفس/ الحياة، العنصر العصيّ على التشكيل والتأطير، وكأن هناك هرمية لذراته، يفقده الغريق، يكنزه مدللاً إياه، يحبسه على الشاطئ، أما فرزات، فيمكن عدّ أنفاسه بتأمل ضربات الريشة، إذ يقول في رسالة مفتوحة إلى نوري الجراح:

"كلما تعمقت أكثر بفضاء الكلمة، شعرت أنها ورطة جميلة منحتني رؤية ذهنية مختلفة تماما عما أنجزته من تجارب سابقه". كلمة ورطة هنا مثيرة للاهتمام، أليس الغريق نفسه متورطاً في جسمه وحلمه محاولاً إنقاذه باحثاً عن الهواء؟ أليس التشكيلي نفسه متورطاً في اللون باحثاً عن "نفس" بين الحشد، حيث لا مكان للكلمة؟ هي مجرد عتبة كما القصيدة فـ"لاَ تَقُولِي لِيَ شَيْئاً، لاَ تَقُولِي أَيَّ شَيْءٍ/ نَحْنُ فِي القِيعَانِ غَرْقَى/ بِرِئَاتٍ مَزَّقَهَا الهَوَاءُ..".

القارب: نجاة مؤقتة في الأزرق

يظهر القارب عدة مرات في لوحات فرزات، يحمل ما يحمل من حشد يحاول النجاة ضمن أزرق يهدد من يطفو بألوان الغرق، كما يظهر مرّة كقارب ورقي يدلل أحلام أطفال مهددين بالأزرق أيضاً، نستخدم فعل "يظهر" هنا، كون القارب نفسه مهدد بالاختفاء، إما يبتلعه البحر أو أجساد من تعلق به، لكن الحشد الذي تخطفه الأمواج في اللوحات، يتبنى القارب كآخر فضاء للحياة، في ذات الوقت هو فضاء للذاكرة، إذ يمكن أن نتأول على عنوان المعرض "حكايات مصورة" لنسأل:

أي حكايات هي تلك التي يختزنها الحشد؟ متى تروى؟ من يستمع؟ هذه على الأرجح أكثر من حكايات، ربما هي ضربات من ريشة عملاقة، هي القدر الذي به كُتب الخروج الدامي لشعب من أرض يسكنها إلى عراء شاسع يقبع ما وراء تلك الأرض، ليعيد السوريون بجسدهم الجماعي، وقد استقبلهم عماء البحر في رواية حديثة، لكنها أشبه بما حدث للطرواديين في الزمن الغابر.

الملفت أن القارب نفسه يتحول إلى محطة هامة في حكايات الناجين والهاربين من الموت، لكل مغامرته، ومأساته، وفرحه أيضاً، في ذات الوقت "نفسه"، فالحكايات تحمل بالأنفاس، تروى وتتناقل، تُلفظ وتُسرد، يكتبها الشاعر نوري الجراح، يشكّلها الفنان أسعد فرزات، لتبقى اللوحة في النهايةً، علامة على تلك الحكاية، تلك الأنفاس التي استهلكت في القارب بانتظار احتمالات نجاة من لا أوجه لهم، أولئك الذين باحتشادهم وسعيهم للحلم أضحوا "حِكَايَةَ كلِ يومْ".

ماء يتأمّل ماء

"لاَ نَهْرَ فِي دِمَشْقَ/ لاَ نَهْرَ فِي دِمَشْقَ / سِوَى دَمِ التَّارِيْـخِ يَسْفَحُهُ الغُرُوبُ/ وَالوَاقِفُونَ فِي الضِّفَافِ يَقْتَلِعُونَ عُيُونَهُمْ بِالمَخَارِزِ ويَرْمُونَها في النَّهْر"ِ

نتحذلق (تحذلق: ادّعى أكثر مما يعرفه) حين نتأمل في المعرض، نسأل أين يقف الذي نرى بعينيه اللوحات، على أي مسافة هو مما يحدث، أهو من الحشد، أم في آخره بانتظار دوره لتلبية دعوة الماء؟ نطرح هذه الأسئلة كون كل من تمسه المأساة في سوريا قادر على اكتشاف "وجهه" بين ضربات ريشة فرزات، ليظهر الشاعر نفسه في المخيلة، ينادي الرحالين أن ارحلوا، فلِكَلٍ حُلُم بأن ينجو بعيداً عن أنهار الدم.

نشتد في التأويل هنا، ونفترض أن عيني من يتأمل الحشد تدمعان، غشاوة ماء الدمع تهدد البصر نفسه، وكأن ذاك الذي يحدق أمام مائين، ماء عينيه وماء البحر، وكلاهما يهددان إدراكه، أحشد هذا أم بحر؟ أقوارب تلك أم جزر؟ نتحذلق أمام الأسلوب الذي يتبعه فرزات كوننا أمام مأساة يختبرها الشاعر والتشكيلي، كل من موقعه في مغامرة الجمال والابتكار وموضوع اللوحة نفسها، فالألم الذي اختبر(نا)ـه لا يوصف، بل يجب أن نبتدع له أسماء لم توجد في القواميس، كونه ألماً لا يقوم على التعاطف فقط، بل يمتد إلى كل جسد حيّ عبر الزمن، ولا يمكن أن يبقى أسير اللحظة فقط.

"لاَ جَبَلٌ هُنَا وَلاَ مَدِينَةَ"

يوظّف فرزات، في واحدة من اللوحات، الأبيض والأسود فقط، يبدو للمتأمل بعد حين أننا أمام نظرة من أعلى إلى مدينة دمشق القديمة، ببيوتها المتراصة، وصفيحها، وحاراتها الضيقة وأفقها الذي تتخلله المآذن، لا نحاول هنا أن نصف ما نراه، أو نفسر معناه، لكن المدينة التي أضحت فضاء للمأساة، تستفز في المشاهد الذي يألفها ذاكرته، إذ نتأملها فتحدق بنا، ريشة فرزات تضرب في الذاكرة، تكشط الغبار والدماء الجافة في محاولة لاستعادة المدينة التي فقدناها/ فقدها، في ذات الوقت، يطلّ نشيد الشاعر منادياً من بعيد: "لاَ نَهْرَ فِي دِمَشْقَ/ لاَ نَهْرَ فِي دِمَشْقَ / سِوَى دَمِ التَّارِيْـخِ يَسْفَحُهُ الغُرُوبُ/ وَالوَاقِفُونَ فِي الضِّفَافِ يَقْتَلِعُونَ عُيُونَهُمْ بِالمَخَارِزِ ويَرْمُونَها في النَّهْر"ِ.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard