شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"كم تمنيت أن أهربَ إلى أبي مرةً واحدةً بدلاً من أن أهرب منه"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 4 مارس 202205:10 م

"أستطيع شمّ رائحته الآن... هل تستطيعين شمّه؟"؛ بهذا السؤال افتتحت تسنيم حديثها معي، عندما هززت برأسي وكأنّي أفهم ما تعنيه، وهذا لتشعر بأنّي أشاركها اللحظة. ولكن لم أكن أعرف أنّي عندما أصل إلى منتصف الحديث، سأشاركها الروائح التي أخبرتني عنها.

تتفحّص تسنيم المقهى الذي كنّا جالستَين فيه، وكأنّها تخاف من وجود رجل مخابرات أو عنصر أمني، وتقول: "كنتُ أخاف من صوت باب سيارته، وكلما اقترب من باب البيت، كنت أدسّ رأسي كسلحفاة تحت السرير، وأهرب منه إلى آخر نقطة ممكنة في المنزل. كانت ليديه رائحة جلد مختلفة عن بقية الرجال، وكانت لستراته الجلدية رائحة تشبه الغضب. هل شممتِ يوماً رائحة الغضب أو القسوة؟ إنها رائحة أبي. كنتُ أقف أمام مرآة الحمام، وأفرك وجهي الذي يشبهه، وأتعطّر، لكنّها بقيت عالقةً بي، ومتشبثةً كقرادة لا ترحل".

هل شممتِ يوماً رائحة الغضب أو القسوة؟ إنها رائحة أبي.

تقول تسنيم إنّ كل الآباء الذين عرفتهم وسمعت عنهم في كفّة، ووالدها في كفّة أخرى. شيءٌ ما كانت تكتسبه كلّ يوم. شيء ما كان يخبرها بأنّ لكل فتاة في هذا العالم أباً إلا هي. تحدثني بابتسامة عن أبيها الذي لا يضحك أبداً. يا إلهي إنها تبتسم مع أشدّ الذكريات قسوةً، وكأنها تنتقم من البؤس!

تُكمل تسنيم: "أبي لا يبتسم ولا يحنّ ولا يبدي أيّ ردة فعل تجاه أي شيء، سوى المزيد من الصراخ والغضب. كل الأشياء التي يفعلها الأبناء في العالم كانت ممنوعةً في منزلنا، كالضحك، واللعب، ومشاهدة التلفاز، واستخدام الهاتف أو الجوال، ومحادثة بنات الجيران وأولادهم، وحتى وضع المكياج. كنّا تماماً كعساكر أبي".

كنا جاهزين دائماً لأي تحقيق مفاجئ، ولأي تفتيش مفاجئ. نقف كحرف الألف أمام أبواب الخزانات، وأعيننا على الأرض، ورؤوسنا مطأطأة، وأجوبتنا حاضرة من دون تردّد، إذ كان علينا أن نجيب في جزء من الثانية على أي سؤال يخطر على بال أبي. لا نملك رفاهة التفكير في الأسئلة، ولا نعرف على ماذا نُعاقَب، أو السبب وراء منعنا من هذه الأشياء كلّها". تكمل تسنيم ولا تزال عيناها تهيمان في المقهى ورأسها يلتفت يميناً ويساراً، وما زال صوتها يهمس.

"أبي لا يبتسم ولا يحنّ ولا يبدي أيّ ردة فعل تجاه أي شيء، سوى المزيد من الصراخ والغضب. كل الأشياء التي يفعلها الأبناء في العالم كانت ممنوعةً في منزلنا، كالضحك، واللعب، ومشاهدة التلفاز، واستخدام الهاتف أو الجوال، ومحادثة بنات الجيران وأولادهم، وحتى وضع المكياج. كنّا تماماً كعساكر أبي"

"ستغيّرين اسمي في المدوّنة، صحيح؟".

أهزّ برأسي: طبعاً، فتُكمل:

"لقد كان يحبّنا، وما زلت إلى اليوم متأكدةً من ذلك، ولكنّه، لسبب ما، لم يكن يعرف كيف يبدي هذا الحب. كان أبي محققاً عسكرياً وهذا ما جعله بهذه القسوة... القسوة التي لا تسمح له بأن يكون أباً ولو لمرة واحدة. كان يخاف من شيء لا نعرفه نحن، و'نحن' هنا عائدة إليّ وإلى إخوتي. لن أقول إنّ أبي كان ذكورياً، فهو لم يميّز بيني وبين إخوتي الذكور، بل كنا كلنا في الحفرة نفسها سواسية. كان أخي صغيراً عندما قال لي إنّه يتمنى أن يحفر ثقباً صغيراً في الباب، ليهرب من أبي ويختبئ في مكانٍ ما".

وتردف تسنيم: "كان أبي يرسم لي طريقي إلى المدرسة على ورقة، وعلى الرغم من أنّي كنت أعود إلى المنزل في أثناء دوامه وعمله، إلا أنّي كنت أضعفُ من أن أقطع شارعاً غير مرسوم على خريطتي. كان، من دون أن يضطر إلى الكلام أو الضرب، يخبرني بأنّي سأخطئ يوماً، وهذا ما جعلني إنسانةً حذرةً ربما. كانت صديقاتي يعرفن مدى خوفي ورعبي من أبي، فكانوا يصرخون وسط الطريق: تسنيم! أباكِ أباكِ! أهربي! فأقف في مكاني منتظرةً صفعةً على وجهي أو شتيمةً ما.

هل تعلمين كم مرّةً تمنيت لو في وسعي قول: "نادولي بابا إنْ حدث أمر ما"؟ ولكن في كل مرّة كنت أقول: "أمانة لا تقولوا لبابا".

كنتُ أقضي حصصاً عديدةً أتوسّل زميلاتي لئلّا يخبروا أبي عن خطأ عابر قمت به. وكان منهنّ من يقُمن بتهديدي باستمرار. هل تعلمين كم مرّةً حللت واجب إحداهنّ لأنها قالت إنها ستخبر أبي بأمرٍ لم يحدث؟!

هل تعلمين كم مرّةً تمنيت لو في وسعي قول: "نادولي بابا إنْ حدث أمر ما"؟ ولكن في كل مرّة كنت أقول: "أمانة لا تقولوا لبابا".

كان يسأل صديقاتي عنّي، لأنه يصدق كل الناس إلا أبناءه وبناته. كل الأشخاص أصدق منّا ومن أمي ولو كانوا أسوأ أهل الأرض.

يا الله كم تمنيت أن أهربَ إليه مرّةً واحدةً، بدلاً من أن أهرب منه.

لم يجبرنا يوماً على الزواج أو على الدراسة، فقد كان يتعامل معنا بالصراخ فحسب. وكنا نتلقّى الموافقة أو الرفض من نظرة".

تسألني تسنيم مجدداً: "ستغيّرين اسمي في المدوّنة، صحيح؟".

لم أهزّ برأسي هذه المرة، بل أجبتها: "نعم بكل تأكيد"، فابتسمت.

وتكمل تسنيم: "أبي لا يكرهنا، بل يكره العالم من حولنا، وكانت هذه طريقته لحمايتنا. كان يحمينا من كل الأشياء التي لا يعرفها أحد في البيت إلا هو. كنا نعتقد بأنه يعرف كل شيء. يعرف كل الشوارع، وكل الأشخاص، والأماكن، والنساء، وبأنّه يعلم الغيب، فنخاف من أن نفكّر في الممنوع.

أبي، ببساطة، كان يتمنى لو يستطيع وضعنا في زجاجة مغلقة.

 "أبي لا يكرهنا، بل يكره العالم من حولنا، وكانت هذه طريقته لحمايتنا. كان يحمينا من كل الأشياء التي لا يعرفها أحد في البيت إلا هو. كنا نعتقد بأنه يعرف كل شيء. يعرف كل الشوارع، وكل الأشخاص، والأماكن، والنساء، وبأنّه يعلم الغيب، فنخاف من أن نفكّر في الممنوع"

كنا ننام في غرفة المعيشة، ونفرد فراشنا بجانب بعضنا البعض وكأنّنا ننام في مهجع. تركلني أختي بأصابع قدميها، وتهمس في أذنيّ ونضحك... وأتمنّى أحياناً أنْ يبتلعني سريري قبل أن يسمع والدنا ضحكتنا".

"عمري الآن أربعون عاماً"، تكمل تسنيم وهي تمزّق محارم ورقيةً بين يديها. "إلى الآن أبحث عن أسباب لبرّه، ولكنّي غير قادرة على طرد جميع الأسئلة من رأسي. لماذا كان علينا أن نخبّئ أحذية بنات الجيران تحت وسائدنا، ونخبّئ بنات الجيران خلف الستائر؟ لماذا لم يقم بتربيتي؟ لماذا لم يمسح على شعري مرّةً؟ لماذا لم يترك فرصةً واحدةً لكي يستصغرنا أمام الآخرين إلا وقد فعل؟! لماذا كان يجامل كل العابرين والأقارب على أكتافنا؟ لكنه يحبنا!

تنظر إلي: هل تشمّين الآن؟ إنها رائحة أبي يوم الجمعة. هذه الرائحة تعني أن أبي ليس غاضباً، بل ينتظر ضيفاً يحبه، وهذا يعني سيلاً من الابتسامات الكاذبة، لكنّها ابتسامات على كل حال.

اليوم نحن في أوروبا في مدينة بعيدة، وصار أبي فجأةً أباً.

أخذ الشيب يشقّ طريقاً إلى شعر أبي ولحيته، وباتت تجاعيده قاسيةً ومختلفةً عن التجاعيد التي تظهر على وجه أي عجوز آخر. أمسكُ بيده وأركض به إلى مواعيد الأطباء والبلدية، وأناقشه في الممنوعات وأطرح وجهات نظري عليه، ويجيبني في مرّات عديدة ويرميني بكأس الشاي أمامه، ولكن أصبح أكثر وداً وعطفاً. ينسى أحياناً أنّي أربعينية، وينسى أحياناً أنّي كبرت، لكنّي لم أنسَ أنه أبي. لم أسامحه حتى هذه اللحظة، ولكنّي أحبّه وهذا ما لا أفهمه. إنّي أحبه وأخاف عليه، وكل الأشياء التي كنت أخاف من القيام بها وأنا صغيرة، لا أقوم بها الآن، ليس خوفاً منه، بل خوفاً عليه". تنظر تسنيم إلى الشارع ثمّ إلي، وتسألني: "هل تعرفين متلازمة ستوكهولم؟ أنا متأكدة من أن هناك متلازمةً اسمها "أعيش تحت جبروت أبي".

اليوم نحن في أوروبا في مدينة بعيدة، وصار أبي فجأةً أباً.

بدأتُ أشمّ رائحةً غريبةً بينما أشرب قهوتي وأغلق جهازي اللوحي بعد تدوين حكايتها. عرفتُ حينها أنّ لذكرياتها رائحةً منفردةً تشبه رائحة تصنيع الجلود في ليلة ماطرة تتخللها رائحة بواري مدفأة مازوت.

متى سيفهم الآباء أن التعبير عن الحب أسهل وأبسط من محاولات إخفائه؟ لماذا يغطوننا عندما ننام، بينما، بكل صدق، نحتاج إلى لمسة دافئة قبل النوم؟

لماذا علينا أن نبحث عن الحب في مصروف يومي، وكيلو موز وقطعة شوكولا، بينما يمكن للحب أن يظهر في ابتسامة على غفلة، وحضن عند الرسوب، وضحكة عند الشوق؟

ها نحن اليوم نبالغ في إظهار مشاعرنا لأطفالنا. نبتسمُ في وجوههم من دون سبب ونعانقهم من دون سبب، ونلغي من قواميسهم المفاهيم الخطأ والعادات القديمة، ونحبّهم قبل النوم وبعده. نخبّئ كل الدموع والحسرات والشهوات، ونظهر أمام أطفالنا بكامل الإيجابية والوردية، ونضع تلال السواد والغضب خلفنا لنقابلهم بأذرعٍ مفتوحة، علّنا لا نحوجهم إلى استننتاج حبّنا بل إلى لمسه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard