شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حضارة موجهة للطموح والمكاسب قد تدمر كوكبنا… مفاتيح فيلم

حضارة موجهة للطموح والمكاسب قد تدمر كوكبنا… مفاتيح فيلم "لا تنظر للأعلى"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 20 يناير 202205:04 م

رحلة الإنسان لاكتشاف أراضٍ جديدة خارج نطاق الكرة الأرضية، كانت هاجساً لتسجيل نقطة تقدم على الخصوم، وترسيخ النفوذ السياسي لدول على حساب دول أخرى. حاول الإنسان الصعود إلى القمر، ووصل حتى إلى المريخ، ونجح في ذلك أيضاً، ومازالت المحاولات جارية لمخاطبة ساكني الكواكب الأخرى إذا ما وجدوا.

مع كل هذا المجهود الخرافي الذي يقوم به الإنسان، هل يمكن أن نطرح سؤالاً صغيراً: "ماذا لو لم يعرف أحد من الكائنات الذكية عن الإنسان شيء؟".

ربما نكون على هامش كل شيء، وتتحطم الصورة السيادية التي نرى بها أنفسنا، وينتهي كل شيء باحتكاك صخور ملتهبة، هذا ما صوّره المخرج آدم مكاي في فيلمه الأخير Don’t Look Up "لا تنظر للأعلى" الذي لفت الأنظار بسبب الكم الهائل من النجوم الحاضرين على أفيشه، وكذلك لتماسّه المباشر مع ما يحدث الآن في العالم.

يُقال إن الشعر هو أكثر الفنون قدرة على التعامل مع اللحظات الراهنة في حين تحتاج الفنون المرئية، لاسيما الروائي منها، إلى المزيد من الوقت لاستيعاب سبل التعبير عن الأزمات والمشاعر والتقلبات الإنسانية.

اكتشفت الباحثة كيت ديبيسكي اقتراب مذنب من الأرض، وأمام البشرية قرابة ستة أشهر لوصول هذا المذنب واختفاء البشرية من على وجه الأرض، بل إن الأرض نفسها لن تعود موجودة بحالتها. 

ربما شاهدت سابقاً أفلاماً عن نهاية العالم، لكن "لا تنظر للأعلى" لا يتحدث عن نهاية العالم في حد ذاته، لكن كيف نتصرف مع هذا الخبر العبثي، هل نقف ونواجه الموت أم نمارس حياتنا بصورة طبيعية؟ وهو أيضاً درب من العبث أم نحاول التصدي لهذه الطاقة الهائلة، المتوقع أن تدمر كل شيء في طريقها، أياً كان سبيلك، لن تكوني في أمان.

كيف استقبلنا الفيلم؟

عكست التعليقات على السوشال ميديا حيال الفيلم، من قبل المعجبين والمنتقدين، النظرة التي تشكلت في "الجمهور العربي" حول هذه النوعية من الأفلام، المرتبطة بكوارث تهدد الكوكب، والرد الفعلي الأمريكي المدافع عن الأرض.

نشرت مجموعة "ذي كالتشرال توك"، المهتمة بالموضوعات الثقافية، صوراً من الفيلم، وصدّرت المنشور باقتباسة: "لذلك سيدعونه يصطدم بكوكب الأرض لزيادة ثراء مجموعة من الأثرياء إلى حد يثير الاشمئزاز أكثر حتى !".

وشدّد المنشور على صعوبة تصنيف الفيلم ككوميديا، فهو أقرب إلى الرعب لـ"عالم هزلي رقمي فقد الحس الاجتماعي والإنساني، عالم أصبح يستخدم مأساة الآخرين لصناعة مجموعة من "الميم" يتم تداولها كنوع من الضحك ليصبح الشخص ترينداً، ويحقق مكاسب من خلف هذا الهراء".

"لأول مرة أمريكا ما تطلعش المنقذ الأول والأوحد للعالم"

في التعليقات امتدح حساب "نغم هشام" العمل، وكتبت: "لأول مرة أمريكا ما تطلعش المنقذ الأول والأوحد للعالم".

واختلفت معها أميرة سامي، التي اعتبرت الفيلم "واخد أكتر من حقه، ممل جداً، كان ممكن يتعمل أحسن من كده".

أما إسراء منصور فركزت على "رسالة" الفيلم التي استشفتها، كتبت في تعليق على المنشور نفسه: "فيلم... بيورينا طريقة تعامل الحكومات مع أي كوارث أياً كانت، ومحاولة الاستفادة من مصايب الناس... وطريقة تناول الإعلام للمشاكل وتصديرها للمستمع، ومحاولة خلق بطل من أي كارثة.. أسطورة البطل الأمريكي اللي بينقذ الكوكب في اللحظات الأخيرة... فيلم جميل جداً جداً".

أما علي سلام، فنشر في مجموعة "موفيز يو ماست سي"، منشوراً غلب عليه الإعجاب المفرط بعمل آدام مكاي، خاصة في إصراره على أن يرى المشاهد شرائح أوسع من الطبقات الاجتماعية، وخطوط مختلفة لكل شخصية.

على منصة التدوينات القصيرة "تويتر" لفتت تغريدة لهشام بكر نظري، فقد ربط الطريقة التي يتعامل معها الإعلام المحلي بنظيرتها في الفيلم، كتب: "فيلم لا تنظر للأعلى هو محاكمة مبدعة عبر الكوميديا السوداء للرأسمالية وفساد إعلام مضلل".

وكتب حساب آخر، "ذي آوت سايدر": "فيلم لا تنظر للأعلى يشرح قمة التغير المناخي، لا أحد حقاً يبالي، هم فقط يريدون التصفيق على المسرح".

انهيار أمريكا كحلم ودولة

بعيداً عن آراء الجمهور، فلنقترب أكثر فأكثر من أعمال آدم مكاي، التي تغلفها بعض السمات، أولها هو الغوص في الثقافة الأمريكية الداخلية، بداية من فيلمه الأول Anchorman: The Legend of Ron Burgundy والكوميديا الصارخة والغارقة في عالم صناعة الأخبار والتغطيات التلفزيونية، مع الأخذ في الاعتبار تصاعد سهم النساء في هذا العالم.

سلسلة Anchorman رسمت ملامح لسينما آدم مكاي الساخرة والناقدة للمجتمع الأمريكي، ومفاهيم الفحولة التي تسيطر على تفكير فريق رون بينجوردي، الذي قام بدوره ويل فاريل الذي شارك مكاي في العديد من أفلامه، سواءً على صعيد الكتابة أو الإنتاج أو البطولة.

من داخل الواقع الأمريكي تنطلق أفكار مكاي، وتتضح حساسيته نحو الموضوعات والشخصيات والمواقف، فالمحرك عادة ما يأتي من قناعة خاصة، تحركه نحو صناعة الأفلام، ربما يترجم مكاي آراء المفكرين التي تتمحور حول انهيار أمريكا كدولة،وحلم وأمة من الداخل، فمن الصعب تصور نجاح أمة تتجه بكامل طاقتها وقوتها نحو الفردية والمصالح الشخصية، كما فعلت الرئيسة أورلين في الفيلم، أو كما فعل المدراء التنفيذيون ومسؤولو البنوك في فيلم The Big Shortالعجز الكبير أو حتى ديك تشيني في فيلم Vice ، بصورة عامة يمكن اعتبار آدم مكاي راصداً لمتغيرات الواقع الأمريكي ومعبراً عنها دون تنظير.

عالم يشبه برامج الواقع

حماقة الشخصيات هي العامل الثاني الملحوظ في سينما آدم مكاي، خاصة في الأفلام ذات البعد الاجتماعي الساخر، مثل سلسلة Anchorman وStep Brothers وThe Other Guys ، شخصيات ذات ملامح كاركاتيرية، تصرفاتها تتجاوز الفهم والذكاء.

ظهرت هذه الملامح الكاريكاتيرية بقوة في رسم الشخصيات في فيلم "لا تنظر للأعلى"، لاسيما أنها تقدم محاكاة لأشخاص واقعيين استحضرناهم طوال تجربة المشاهدة، سواء أكانت شخصيات تحمل أسماء واضحة في عقولنا أم نماذج لشخوص حاضرين في المشهد العام.

أمريكا لم تعد "أرض الأحلام"، فهي لا تنظر للكفاءات بل الفرص المقتنصة لتحقيق مكاسب شخصية وخاصة وفئوية أحياناً، تعرفوا عليها في فيلم "لا تنظر للأعلى" 

وهو ما ساعد الفيلم على تجاوز جزء كبير من توضيح تاريخ الشخصيات، سمة اللحظية التي سيطرت على كل شيء في الفيلم خلقت عالم أشبه بـ"برامج الواقع" الشهيرة، خاصة مع تفشي حالة العبثية الساخرة، سواء من خلال الحدث الذي يتجاوز قدرة الإنسان في مواجهته أو تعامل الشخصيات بطريقة غير منطقية أو عقلية، وكأنهم أشخاص بلا عقول، ولنا في طرفة المياه والبسكوت التي استمرت على مدار أحداث الفيلم خير دليل.

المشترك دائما في شخصيات مكاي أنهم جميعاً على حافة الخطر والهاوية التي تقترب، هناك خاسرون دائماً، وآخرون يربحون، الانتقال من خانة الخاسر للرابح والعكس دائماً ما تكون حاضرة حتى ينتهي كل شيء مع فيلم "لا تنظر للأعلى"، ويحل الدمار على الكوكب وساكنيه، وتتلاشى كل محاولات إنقاذ الذات، فلا يوجد سفينة نوح حتى نستقلها.

غريبو الأطوار

اهتمام آدم مكاي بالشأن الأمريكي الداخلي جعله يتقاطع مع موضوعات أكثر عمقاً وارتباطاً بالواقع، كما حدث في فيلم The big short وفيلم Vice الذي يعتبر من أكثر أفلام مكاي تماسكاً على صعيد السيناريو، والأكثر حضوراً في قلب المشهد العالمي، لرصده المسيرة السياسية لنائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني خلال فترة غزو العراق.

كما ساهم فيلم Vice في خروج آدم مكاي من الداخل الأمريكي، وصولاً إلى قلب الاهتمام العالمي، أما في فيلم Don’t Look Up فلا يخاطب الفيلم العالم من خلال السياسة، كما فعل فيلم Vice، أو السيادة الاقتصادية كما في فيلم The Big Short، بل من خلال أزمة ستطيح بالكرة الأرضية تتجاوز السياسة والاقتصاد، وتنهي مسيرة البشرية على وجه البسيطة.

هل في دوائركم شخص غريب الأطوار، لا يلتزم بالاجتماعيات، هذا النمط من الشخصيات الأكثر حباً ومهنية، وهؤلاء من يدقون ناقوس الخطر، فاستمعوا لهم حتى لا يحصل معكم اللي حصل في فيلم "لا تنظر للأعلى" 

ولكن الملاحظ أن قارعي ناقوس الخطر في أفلام مكاي عادة ما يتسمون بالغرابة أو عدم التوافق مع الاجتماعيات، كما حدث مع كيت ودكتور ميندي في "لا تنظر للأعلى"، وكذلك مايكل بيري في فيلم "العجز الكبير"، ربما من يلاحظ الاختلاف عليه أن يكون مختلفاً.

استفاد مكاي من بدايته التي انطلقت من برامج الترفيه التلفزيونية، التي حولها إلى طاقة تضافرت مع حس الكوميديا الساخر بل والسوداوي في بعض المواقف.

انتقاد الحلم الأمريكي والسعي نحو المكسب السريع وكشف ملامح المراوغة التي تسيطر على "أرض الأحلام"، التي لا تنظر للكفاءات بل الفرص المقتنصة لتحقيق مكاسب شخصية وخاصة وفئوية أحياناً.

لوحة "العشاء الأخيرة"

"احذر الرجل الصامت، فبينما يتكلم يراقب الآخرين، وبينما يتصرف الآخرون هو يخطط، وحين يرتاحون في النهاية هو يهاجم"، هكذا استهل مكاي فيلمه Vice للتعريف بشخصية ديك تشيني.

تتفرد مشاهد البداية والنهاية في أفلام مكاي بخصوصية خاصة، حيث تكون تعريفية في أغلب الأحيان ومسبوقة بجمل تفك طلاسم الفيلم وأحداثه، أو يتوجه بها مباشرة إلى الجمهور وكسر حاجز الإيهام السينمائي وكأننا في برنامج واقع، فيلم "لا تنظر للأعلى" كان له نصيب من دلالية المشاهد الختامية على وجه الخصوص، واستعارة دلالية اللوحة الأيقونية لـ"العشاء الأخير" الذي جمع المسيح والحواريين، حيث يتجمع الدكتور ميندي وكيت والمؤمنون بحقيقة المذنب، والهلاك المنتظر.

لا تقف استعارة الدلالات عند حد "العشاء الأخير" بل عاد بالزمن إلى ما هو أبعد من ذلك في تاريخ البشرية، حيث سفينة نوح التي ذُكرت في الكتب السماوية وحتى الميثولوجيا السومرية، اختلفت السفينة وأصبحت طائرة، استقلتها الرئيسة أورلين ورجل الأعمال بيتر إشرارويل. يقول المثل الشعبي المصري "إن جالك الطوفان حط ابنك تحت رجليك"، وهو ما فعلته الرئيسة أورلين بعد ترك ابنها وداعمها المخلص جيوسن، في مشهد جسده جونا هيل بملامح مزجت بين الطفولة وخيبة الأمل، ونُحّيت الكوميديا جانباً لتوضح الجانب المتوحش من الإنسان بعد ما فعلته الأم الرئيسة.

شلة فنانين تحب ما تفعل

على تتر أفلام مكاي غالباً ما تتكرر أسماء شركائه في صناعة الأفلام، سواء في خانة تنفيذ الصورة البصرية، خاصة في المونتاج والموسيقى، أو حتى على صعيد الإنتاج والتنفيذ، إلى جانب عنصر التمثيل.

بالعودة إلى فريق العمل، فهناك أضلع هامة تساند مكاي لخروج أفلامه على هذه الشاكلة، وكأنها أفلام شلة تحب أن تفعل ما تريد، وايل فيريل ممثل كوميدي شهير، رافق مكاي في أفلام كان هو بطلها أحياناً، وأخرى اكتفى بالوجود في خانة الإنتاج والتنفيذ، ومن بعده براد بيت الذي اتجه بدوره للإنتاج، لكن الاسم الأكثر تكراراً على تتر أفلام ماكاي هو المونتير Hank Corwin صاحب الترشيحات للعديد من الجوائز لمونتاج أفلامه مع مكاي، ظهر اسم Corwin كمونتير على تترات أفلام The big short, Vice, Don’t look up، ولأن المونتاج هو الإخراج الثاني كما يُشاع عنه، فإن مكاي وكوروان بينهما لغة مشتركة، وهو ما يفسر غلبة القطعات الحادة، التي تدعم روحاً ساخرة تصدرها الصورة البصرية، والقفزات التي تتجاوز التفكير المنطقي، وهو ما قد يكون مزعجاً لبعض المشاهدين، ويحتاج إلى مشاهد يقظ، يستطيع التعامل مع طريقة التعبير البصري التي يقدمها، وكذلك دلالة اللقطات الأرشيفية والتسجيلية التي لا تتعدى اللحظات، لكنها تترك المشاهد تحت تأثيرها طويلاً.

وأحياناً يكون الخيار جريئاً بنزول التترات قبل مرور الساعتين، كما حدث مع فيلم Vice في اختيار ذكي لطرح مسيرة ديك تشيني، التي تصور البعض أنها انتهت بعد أزمة ابنته المثلية، لكنه يعود من جديد كواحد من قيادات جورج بوش الابن.

الشعور بأن النهاية تقترب، وتبدأ المسيرة من جديد يعزز من قوة دائرية الأحداث، التي تختلف في عناصرها وأسبابها لكنها تتفق في النتيجة النهائية.

ستيف كاريل اسم متكرر في أفلام آدم مكاي، ويعتبر شخصية مفتاحية في أغلب أفلامه، عبر معه من الكوميديا الفارس في Anchorman: The Legend of Ron Burgundy وصولاً إلى التعبير الجاد في The Big short , Vice، وتجسيد شخصية دونالد رامسفيلد أحد أضلع السياسة الأمريكي على مدار ما يزيد عن ربع قرن.

عادة ما يتمسك مكاي بفريقه، وتتكرر الأسماء تحت ملامح شخصيات مختلفة، كما حدث مع كريستيان بيل بطل فيلمي The Big Short وVice.

هل نتوقع تكرار اسم ليوناردو ديكابريو أو ميريل ستريب من جديد مع آدم مكاي بعد تجربة فيلم Don’t look up؟ لا أتصور حدوث ذلك، لأن فيلم "لا تنظر للأعلى" كان تجربة لها خصوصيتها اللحظية، وأتصور أن اهتمام الممثلين بتقديم نقد مباشر للقيادات السياسية، كما فعلت ميريل ستريب، كان أحد الدوافع الهامة للمشاركة في الفيلم.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard