شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بوشعيب البيضاوي... كسر التابوهات الجندرية بعد الاستقلال ولبس القفطان النسائي فعشقه المغاربة

بوشعيب البيضاوي... كسر التابوهات الجندرية بعد الاستقلال ولبس القفطان النسائي فعشقه المغاربة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 4 فبراير 202201:54 م

بأحمر الشّفاه سطّر الفنان المغربي الراحل بوشعيب البيضاوي، أسطورته الشعبية. وبباروكة شعره الأنيقة، وقفطانه المغربي الأصيل، سكن محراب فن العيطة، سابراً بصوته الرخيم أعماق هذا الفن، ليتفوّق غناءً وأنوثةً على معلّماته الرائدات في هذا النوع من الأغاني التراثية المغربية، أمثال الشيخة الرونو اليهودية، والشيخة الرْوِيضة، والشيخة البهلولية المْزَابِيَّة، اللواتي تألّقن في عشرينيات القرن الماضي.

من هو هذا البيضاوي الذي رأى النور في حي بوسبير الشهير في مدينة الدار البيضاء، إبّان الأزمة الاقتصادية العالمية، والذي افتتن به الوعي واللا وعي الجماهيري، في المغرب، على الرغم من استعراضاته الأنثوية المعلنة، سواء في غنائه أو تمثيلياته المسرحية، إلى ما بعد وفاته في أيار/ مايو 1965، وهو في سن السادسة والثلاثين، نتيجة إصابته بالداء الخبيث؟

هوية فن أم جندر

عندما نستعيد شخصية الفنان بوشعيب الزبير، أو بوشعيب البيضاوي، كاسم فني، نسبةً إلى مدينة الدار البيضاء حيث رأى النور، وترعرع ودرس في مدارسها، نستشف ثنائيةً في المسار الهوياتي للفنان، فهو "المُفَرْنَسُ" أكاديمياً، بحكم أنه درس في المدارس الحديثة في المغرب، ليحصل على شهادة محاسب، ومن تم تابع الدراسة في فرنسا حسب بعض الروايات، إذ درس الأدب الفرنسي متشبعاً بثقافة أدبية فرنسية، فضلاً عن أناقة باريسية لافتة، وفي الآن ذاته شُغف بغناء العيطة كلون تراثي عتيق ومحلي جداً، إذ بعدما عمل في مكتب محامٍ فرنسي مقرب من الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار الفرنسي في البيضاء، تركه ليعمل في مغسل للملابس تعرف من خلاله إلى رجل كان يدعوه إلى حفلات يحضرها الأعيان، ويحييها كبار الشيخات والشيوخ في المغرب، ليفتتن بهذا اللون الغنائي الذي كان على النقيض من تكوينه، فبدأ يتعقب أثر الشيخات لحفظ "عْيُوطِهِنَّ"، خاصةً العيطة المرساوية، وبما أنه كان يتقن العزف على آلتي الطعريجة والدف، التحق بفرقة الحاجة الرويضة التي سجلت أول أشرطتها عام 1934، لدى شركة الإنتاج "أبيضافون". هناك تعرف إلى محمد الحريزي الشهير بالماريشال قيبو، الذي سيشكل معه أشهر الثنائيات التي عرفها تاريخ فن المرساوي (أحد أصناف العيطة).


لم تتوقف المفارقات التي حظيت بها شخصية البيضاوي، بل تجاوزته إلى التدثر بروح الأنثى وجلدها، وهو يقدّم التمثيليات الممسرحة مع المسرحي الدراماتورجي الراحل، البشير لعلج، فشرع يشخّص بلثغته العذبة -ينطق الراء غيناً- دور المرأة في غياب الحضور النسوي في ذاك العصر على المسرح، كما عُلّل الأمر دائماً حينما تثار سيرة بوشعيب البيضاوي، وإن كان هذا التعليل يسائلنا ويستوقفنا ونحن نطالع كل تلك الزينة النسائية المفرطة والصريحة التي يحيي بها سهراته الفنية، ناهيك عن لهجة الدفاع المستميتة عن رجولته، كلما أثيرت أنوثته، كما أشار أحد ألمع فناني العيطة في المغرب، الفنان خالد ولد البوعزاوي، العاشق لبوشعيب البيضاوي، والذي يعدّه أسطورةً ويرى فنه خالداً.

بأحمر الشّفاه سطّر الفنان المغربي الراحل بوشعيب البيضاوي، أسطورته الشعبية. وبباروكة شعره الأنيقة، وقفطانه النسائي، سكن محراب فن العيطة ليعشقه المغاربة في سنوات الاستقلال

عندما أثرنا علامة الاستفهام التي تفرضها شخصية البيضاوي، ونحن نطالع صوره في أبهى أنوثته، أجاب البوعزاوي بصيغة المتيقن، أن الراحل البيضاوي كان "رجلاً بكل معنى الكلمة"، مستشهداً بما سمعه من المقربين منه ومن مجايليه، مؤكداً أنه كان يتقن تقمّص دور المرأة في شكلها وشخصيتها، وأنه لا يتعدى ذلك من الهوية الفنية إلى الهوية الجنسانية، وأشاد بتفرد بوشعيب البيضاوي، ودوره في إدخال المقامات الأندلسية على العيطة، وتوظيف العود كآلة من قبل الماريشال قيبو الذي شكل معه ثنائياً استثنائياً.


بوشعيب البيضاوي

وباح لنا الفنان خالد بسرّ ولعه بالبيضاوي الذي يعود إلى زمن الطفولة، إذ كشف لنا أنه حينما كان في الـ11 من عمره، سمع أسطوانةً لبوشعيب البيضاوي، ودُهش بعذوبة الصوت ورهافة الأداء المنبعث منها، بل أكثر من ذلك حفظ الشريط عن ظهر قلب، وشرع في ترديد أغانيه ليل نهار، وعشقه لهذا الفنان دفعه ليتعرف إليه من خلال والده الراحل الشيخ البوعزاوي، عازف الكمنجة (الكمان)، الذي رافق فرقة بوشعيب البيضاوي، وجمعتهم حفلات وسهرات مشتركة. حكى الأب لابنه خالد أن الفنان البيضاوي كان يتمتع بكرم لا مثيل له، إذ منحه وفرقته بعد انتهاء إحدى السهرات آنداك، خمسين درهماً (وكانت مبلغاً كبيراً في تلك الفترة)، كما حكى له أنه كان يداوم على محل للحلاقة في البيضاء، وذات يوم كان البيضاوي يلبس معطفاً من الطراز الفاخر الذي أعجب الحلاق، فما كان إلا أن نزعه ومنحه إياه هديةً. ويضيف الفنان خالد أن الكل كان يشهد أنه وإن كان يضع الماكياج والباروكة ويلبس أزياءً وإكسسوراتٍ نسائيةً في العروض الموسيقية، فقد كان المغاربة يحبونه كفنّان ومغنٍّ، ويفصلون بين شخصيته الأدائية والواقع. وكان هذا الحب كبيراً إلى درجة أنه عندما توفي في سن مبكرة عام 1965، كانت هناك حالات انتحار من بعض المعجبين، كما أعلن كثيرون من جمهوره الحداد عليه. ويسترسل الفنان خالد ولد البوعزاوي قائلاً إن بوشعيب البيضاوي الذي يطربه ويبكيه في آن واحد، تغنّى بموضوعات تباينت بين ما العاطفي والاجتماعي والسياسي، فتغنى بالحب والمقاومة والفروسية في أغانٍ من قبيل "ماشفتو غزالي"، و"خربوشة"، و"ركوب الخيل"، وغيرها من الروائع التي يجب حفظها للذاكرة الفنية المغربية.

تحريم الفرح

ونحن نعيش الآن عصر المحاكمات المجتمعية لكلّ مُختلفٍ ومخالف للسائد، والتي تطل علينا بين الفينة والأخرى عبر السوشال ميديا، وتبيح دم هذا وتكفّر ذاك، ماذا لو عاش البيضاوي بيننا اليوم كشخصية فنية أحبها المغاربة وتربّع على عرش سلطة الأضواء؟ ما الذي اختلف بين الأمس واليوم؟ يفكك أستاذ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا في جامعة محمد الخامس في الرباط، عبد الرحيم العطري، هذا الطرح قائلاً: "حالة بوشعيب البيضاوي تدل من غير شك على سياق مغربي مطبوع باحترام الحريات الفردية، وتجذّر قيم التسامح والقبول بالاختلاف، كما أنه يمكن قراءتها ضمن سجل ثقافي عام ينتصر لثقافة الفرح والاحتفال. طبعاً المجتمع لا يوضع داخل صندوق ثلج، ودوماً هناك تحولات جارية بلا انقطاع، والمتغير ها هنا هو الانتقال من سجل "القبول بالاختلاف"، إلى سجل "الوصاية" و"العنف الإيديو-ديني"، دليلنا على ذلك ما يحدث من "عنف رقمي" في مواقع التواصل الاجتماعي بشأن تدبير الحريات الفردية".


ويضيف الباحث متسائلاً: "طبعاً من حقنا أن نتساءل اليوم ما الذي دفع بوشعيب البيضاوي، إلى التزيِّن بملابس النساء وتقديم أغانيه؟ وكيف تقبّله الجمهور المغربي آنذاك بالطريقة التي اختارها لتقديم فنّه، ولم تصدر بحقه أي "فتوى" تبيح دمه، بل إن أسطواناته كانت الأكثر مبيعاً؟ فهل هذا يعني أننا كنا أكثر تسامحاً، وأكثر انتصاراً للفن؟".

يجيب العطري بأن العودة إلى التاريخ وحدها الكفيلة بالإجابة على السؤال، وتسعف كثيراً في فهم هذا الانتقال، وحسب وجهة نظره، فإنه "قبل انتشار الفكر الوهابي في المغرب، والذي يؤمن بفرضية "النص الأوحد" فحسب، كان المغربي "غير معنيّ" بغيره، وتحديداً في شؤونه الخاصة والمعتقدية، في تجسيد قوي لفكرة احترام الحريات الفردية، إلا أنه مع بروز "فكر التبديع والتفسيق والتكفير"، والذي يرتكن في النظر إلى الأمور إلى قاعدة "يجوز ولا يجوز"، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وأصبح كل "مختلف" موجباً للرفض من قبل الجماعة".

ونحن نعيش الآن عصر المحاكمات المجتمعية لكلّ مُختلفٍ ومخالف للسائد. من يتذكر المغربي بوشعيب البيضاوي الذي كسر تابوهات الحدود الجندرية وأدى دور المرأة وغنى مثل الشيخات في منتصف القرن الماضي؟

هكذا يخلص العطري إلى "أن النص الأوحد ينتمي إلى ‘نمط تديني’ يؤمن بالتفوق على بقية النصوص الأخرى، عبر الإحالة مباشرةً على "السلف الصالح" و"السنة والجماعة" و"الإجماع". وتنتمي الـ"يجوز ولا يجوز" التي يعتمدها المدافعون عن النص الأوحد، إلى "نمط تفكير انغلاقي" يحاور الواقع من داخل نسق مغلق، لا يقرّ بالانفتاح وبموجبات الإفادة مما يوجد خارج النسق الأصلي. إنها لعبة الحقيقة والسراب، والهدى والضلال، ودار الإسلام ودار الكفر، وما إلى ذلك من أزواج تقابلية، تجعل ما هو كامل وصلب وقوي وطاهر في صف النحن، وما دون ذلك من هشاشة وهجانة ودنس من نصيب المخالف والمختلف".

هذا السياق النظري الذي يحيل عليه الباحث، يدل حسب كثيرين على أن المجتمع المغربي كان في حقبة الفنان بوشعيب البيضاوي (الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين)، أكثر انفتاحاً على هذا اللعب على وتر الجندرية من دون وضعها موضع تساؤل ديني. والبيضاوي لم يكن حينها استثناءً، ولو أنه كان الأشهر، واستطاع أن يتحول إلى ظاهرة فنية احتلّت شاشات التلفزيون المغربي الحديث النشأة، ليمتلك شرعيّةً فنيةً أكبر في أوساط الجمهور.

لكن ظاهرة الرّجل الذي يرتدي الزي النسائي ليغنّي وحتى ليرقص، كانت منتشرةً في المسرح، وأيضاً في الأسواق، التي مثّلت فضاءً عاماً للفرجة أيضاً، في المدن والبوادي. وعلى الرغم من كثرة الفنانين الذين لجأوا إلى هذا الشكل، يظلّ بوشعيب البيضاوي الأيقونة التي كسرت كلّ القيود، وتلهم اليوم شباناً يحاولون استعادة تجربته، من قبيل تجربة "كاباريه الشيخات".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard