شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
بئر الصرخات

بئر الصرخات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 11 فبراير 202203:16 م

شاهدت في طفولتي فيلم "الملك صاحب أذني الحمار" مرّات عدّة، وأسرني مشهد الحلاق الذي لم يكن يستطع إخفاء سرّ أذني الملك، فوجد وسيلة للتخفيف عن نفسه بأن يذهب إلى مكان بعيد ويصرخ في حفرة عميقة: "أذنا الملك كأذني حمار".

انحفر هذا المشهد في ذاكرتي على مرّ السنوات، وبتّ كلما مررت بتجربة قاسية أو شعرت بمشاعر يصعب عليّ البوح بها، أتمنى أن أذهب إلى مكان بعيد وأجد فيه ما يشبه البئر أو الحفرة، لأقول فيها ما أكتمه، وأطلق صرخاتي.
مرّت السنوات ولفّ الجنون بلدي، وتراكمت في نفسي الكلمات والمشاعر التي أودّ البوح بها، ولم أفعل يوماً مثل ذلك الحلاق.
كثيراً ما كتبت لأعيش خلاصاً ما من موضوعات تثقل روحي، فقد اعتدت أن أحرّر نفسي هكذا. لكني ظللت أشعر أنني شيطان أخرس.
كنت دائماً أتوق إلى تلك الحفرة أو ذلك البئر الذي بإمكاني الصراخ فيه بكلّ ما أعرف وكلّ ما أشعر.

قبل أيام سقط ريان في البئر

وقبل أيام، سقط ريان في البئر. ذلك الطفل المسكين الذي غالباً ما أسلم الروح منذ اللحظة الأولى لسقوطه، لكنّ العالم تآمر على ترويج أنه لا يزال حيّاً، بعضهم أملاً بنجاته وبعضهم لمآرب أخرى.
كنت ممن في أعماقهم يعلمون أنه غالباً ما أسلم الروح، لكني أردت تصديق أنه لا يزال حيّاً وسيخرج ولو بعد أيام، ويبدأ رحلة علاجه. حلمت كيف سيصبح أشهر أطفال العالم، وإحدى معجزات الدنيا. نذرت صوماً على نيّة خروجه من جوف الأرض حيّاً، وحلمت كيف سأرسل له مجموعة قصصي الجديدة، هدية ترسم السعادة على وجهه الصغير.
هل قلتُ وجهه؟
قبل أيام، سقط ريان في البئر. كنت ممن في أعماقه يعلم أنه غالباً ما أسلم الروح، لكني أردت تصديق أنه لا يزال حيّاً وحلمت كيف سيصبح أشهر أطفال العالم، وإحدى معجزات الدنيا وكيف سأرسل له مجموعة قصصي الجديدة، هدية ترسم السعادة على وجهه الصغير

أعرف تماماً ما الذي يعنيه أن يكون لديك وجه صغير تنام وتستيقظ عليه. أعلم جيداً ماذا يعني أن ينام قربك جسد بضّ، يكفي أن تضع كفّك عليه حتى يتسلل الدفء إليه ويهدأ وينام.
فيما ريان في البئر، كنت ألوب بحسرة من تعرف أن طفلاً في الخامسة لا يمكن أن تدفئه سوى كفّ أمٍّ تلفّه قبل أن يغفو، يقبع الآن وحيداً في بطن الأرض.
في مثل هذه اللحظات الاستثنائية بألمها، لحظات يتعرّض طفل خلالها في أحد أصقاع الأرض إلى عذاب ما، يصبح هذا الطفل مولوداً من أرحام أمّهات الأرض جميعها

في مثل هذه اللحظات الاستثنائية بألمها، لحظات يتعرّض طفل خلالها في أحد أصقاع الأرض إلى عذاب ما، يصبح هذا الطفل مولوداً من أرحام أمّهات الأرض جميعها، لذا يصعب عليّ أن أفهم أو أصدق كيف يمكن لأمّ ضمّت جسد ابنها أو ابنتها ألا تحسّ بجسد هذا الصغير العالق في جوف الأرض البارد.
يصعب ألا أصلّي لإلهي أن ينتقم من كلّ مذيعة تبرّجت وتزينت وجلست أمام الكاميرا، تعدّد مبتسمة بكل برود عذابات هذا الطفل المتوقعة في تلك الأيام الخمس، لتجلب أكبر نسبة مشاهدة.

الليلة الرابعة

سهرت طوال الليلة الرابعة أراقب حركة الحفر، وأنا أحيك غطاء صوف كبير لابنتي كنت قد بدأت العمل عليه السنة الماضية. سهرت أحيك، فيما مفارقة الغطاء الدافئ وجوف الأرض البارد تمزّق قلبي.
من المشاهد العالقة في رأسي كذلك، مشهد السيدة التي نسيت اسمها في رواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز، وهي تحيك الصوف انتظاراً للحرية. أتذكر أنها كانت في السجن لكني لست متأكدة.
نعم، سهرت أحيك طوال الليل بانتظار أن ينجحوا في تحرير جسده المحتجز في بطن الأرض.
ومع بزوغ الفجر، بدأ الرجال المجتمعون يطلقون أدعية مهيبة يناجون الله عبرها كي ينقذ ريان.
أحسست أن الرجال يدعون بأصوات يختلط فيها الرجاء بالنحيب. مشهد حضرت فيه مهابة وداع ذلك الصغير الذي ابتلعت الأرض جسده، لكن روحه طافت على رؤوس قمم الجبال المحيطة بالمكان الكئيب.

في تلك اللحظة عرفت أن إمكانية خروج الروح من الجسد هي حقيقة، لأن روحي حينها كانت هناك تطوف وسط ترابية المكان، وتردّد مع الناس تلك الأدعية قريباً من البئر إنما بصرخات، ثم تنزل في الفتحة التي استعصى على الجميع النزول فيها، لتضمّ ريان وتقول له: "اطمئن، كل شيء سيكون بخير يا ولدي، بخير يا (ضناي)".
ناديت ابنتي مرة بهذه الكلمة مازحة، فسألتني: ماذا تعني ضناي؟ فلم أعرف كيف أفسّرها لها، فضممتها بقوّة إلى صدري وقلت لها: يعني هكذا.
مرّت الساعات بعد إعلانات مستمرة ملتبسة عن استمرار محاولات الوصول إلى ريان، وأعلنوا أخيراً أنهم استطاعوا الوصول إليه وأخرجوه، لكن ما هي إلا دقائق حتى أعلنوا أنه فارق الروح.
في تلك اللحظة عادت روحي إلى جسدي، فعلا صوت الصرخات بداخلي ولم أجد سبيلاً لكبتها. راحت تخرج مني وشعرت بطبقات من صرخات متراكمة تتدفق من جوفي دون أن أستطيع السيطرة عليها.
وضع ابني ذو السنوات الخمس يده على وجهي في محاولة للتعبير عن حزنه من أجلي دون أن يفهم ما يحدث، أما ابنتي التي فهمت المأساة كلّها، فهمست في أذني محاولة امتصاص صدمتي: "ماما، لم يعش شيئاً من حياته، بالتأكيد أن روحه ستعود."
مرّ يومان وأنا أضيع مني وأبحث عن كلمة تشفي روحي. فلم يبقَ أمامي سوى أن أكلم مرشدتي الروحية، هي الروح الوحيدة التي أثق بها على هذه الأرض. فجّرت أمامها كلماتي كلها التي تدفقت صرخات من قبل، وكنتُ عاجزة حينها عن لفظها. سألتها الأسئلة التي غارت إجاباتها بداخلي، ورفضت تصديقها لأني غرقت في ألمي إلى درجة أني لم أعد أريد أن أشفى، لكنها بمجرد أن نطقتها شعرت بروحي تهدأ:
'لقد ضمن السماء! ربما لو بقي حيّاً وكبر كان سيصبح رجلاً [يقاسي الحياة] ما يعزّي أنه الآن ضَمِنَ السماء!"
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard