شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الزبائنية في لبنان... مساعي التغيير تصطدم بـ

الزبائنية في لبنان... مساعي التغيير تصطدم بـ"امتيازات" النظام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 6 فبراير 202209:05 ص

السياسة مساحة للصراع، وليست هوية أو هواية. لذا، على كل مشروع تغييري يتماشى مع توجه وخطاب انتفاضة 17 تشرين، ويهدف إلى تغيير سياسي-اقتصادي-اجتماعي شامل، أن يوصّف طبيعة علاقة الناس بالسياسة في لبنان، ويحلل سبب استمرار الزعامات الحاكمة وسيطرتها.

انتهت الحرب الأهلية مع بداية تسعينيات القرن الماضي، ولكنها بقيت في نهج الحكم. استخدمت القيادات السياسية الصاعدة بعد الحرب، خصوصاً قادة الميليشيات الطائفية ورجال الأعمال، مبادئ الثواب والعقاب لتثبيت سلطتها على الأرض والمجتمع. فبالإضافة إلى الترهيب من خلال "القبضايات" الذين يقمعون التنوع السياسي في الأحياء والقرى، والمناورات الميليشياوية أحياناً، والاستقواء بالحلفاء الخارجيين، خلقت هذه القوى شبكات خدماتية تؤسس لعلاقة مع المواطنين مفادها "الولاء مقابل المنافع".

الزبائنية في وجه التغيير

استُبدل مفهوم الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية بامتيازات يحصل عليها الإنسان من زعيم طائفته، فهُمّش مبدأ "دولة الرعاية" لصالح نهج التصارع على موارد الدولة من وظائفٍ واستثمارات وعقود وخدمات، بهدف توزيع المغانم على الرعايا، من فقراء الطائفة، مروراً بالمعلمين والمدراء والمستشارين والقضاة، وصولًا إلى أصحاب رؤوس الأموال والمقاولين. كرّس هذا النهج منظومة نخب مستفيدة من النظام، تعيد إنتاج منطقه في الإعلام والمدارس والجامعات، تموّله من دولارات المودعين، وتحميه من التغيير عبر التقسيم الطائفي وضرب الحركات النقابية والتغييرية.

في السنوات الخمس الأخيرة، بدأت بوادر الأزمة الاقتصادية والمالية تظهر بوضوح، فاضطرت السلطة إلى تقليص الإنفاق على البنى التحتية والخدمات الاجتماعية العامة. ولكن، حتى بعد أن وقع الإفلاس الكبير المستمر وتقلّصت الموارد المتاحة، لا تزال الزبائنية أحد أهم العراقيل التي تواجه التيارات التغييرية في سعيها إلى فسخ العلاقة بين المجتمعات المحلية وقوى النظام.

عام 2018، تأسست حركة "لِحقّي"، التنظيم السياسي الذي أنتمي إليه، كحملة انتخابية في دائرة الشوف وعاليه ضمن جبل لبنان. حاولنا عقد نقاشات ولقاءات انتخابية عامة في القرى، إلا أننا في معظم الأحيان ووجهنا برفض استقبالنا، بينما فتحت البلديات صالاتها لحزب وليد جنبلاط (الحزب التقدمي الاشتراكي) وغيره من الأحزاب الطائفية المهيمنة. بعض مالكي الصالات كان مؤيداً لطرحنا السياسي، لكن الخوف من أن يُعاقبوا اجتماعياً أو اقتصادياً بسبب هذا الخيار كان طاغياً. اضطررنا إلى إلغاء العديد من النشاطات لعدم وجود مكان يستقبلنا، حتى أنّ أحد رفاقنا عوقب لمحاولته عقد لقاء في قريته عبر صرف والده من المؤسسة الخاصة التي يعمل فيها، وهي مرتبطة بالقوى السياسية بطبيعة الحال.

هنا، تبرز الزبائنية ليس فقط في موضوع الوظيفة، بل في كونها علاقة دقيقة بين المجتمعات المحلية والزعيم، حيث من الأساسي جداً أن تظل القرية الفلانية "محسوبة على الزعيم"، لكي يبقيها الأخير في باله عندما يأتيه مشروع من مجلس الإنماء والإعمار أو تحصل شواغر في المؤسسات العسكرية والقطاع العام.

وفي غياب مبادئ التنمية والكفاءة، تصبح هذه العلاقة هي المفتاح للوصول إلى حقوق أساسية، أهم من حرية فلان بأن يستقبل لقاءً أو يتبنى خياراً سياسياً جديداً. هذا المنطق كان جزءاً أساسياً من خطاب الماكينة الانتخابية المحلية للحزب الجنبلاطي على سبيل المثال، فكان الهاجس الأول ألا يشعر "وليد بيك" بأن حالة اعتراضية موجودة في قرانا، أو أن يعلم "الأمير طلال" (طلال أرسلان، رئيس الحزب الديمقراطي) بأن توظيفاته للشباب في الكسّارات والمشاريع وفرق الحماية الأمنية لم تحرز أصواتاً كافية في مجتمعاتهم.

إذًا، بالنسبة إلى مَن يحاول تغيير النظام السياسي، تشكل الزبائنية أحد أهم العراقيل الفعلية، المادية، لكسر هيمنة الأحزاب على النسيج الاجتماعي المحلي. وهنا صلب الموضوع، فبُعد التيارات التغييرية عن النسيج الاجتماعي كان ولا يزال أحد أهم أسباب بطء مسار التغيير.

انسلاخ عن النسيج المحلي

تطورت طبيعة الحركة التغييرية في لبنان خلال العقد الماضي، وتوسعت دائرة ما يُسمّى بالمجتمع المدني خلال المحطات الاعتراضية الأساسية من "حملة إسقاط النظام الطائفي" عام 2011 حتى انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019. إلا أن معظم الحركات الجديدة لا تزال متمركزة في بيروت، وضمن دائرة اجتماعية معيّنة هي الطبقة الوسطى، أو ما تبقى منها.

"السياسة مساحة للصراع، وليست هوية أو هواية. لذا، على كل مشروع تغييري أن يوصّف طبيعة علاقة الناس بالسياسة في لبنان، ويحلل سبب استمرار الزعامات الحاكمة وسيطرتها"

تعطي الأحزاب الطائفية كوادرها منافع ماديةً واجتماعية مهمة تبقيهم في خط الدفاع الأول عنها. أما الحركات الجديدة فلا قدرة لها على ذلك، ما يجعل العمل السياسي تطوعياً بحتاً. بعض الاستثناءات هي المنظمات غير الحكومية التي تنشط سياسياً ولديها تمويل كافٍ لتوظف كوادر. إلا أن هذه الجمعيات لا يمكن (ولا يجب) أن تلعب دور الأحزاب السياسية، كما أنها غير معرّضة للمحاسبة الشعبية من أي نوع كان.

حاولت بعض هذه الجمعيات في الفترة السابقة تصوير نفسها على أنها الراعي الرسمي للوائح التغيير في لبنان وأبدت جهوزيتها لتمويل "لوائح المعارضة الموحدة" في مختلف الدوائر الانتخابية، إلّا أن هذا النهج اصطدم بإشكاليات عديدة منها وجود تمويل مركزي غير مرتبط بمشروع سياسي واضح أو حالة شعبية وازنة، بل يتكئ على رضى النخب المموِّلة.

بغضّ النظر عن تلك النماذج، عندما يُراهن التنظيم السياسي بعمله واستمراريته على متطوعين يخصصون من وقتهم للاجتماعات واللقاءات، تصبح مسألة الوقت نوعاً من جدار طبقي يقلّص من قدرة الأشخاص الفقراء على المشاركة والتأثير. لذلك، ولأسباب عديدة أخرى، نرى هيمنة ثقافة وخطاب "الطبقة الوسطى" على هذه التيارات، ما يعزز الانسلاخ عن النسيج الاجتماعي المحلي.

أسئلة التغيير

السؤال الأساسي اليوم هو كيف لقوى التغيير أن تواجه الزبائنية وتتخطى تبعاتها؟ الخطوة الأولى هي عدم إعادة إنتاج الزبائنية ورفض نهج استغلال المؤسسات الخيرية لأهداف سياسية. أما بعد، فعلينا مهمة أساسية وصعبة هي خرق الهيمنة الطائفية على المجتمعات المحلية.

التوجه المهيمن في الساحة الاعتراضية اليوم، والذي لاقى تأييداً أوسع بعد فشل انتفاضة 17 تشرين في تحقيق إنجازات سريعة، هو التوجه النخبوي. وهنا نحن لا نتكلم حصراً عن الخطاب الذي يلوم الناس على مأساتهم، خصوصاً أن معظم الناشطين المخضرمين ابتعدوا عنه، بل عن الخيارات الإستراتيجية التي تتخذها التنظيمات.

يؤمن التوجه النخبوي بالدور الأساسي للنخب الاجتماعية في قيادة مسار التغيير، تحديداً في ظل القيود الزبائنية على الطبقة العاملة. بمعنى آخر، إذا كان من الصعب تشكيل حالة شعبية كبيرة مؤيدة لطرح سياسي معيّن، يمكن البدء بمحاولة جمع النخب وما تبقى من الطبقة الوسطى حول المشروع للوصول إلى مراكز القرار، ومن ثم يأتي التأييد الجماهيري تلقائياً بعد تحقيق الإنجازات التي تهمّ الطبقة العاملة.

"تعطي الأحزاب الطائفية كوادرها منافع ماديةً واجتماعية مهمة تبقيهم في خط الدفاع الأول عنها. أما الحركات الجديدة فلا قدرة لها على ذلك، ما يجعل العمل السياسي تطوعياً بحتاً"

بغض النظر عن الأبعاد الفلسفية والإيديولوجية لهذا التوجه، يجب أن نسأل: هل من الممكن، حتى لو لم يكن محبذاً، أن نصل إلى السلطة من دون دعم ومشاركة الطبقة العاملة؟ وإنْ نسينا مسألة المشاركة، من أين ستأتي كل "الأصوات" التي ستوصلنا إلى أكثرية في المجلس النيابي والحكومة؟

تتعاطى التنظيمات "التغييرية" مع هذا التناقض بطرق مختلفة. بعضها يحاجج بأن تحقيق كتلة نيابية وازنة هو بذاته إنجاز يسمح بتحقيق بعض الخروقات في السياسة والاقتصاد، حتى من دون أكثرية في المجلس النيابي. لكن هذا يتناقض مع ما نراه اليوم من تشبث القوى الحاكمة بالسلطة والمال على حساب استمرار المجتمع والمؤسسات.

كذلك، وفّرت قوة الدفع التي خلقتها الانتفاضة فرصة قصيرة للتيارات التغييرية للتهرب من مسألة الشرعية الديمقراطية، لأن صوت الناس وصل في الشوارع. استفاد العديد من التنظيمات من هذه الفرصة لتقديم طروحات متمحورة حول "حكومة مستقلة" و"انتقال سلمي للسلطة"، من دون التركيز على الانتخابات وبالتالي التهرب من الحاجة إلى كسب مشروعية ديمقراطية كمؤهل للحكم.

النهج القاعدي

مع صعوبة نجاح النهج النخبوي، يبقى الخيار الأسهل، مقارنة بالبديل، هو النهج القاعدي الذي يخترق النسيج الاجتماعي ويطبّع وجود تنظيمات غير طائفية وتقدّمية في القرى والمدن والضواحي، وفي الأحياء.

بدأت "لِحقّي" كحملة انتخابية في دائرة واحدة قبل أن تصبح تنظيماً موجوداً في المناطق والقطاعات المختلفة. من دون أي إنفاق يذكر، حصلت اللائحة التي دعمناها على قرابة العشرة آلاف صوت. وإذا قارنّا عدد الناشطين من قرية معيّنة بعدد الأصوات التي حصدناها فيها، نرى علاقة مباشرة بين النجاح الانتخابي والوجود القاعدي.

التجييش خلال انتخابات أو انتفاضة شعبية أسهل بكثير من التنظيم المستمر، المتعب دائماً والمضجر أحياناً. كما أن الوضع النفسي الجماعي في لبنان بما فيه من يأس وقلق وتشاؤم، يحدّ من اندفاعنا جميعاً إلى العمل والنضال، فكيف إذا كنا نتحدث عمّن عُطّل عن العمل وسُحق مادياً من النظام؟ كيف سيستطيعون تكريس الطاقة وموارد والوقت للتنظيم السياسي؟ كيف يمكن عدم إقصاء الفقراء من المشاركة في القرارات من دون أن يضطروا إلى الذهاب إلى شوارع الحمرا أو بدارو؟

تبقى هذه الأسئلة رهن تجريب التيارات الثورية وتعاملها مع حدود تنظيم الناس في ظل تفتت الاقتصاد والمجتمع، وارتهان معظم المؤسسات النقابية العمالية إلى قوى السلطة والمال. إنما الخلاصة هي أن إمكانية إيجاد أطر قاعدية تسمح باختراق هيمنة القوى الحاكمة على الناس، بعيداً عن سياسة النخب والمشهدية، سيؤثر على قدرة التنظيمات الجديدة ونجاحها في المستقبل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard