شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
سيدة الجنة... دراما نمطية لتاريخ مختلف عليه

سيدة الجنة... دراما نمطية لتاريخ مختلف عليه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 7 مارس 202201:00 م

في العاشر من ديسمبر الماضي، بدأ عرض فيلم سيدة الجنةThe Lady of Heaven، على شاشات العرض السينمائية في الولايات المتحدة الأمريكية.

الفيلم الذي أشرف على كتابته، رجل الدين الشيعي المتطرف ياسر الحبيب، يحكي سيرة السيدة فاطمة الزهراء ابنة النبي محمد، من خلال مجموعة من الروايات المعتبرة في المذهب الشيعي الإمامي، الأمر الذي يتعارض بشكل واضح مع السردية التاريخية التقليدية الشائعة في الأوساط السنية.

على الرغم من صعوبة عرضه بشكل رسمي في قاعات السينما في الدول العربية، فإن انتشار نسخة الفيلم على بعض المواقع الإلكترونية، قد أحدث نوعاً من أنواع الجدل المذهبي السني- الشيعي، الأمر الذي قد يزيد في الفترة القادمة.

مشروع الفيلم: بين ياسر الحبيب ومعارضيه

ياسر الحبيب هو رجل دين شيعي اعتاد أن يثير الكثير من الجدل في الأعوام الماضية. ولد في الكويت عام 1979م، وتدرج في المدارس والمعاهد التعليمية النظامية، كما تلقى العلوم الدينية الشيعية في مدينة قم الإيرانية.

بعد عودته إلى الكويت، عُرف الحبيب بإثارته للتعصب المذهبي، وأدى ذلك إلى إثارة حالة من الغضب والسخط ضده، الأمر الذي حدا بالحكومة الكويتية للقبض عليه، لتصدر بحقه بعض الأحكام القضائية التي قضت بسجنه نحو عشرين عاماً. بعد عدة أشهر من السجن، تم الإفراج عنه في ظروف غامضة، فسافر إلى إنجلترا وأسس هناك "هيئة خدام المهدي"، التي ركزت أنشطتها في الدعوة إلى المذهب الشيعي الإمامي، وأعلن في 2016 عن مشروع إنتاج الفيلم المثير للجدل.

بحسب المعلومات المتوافرة عن الفيلم، فإن الشيخ ياسر الحبيب هو الذي أشرف بنفسه على إعداد السيناريو والحوار، فيما قام إيلي كينج بإخراجه، في الوقت الذي شارك فيه عدد كبير من الممثلين من إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية.

أشرف رجل الدين الشيعي المتطرف ياسر الحبيب على كتابة فيلم "سيدة الجنة" الذي يحكي سيرة فاطمة الزهراء ابنة النبي محمد، من خلال مجموعة من الروايات المعتبرة في المذهب الشيعي الإمامي، الأمر الذي يتعارض مع السردية التاريخية التقليدية الشائعة في الأوساط السنية

الفيلم الذي امتدت أحداثه على مدار ساعتين وواحد وعشرين دقيقة، بلغت ميزانيته خمسة عشر مليون دولار اميركي، وهو المبلغ الذي تم جمعه من حصيلة التبرعات الشيعية التي نظمتها قناة فدك الفضائية -التابعة لياسر الحبيب- بدءاً من 2016، واستمرت لما يقرب من أربع سنوات كاملة.

الاعتراضات على الفيلم بدأت منذ فترة مبكرة، إذ وجهت له الانتقادات بسبب موضوعه المثير للجدل، فأعلن الكثير من السياسيين ورجال الدين معارضتهم لمشروع إنتاجه، وعدّوه مؤامرة غربية تستهدف النيل من المسلمين، وأن هدفه الرئيس هو إثارة الفتن والأحقاد بين المذاهب المختلفة، على سبيل المثال، أشار أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأسبق، علي شمخاني، إلى الخطورة البالغة التي يمثلها الفيلم، فقال: "تعتمد السياسات الغربية، والعبرية، والعربية على استراتيجية التقسيم، حيث تقوم مرة بإنشاء داعش الإرهابي، ومرة أخرى بإنتاج عمل سيدة الجنة". في السياق نفسه، أفتى آية الله الشيخ جعفر السبحاني بحرمة التبرع لإنتاج هذا الفيلم، فقال: "...إن إنتاج هكذا فيلم لا يحقق إلا مطالب الأعداء، وهو بعيد كل البعد عن العقل والتقوى، وعلى هذا فإن انتاجه حرام وأي مساعدة مالية له، تعاون على الإثم".

قصة الفيلم: سيرة الزهراء من منظور شيعي

تعتمد الحبكة الرئيسة للفيلم، على التنقل بين قصتين متوازيتين، القصة الأولى، حاضرة، معاصرة، تدور أحداثها في العراق، أما الثانية، فهي قديمة، مر عليها ما يزيد عن الألف وأربعمائة عام، ونُسجت خيوطها في شبه الجزيرة العربية.

تبدأ الأحداث مع وقائع اجتياح قوات داعش لمدينة الموصل العراقية في 2014، وما أعقب ذلك من تأسيس دولة الخلافة الجديدة على مساحات واسعة من أراضي سوريا والعراق. بالتزامن مع عرض لقطات سريعة لبعض الجرائم البشعة التي مارستها قوات داعش في تلك الفترة، يتم تسليط الضوء على قصة الأرملة فاطمة التي اقتحمت عناصر داعش منزلها وقتلتها أمام عيني ابنها ليث، قبل أن تشتبك معهم قوات الحشد الشعبي، ليجد ليث نفسه بعدها وهو يعيش في بغداد مع رائد، الجندي العراقي الذي أنقذه، وأمه، وفي محاولة لطمأنة الطفل اليتيم، وتطييب خاطره، تبدأ أم رائد في حكاية قصة السيدة فاطمة الزهراء لليث.

على الرغم من صعوبة عرض فيلم "سيدة الجنة"  بشكل رسمي في قاعات السينما في الدول العربية، فإن انتشار نسخة الفيلم على بعض المواقع الإلكترونية، قد أحدث نوعاً من أنواع الجدل المذهبي السني- الشيعي، الأمر الذي قد يزيد في الفترة القادمة

اختار الفيلم أن يبتعد عن الجدل المُتعلق بتحديد سنة ميلاد الزهراء، فبدأ بحادثة هجرتها إلى يثرب بصحبة ابن عمها وزوجها المستقبلي علي بن أبي طالب. بعدها ركز السيناريو على استعراض ما ورد في صحيفة المدينة، والتي حملت تفاصيل الاتفاق المنعقد بين الرسول وقبائل يثرب واليهود، الأمر الذي يمكن تفسيره بكون الفيلم موجهاً للمشاهد الغربي بالمقام الأول.

زواج علي من فاطمة سيحظى بالكثير من الاهتمام، وكيف أنها -أي فاطمة- قد طلبت من أبيها أن يكون مهرها هو أن يشفع للخطأة ليدخلوا الجنة، وهي إضافة درامية. أما المواجهة الحربية الأولى التي سيُسلط عليها الضوء، فهي معركة أحد التي جرت وقائعها في السنة الثالثة من الهجرة، وسيتم التركيز فيها على بعض الأحداث المهمة التي تحظى بقداسة كبيرة في المِخيال الشيعي، ومنها على سبيل المثال، قتل حمزة بن عبد المطلب، والدور البطولي الذي لعبه علي بن أبي طالب في المعركة، ودفاعه المستميت عن النبي، ولا سيما بعد أن كُسر سيفه، ليعطيه الرسول سيف ذي الفقار المشهور الذي نزل به الملاك جبريل من السماء. في سياق آخر، أبرز الفيلم هروب عمر بن الخطاب من أرض المعركة، ومخالفته لأمر النبي، ووحشية هند بنت عتبة أثناء تمثيلها بجثمان حمزة.

بعد ذلك تناول الفيلم حادثة الكساء، عندما قام النبي بجمع ابنته وزوجها وحفيديه، وغطاهم بكساء واحد، ودعا لهم، وهي الحادثة التي تحظى بأهمية بالغة في المِخيال الشيعي الجمعي، وذلك لارتباطها بمفاهيم عصمة آل البيت وطهارتهم المطلقة. في السياق نفسه، تناول الفيلم حادثة غدير خم، والتي يحتفل بها الشيعة الإمامية سنوياً في الثامن عشر من ذي الحجة، ويعدّونها المناسبة التي قام فيها النبي بتنصيب علي بن أبي طالب كإمام وخليفة للمسلمين من بعده.

بلغت ميزانية فيلم "سيدة الجنة" 15 مليون دولار أميركي، وهو المبلغ الذي تم جمعه من حصيلة التبرعات الشيعية التي نظمتها قناة فدك الفضائية -التابعة لياسر الحبيب- بدءاً من 2016، واستمرت لما يقرب من أربع سنوات كاملة

في الجزء الأخير من الفيلم، تناولت الأحداث المحاولات التي قام بها المنافقون لاغتيال الرسول في العقبة التبوكية في العام التاسع من الهجرة، ودس السم له على يد بعض أزواجه، ووفاته وانشغال علي بغسله وتكفينه، في الوقت الذي تمكن فيه أبي بكر الصديق من اقناع المسلمين باختياره كخليفة في سقيفة بني ساعدة.

في السياق نفسه، ركزت الأحداث على التفاصيل التي أعقبت استخلاف أبي بكر، إذ استعرضت ثبات الأركان الأربعة -عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي- مع علي، واعترافهم بحقه في تولي الخلافة، واعتزال ابن عم الرسول للناس، ومكوثه في بيته، وتفرغه لجمع المصحف وشروحاته وتفسيراته، وذلك بحسب وصية الرسول، وكيف أنه لما عرض المصحف على المسلمين فإنهم قد رفضوه وأعرضوا عنه.

تصل الأحداث إلى ذروتها مع مشهد اقتحام منزل فاطمة، وإضرام النيران فيه، وكيف تم ضربها وكسر ضلعها واسقاط حملها، وإجبار علي على المبايعة بعد ربطه بالحبال واقتياده إلى مجلس أبي بكر، وكيف حملت الزهراء قميصها الملطخ بالدماء وهددت أبي بكر وأنصاره بالعقاب الإلهي الذي ينتظرهم، ليندلع البرق في السماء، ويخاف الناس، قبل أن يطلب منها علي أن تكف عن الدعاء حتى لا تدمر المدينة.

بعدها يتطرق الفيلم لاستيلاء الخليفة على أرض فدك، وهي قطعة الأرض التي كانت فاطمة تراها إرثاً وحقاً لها من أبيها، وكيف أنها قد انقطعت في البيت المعروف ببيت الأحزان، وهو المكان الذي كانت تداوم على البكاء فيه حزناً على فراق أبيها وظلم قومها لها ولأسرتها، حتى إذا ما اقتربت لحظة موتها، فإنها قد أوصت زوجها أن يخفي مكان دفنها، ثم ماتت بعدها بسلام، لتنتهي القصة التي ترويها أم رائد، ونعود مرة أخرى إلى الحاضر، لنرى ليثاً وقد تأثر بما سمعه من سيرة الزهراء، وكيف أنه قد تمكن من منع أحد أصدقائه القدامى من تفجير نفسه بحزام ناسف في أحد المساجد الشيعية.

رؤية نمطية لتاريخ جدلي

زواج علي من فاطمة سيحظى بالكثير من الاهتمام في الفيلم، وكيف أنها -أي فاطمة- قد طلبت من أبيها أن يكون مهرها هو أن يشفع للخطأة ليدخلوا الجنة

رغم أن اختيار شخصية السيدة فاطمة الزهراء تحديداً لتكون المحور الذي دارت حوله أحداث الفيلم، يمكن تبريره -بالمقام الأول- بكون الزهراء هي إحدى أهم الشخصيات المقدسة في الذاكرة الشيعية الإمامية الجمعية، خصوصاً أنها أحد المعصومين الأربعة عشر عند الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، فإنه يمكن القول إن اختيار تلك الشخصية كان له فائدة إضافية، ألا وهي السماح بتناول الفترة المبكرة في تاريخ الجدل المذهبي في الإسلام، ولا سيما في الشهور الأولى التي أعقبت وفاة الرسول، وما تزامن مع تلك الفترة من خلافات بين الصحابة وآل البيت حول مسألتي السلطة والخلافة.

المراجعة السريعة لتقييمات الفيلم على بعض المواقع العالمية المختصة بالسينما، من شأنها أن تؤكد على نجاح الفيلم في حصد إعجاب الكثير من المشاهدين. على سبيل المثال، حقق الفيلم درجة 8.3 في قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت IMDB، أما في موقع "الطماطم الفاسدة"، فقد حقق العمل نسبة 75%.

من الممكن أن نتأكد من هشاشة تلك التقييمات المرتفعة، إذا ما لاحظنا ضعف الإقبال على حضور الفيلم في قاعات السينما من جهة، وإذا ما التفتنا للشعبية الجارفة التي حققها الفيلم بين الشيعة -ولا سيما في الأوساط المتطرفة منهم- الأمر الذي من شأنه أن يؤكد على أن ارتفاع التقييمات غير مرتبط بجودته الفنية، وأن تلك التقييمات ليست أكثر من مجرد صدى طبيعي لحماسة دينية مذهبية من المتوقع أن تقل بمرور الوقت.

في الحقيقة يمكن القول إن صناع الفيلم قد مالوا لتقديم رؤية دينية دوغمائية -بعيدة عن أي تناول موضوعي- لفترة تاريخية جدلية مختلف عليها، الأمر الذي أوقعهم في فخ التنميط الكامل للشخصيات التاريخية، والتغافل عن ذكر أي مبررات موضوعية لتفسير تصرفاتهم وأفعالهم.

لم يقدم فيلم "سيدة الجنة" إضافة فنية حقيقية فيما يخص الأعمال التاريخية التي تناولت حقبة الإسلام المبكر، إذ جاءت معالجته قريبة الشبه من الكثير من المعالجات السابقة

على سبيل المثال، وعلى الرغم من تأكيد صناع العمل على أن وجهي النبي وعلي بن أبي طالب قد ظهرا من خلال بعض التقنيات الرسومية الحديثة، فسنجد أنه قد تم تقديم الشخصيات المقدسة في المِخيال الشيعي -النبي وعلي وحمزة والحسن والحسين وسلمان الفارسي- بشكل ملائكي، تشهد عليه بشراتهم البيضاء الصافية، ووجوههم السمحة، ولحاهم المهذبة. على النقيض التام من ذلك، ظهرت الشخصيات المكروهة في المِخيال الشيعي -أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب والسيدة عائشة وهند بنت عتبة- في هيئة شيطانية منفرة، تدل عليها بشراتهم السمراء القاتمة، ووجوههم العابسة، وأسنانهم الصفراء، فضلاً عن نظراتهم التي تنطق بالكراهية والبغض.

في السياق نفسه، عمل صناع الفيلم على التأكيد على مركزية الإمامة وربطها بالنبوة في الكثير من المشاهد، ومنها حادثتي الغدير والكساء على سبيل المثال، وفي الوقت ذاته، روجوا لوجهة النظر الشيعية التقليدية التي تؤكد على أن القسم الأكبر من الصحابة قد خالفوا الرسول، وأنهم قد اجتمعوا على بغض علي بن أبي طالب، دون أن يقدم الفيلم سبباً واضحاً يفسر سبب تلك الحالة.

بالمجمل، لم يقدم الفيلم إضافة فنية حقيقية فيما يخص الأعمال التاريخية التي تناولت حقبة الإسلام المبكر، إذ جاءت معالجته قريبة الشبه من الكثير من المعالجات السابقة، وإن اختلفت معها جميعاً في نقطة واحدة فحسب، ألا وهي أنه قد قدم تاريخ تلك الحقبة من خلال وجهة نظر شيعية بحتة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard