شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من سلطة رجال الله إلى اللوسيد دريم… سيرة لاوعي

من سلطة رجال الله إلى اللوسيد دريم… سيرة لاوعي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 22 يناير 202211:45 ص

الخارج إلى الضوء

مجاز جديد من تدبير أحمد شهاب الدين


محمد الرسول يضحك ويظهر لي خاتم النبوة، حبيبتي تجلس حزينة على عتبة جامع أبي بكر الصديق (الخليفة الأول)، ورجل يلوّن وجهه بألوان الغابة يحدق فيّ غاضباً، وإيزيس تخرج من الرمال الذهبية، تقول كالحالمة: "حواس جديدة في الكون، دعها تتفتح ولا تعلق بالقديمة".

إنها الأحلام.

لا أدري ماذا يظهر في بالك عندما تسمع تلك الكلمة "الحلم"، ربما تبدو غامضة وبعيدة، أو تحتاج لرفاهية الفراغ لننتبه لها، ولكن ما يدور في بالي أنها درجة عالية من الحياة، تبدو الحياة الواعية بجانبها مجرد استنساخ باهت لحيويتها.

أحلام إسلامية

كانت أجمل النساء/ الأطفال، وكانت المرة الأولى التي أختبر فيها حالة الشرود. نظر إليّ مدرس المرحلة الخامسة الابتدائية، في مدينة جدة السعودية، وأنا شارد أمامي في اللاشيء.

كنت أفكر في حلمي، لأول مرة أعيش تجربة حياتية بهذه الحيوية والدرامية، في واقع ممل بأحداثه وباهت بألوانه.

كنا نجمع طوابع العصير "سانتوب" للحصول على ألعاب غريبة كهدايا، وواعدتني حبيبتي منى، سمراء اللون، ذات الضفيرتين، بأن نتقابل عند الملاهي في حيّنا، وأقنعت أخي الأكبر بأهمية أن يصاحبني ليرى أجمل النساء، البنت/ الطفلة التي أحببتها.

وعندما جاء معي، ضرب المنطقة زلزال كبير، وتوحشت الملاهي بالفراغ. فتشت عنها في كل الأماكن، حتى عثرت عليها جالسة على عتبة مسجد شهير في حينا، اسمه "مسجد أبو بكر الصديق".

بعدها بأيام وشهور وسنوات، كنت أفكر فيها قبل حلمي، علّني أراها ثانية، رأيت في حلم آخر إحدى صديقاتها تعدّ شنطة السفر، كنت أكلمها عن حبيبتي منى، ولكن لا ترد علي هي الأخرى.

أخبرت أمي فقالت لي: "رؤية البنت الحلوة خير".

محمد الرسول يضحك ويظهر لي خاتم النبوة، حبيبتي تجلس حزينة على عتبة جامع أبي بكر الصديق، وإيزيس تخرج من الرمال الذهبية... مجاز الخارج في رصيف22

ويتكرر الحلم بأني أطير محلقاً كالصقر الذي رأيته في الصحراء التي ركضنا فيها أنا وأخي بعد أن قفزنا عن سور الشرفة، لنلعب الكرة مع أصدقائنا السوريين والأردنيين، ولكني في الحلم أشاهد خراب الملاهي، ولا أثر لمنى.

لم تكد يتلاشى تأثير الحلم الأول، حتى اجتاح لاوعيي حلم آخر: رأيت نفسي في شوارع مصر (كنت في جدة آنذاك)، وأن إسرائيل غزتها ونجحت، وآويت ليلتي مع امرأة أربعينية، ممتلئة الجسد في حيوية وإثارة.

في نهاية الحلم، أذكر أني صحوت في الحلم غاضباً من احتلال إسرائيل، وقمت بقطع الشجر وحرقها ورميها في وجه "الأعداء" وأنا في فورة غضبي، حتى قضيت عليهم، ورفعني الناس على أكتافهم مثل الملوك.

بعد هذا الحلم، أذكر أن مستويات سلوكيات الأنا وصلت لدي إلى مدى مرضي، خاصة في الفصول الدراسية ومع المدرسين. وأطير مرتفعاً في السماء، ولا أشاهد سوى خراب الملاهي، ولا أثر لمنى.

عشت طفولتي في السعودية، كنت أشعر بالملل من حياة أبي وأمي، حتى من توقعاتي عن المستقبل، فأن تعيش حياتك موظفاً، في روتين آلي روبوتي، كان يمثل كابوساً.

كنت أرى حكايات المسلمين الأوائل، بطولية أسطورية، أشخاص آثروا أن يكون لديهم مغامرات لأهداف أعلى من هذا الروتين، والطموحات المادية والوظيفية التافهة، ولا يوجد نمط حياة يجعلني أجسد تلك المعاني في الحياة الحديثة سوى بالانضمام إلى جماعة أسامة بن لادن، النشطة في أفغانستان والشيشان.

قال لي شيخ صوفي في تفسير الحلم الأول إني سأكون من المجددين في الفكر الديني الإسلامي، وأما الحلم الآخر فقال إنه كان "سباتاً"، وهي مفردة تعني الراحة بلا رؤيا في الحلم، وذلك لأني مارست الحميمية، فـ"الجنس يفسد الحلم، حتى مقدماته"، كان هذا أول بيان عن الأحلام أتلقاه.

في تلك المرحلة أيضاً، رأيت محمداً الرسول في أحد الأحلام، كان مطابقاً للوصف الذي حفظته وتخيلته من كتاب السيرة "الرحيق المختوم"، ذائع الصيت في السعودية أيام الصحوة الإسلامية. وجهه أبيض مشرب بحمرة، طويل، عريض الكتفين، كث اللحية، طويل الشعر، فتنني شعره الطويل.

قلت له أعطني أمارة إنك النبي محمد. خلع رداءه عن ظهره، وأراني شكلاً يشبه الحمامة، فضحكنا، وأعطاني كتاباً لونه أخضر، وقال لي: أنتظر منك الكثير تعمله لديننا ورسالتنا.

في تلك الفترة كانت حرب الشيشان، وكانوا يعلقون على حوائط الساحة المدرسية أخبار "الجهاد" أولاً بأول، في زمن لم يكن للإنترنت حضور. ولازلت أطير كالصقر في الصحارى والهضاب، ولكني نسيت الملاهي، ومنى.

كثيراً ما فكرت أن أترك دراستي وأجاهد في الشيشان للدفاع عن أفكار هذا "الكتاب الأخضر" الذي أهدانيه محمد في المنام. جاء في كتاب أحاديث محمد الكبير "البخاري": "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره، وليستعذ بالله منه، فلن يضره".

ونقل موقع إسلام أونلاين عن أحد أساتذة الشريعة علامات، تتشابه مع اللوسيد دريم، عن الرؤيا "الصادقة"، وهي "سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا، كأنه يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة... وثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرؤيا". عندما بدأت أخرج، وأنا في عامي الجامعي الثاني بكلية التربية شبين الكون، من عباءة السلفية والتطرف، انتقمت على هذا الجانب من وعيي، كل ما يمس الرموز الدينية بصلة.

وكتبت المستشرقة الألمانية أنّا ماري شيمل، كتاب "أحلام الخليفة: الأحلام وتعبيرها في الثقافة الإسلامية"، وفيه أن الرؤيا الصادقة، وهي جزء من 64 جزءاً من النبوة، هي رؤى الأمر، رؤى النهي، رؤى البشرى ورؤى التحذير. ومن الرؤى الباطلة، التي تتطلب الاستغفار، الجنسية التي تعرف بالاحتلام، ولابد من الاستحمام بعدها أو الغسل، ورؤية الملائكة يمارسون المجون، أو إمام من أئمة الإسلام يخون الدين.

البروفيسور جون مشيشل هرت، بحسب ترجمة عربية، ذكر أن للرؤيا في بدايات الإسلام لها امتداد في الواقع، مثل الأذان، الذي شرع بسبب تشابه في الرؤى لعبد الله بن زيد المدني وعمر بن الخطاب. وعلق هرت على كتاب "الأحلام الكبير" لابن سيرين، والذي حظي بقبول شعبي ونخبوي واسع في العصور الإسلامية الأولى، بأنه يكشف عن اتصال بين البشري وبين الإلهي، والتداخل بين الديني والدنيوي بمقاربات مفاجئة، مثل: "ومن رأى كأنه ينكح أمه الميتة في قبرها فإنه يموت، لقوله تعالى: منها خلقناكم وفيها نعيدكم".

انقلاب الحلم إلى نبوة بحسب هرت هو "اعتراف بالتغيير الضروري الذي يطرأ على الروحي من قبل الجسدي، متحرراً من مبادئ الأخلاقية، ملائماً للكفر ولانتهاك الحرمات، ومتلاعباً بالعقل، فإن مشهد الحلم يجمع بين غير المقبول وبين المستحيل"، بحسب ترجمة موقع "حكمة".

في ورقة بحثية لمايكل فانوي آدامز، المحلل النفسي اليونغي، يعتبر اللاوعي الثقافي بعداً من أبعاد اللاوعي الجمعي، العقل الباطن لمجموعة من الناس يتشاطرون الأنماط البدئية ذاتها، وعرف المركبات الثقافية بأنها "مجموعة من القيم التي تتعامل معها الثقافة بحساسية عاطفية خاصة". إحدى تلك المركبات الثقافية المهيمنة ما أسماه "المركب الثقافي في الشرق الأوسط"، هذا المركب هو فاعل في التقاليد اليهودية والمسيحية والإسلام، على الرغم من وجود اختلافات، ولكن توجد تشابهات هامة.

"المركب الثقافي" هو مجموعة من القيم تتعامل معها الثقافة بحساسية عاطفية خاصة. وما يميز مركبنا هو التسليم والخضوع، فالتسليم هو ما يعنيه الإسلام، وفكرة آخر الوحي تعني أنه يستوعب ويلغي ما قبله، وهو ما أسماه "مركب التسليم".

فالمسلمون، مثل المسيحيين واليهود ولكن بدرجة أقل، لا يستطيعون الدخول مع اللاوعي في حالة من الحوار النقدي، لأن علاقتهم به خضوع وتسليم، لذا قد يشعر المسلم العلماني الساعي إلى الفردية بأن ما يفعله لا يتناسب مع الذات الإلهية المقدسة.

يكتب آدامز: "التفرد مقترن بتضخم الأنا، الذي قد يرتبط أو يعادل الله، أو مساواته بالله".

كنت أفكر فيها قبل حلمي علّني أراها ثانية، رأيت في حلم آخر إحدى صديقاتها تعدّ شنطة السفر، كنت أكلمها عن حبيبتي منى، ولكن لا ترد علي هي الأخرى. أخبرت أمي فقالت لي: "رؤية البنت الحلوة خير"... مجاز في رصيف22 

فقط بعد مرور 3 سنوات على أول تجربة "إل إس دي"، وأنا في نويبع المصرية، المكان القصي الهادئ، أيام الاضطرابات العسكرية في شمال سيناء، عاد إليّ أصدقائي المتشددون القدامى في أحلامي.

كنت مع فتاة جميلة لم أرها من قبل، ونتبادل الإعجاب، جاء رجال متشددون، ملتحون، كان منهم أصدقاء أيام المراهقة الأولى، ومعهم سيوف وبنادق، وأخبروني أني خنت أمانة محمد، وآثرت متع الحياة الدنيا، وعلي أن أختار بين الموت حداً أو العودة إليهم، جرينا أنا وصديقتي، حتى مللنا من العدو، فتوقفنا، انتحينا مكاناً جانبياً، ومارسنا جنساً رائعاً.

أعجبت بشجاعتي عندما استيقظت، وفرحت كالمراهقين وأنا أتحسس عضوي المبلول، وجسدي المعرورق في كل هذا الصقيع، وأصابني دوار كأنها تجربة حقيقية.

وجاء في كتاب آنا ماري شيمل أن الأحلام في الثقافة الإسلامية، "تلعب دور الإرشاد والهداية، والعدول عن مواقف وآراء ومذاهب".

وذكرت أيضاً أن "الأحلام تعمل على تعليم الإنسان الحكمة، وتعمل على تقويم سلوكه وتوجيهه نحو الأصوب".

خرج من الشمعة شبك ذهبي، ورأيت حتحور كما تصورها الجداريات المصرية، في مركز الشبكة، تنسج نسيجها، ويتراءى من الشبكة صور لحروب ومعارك وجنس وانفجارات وجنائن.

من الغريب أني لا أذكر حلماً واحداً في تلك المرحلة المتحررة من شبابي الأول، باستثناء حلم الطيران الذي يراودني منذ الطفولة، والتي تفسره أمي لي بروحها المتفائلة المشجعة أن "تطلعاتي عظيمة، وأنها علامة على تحقيقها، طالما أني لا أنكفئ على وجهي في الآخر".

ولا أذكر حلماً واحداً في سنوات ثورة يناير، 2011-2013، ما أذكره أني كنت أنام أقل فأقل، وأصحو مسرعاً لملاحقة الأحداث المتتابعة، وأتسلى في وقت فراغي بقراءة كتب تتحدث عن الثورة والإصلاح.

ولكن في نهاية عام 2013، كانت بداية الاكتئاب، سبقني كثير من أبناء جيلي إلى الاكتئاب، بحسب أولى التقارير المنشورة في الصحف المصرية عن انتشار الاضطرابات النفسية بين جيل الثورة.

كان الحلم ذاته يتكرر، مستلهماً حادثتين من أكثر التجارب إيلاماً في حياتي، واقعة حدثت في ميدان التحرير ليلاً بإحدى التظاهرات المناهضة لمحمد مرسي، رئيس مصر آنذاك، كانت هناك مجموعات بلطجية مسلحة، تحلق حول امرأة، واغتصبوها بلا مقاومة من الحاضرين، بل برد فعل بارد وغريب (اجتاح شخصيتي بعدها شعور بالذنب والعجز أفقدني اتزاني النفسي لعامين).

المشهد الثاني كان أيام فض الاعتصامات الشهيرة في العباسية، قبل الانتخابات الرئاسية الديمقراطية اليتيمة التي أجريت في تلك الشهور، كان معي زميلات المؤسسة التي كنت أعمل بها، واعتقلت الشرطة اثنين من زملائي، وكنت أخوض طريقاً طويلاً من أمام قسم شرطة الوايلي حتى مدخل أقرب مترو، كنت أسمع طلقات النار من خلفي، وكان رجلاً ملتحياً يجري، حتى ناله أحد "الناس" بساطور على رأسه أرداه قتيلاً.

هذا الساطور، وتلك الطلقات والمطاردات، باتت تتكرر في دوائر كابوسية لا تنتهي، في أحلام شكلت حالة الاكتئاب التي عشتها حتى 2014.

كان يراودني كل فترة بعيدة وأخرى حلم الطيران، أحياناً والشرطة تطاردني في حلم أذكر أني كنت أقفز لبضع كيلومترات، وأطير، كنت ألهو وألعب بينما هؤلاء الجادون الدميمون يجدّون في طلبي.

حتى جاء الوقت، لم أكن مستعداً للطيران إلى كل هذا البعد، ولم أتخيل أن مشكلة الجاذبية وأني لا أطير في حياتي الواعية ستشكل قيداً أكبر من القيود السياسية والاجتماعية.

كان ذلك في أول رحلة مع عقار الأسيد، كأن جسدي نيزكاً أو نجماً أو كوكباً، لم أكن أراني، كنت أسمع صوت يشبه محرك السيارة، وكنت أهتز، أطير في الفضاء الواسع. كانت الأنوار والظلمات تفاجئني بلا تمهيد، ورأيت كرتنا الأرضية تخرج من بين الضباب، فيها أنوار كثيرة كعيون، يسيطر عليها اللون الأزرق تقريباً، كنت أهبط وأهبط ببطء، حتى وجدت نفسي مغشياً علي في أريكة الصالون في بيت صديقي، شعرت بصدمة أني بشر، ودخلت روحي في جسدي.

هل هذا هو الموت؟ وهل هذه هي الحياة؟!

حلم إيزيس

لم أعد للاهتمام بالأحلام سوى وأنا في الثالثة والثلاثين من عمري، وقال أصدقائي المعمرين لي آنذاك إنه عمر القرارات الهامة واحتمالات تغيير المسارات.

تكرر عندي حلم أني في مدرسة أو جامعة، وفي فترة امتحانات، دائماً لا أعرف أي امتحان أنا ذاهب إليه، ولا أعرف طاولتي، كنت أقابل المعلمين ولا أعرف عم أسألهم.

قبل تعييني في رصيف22 كمحرر، أذكر أني ذهبت إلى المدرسة وكان التلاميذ قد انصرفوا. ذهبت إلى أقرب أصدقائي، وتأثر بموقفي، وذهب معي إلى المدرسة كأب، كانت المحررة التي أتواصل معها كريستين، صديقتي ومديرتي الأولى في العمل، ترتب أوراق الإجابات، أخبرها صديقي أني ذاكرت وجئت متأخراً، كانت تنظر لي، تضحك ولا تجيب.

مخيف التعامل مع الأحلام، حتى العادية منها، إنها مؤلمة للتقدير الذاتي، تعري واقعنا النفسي والاجتماعي بقسوة، فإلى الآن أدركت كيف أن عملية التدجين طويلة الأمد في المدارس والجامعات، نمّطت وعينا. فعندما نكتب، أو نتقدم لمسابقة أو عمل، عندما نعيش أجواء العمل حتى الإبداعي والتحرري منه، فوعينا لا يفهم سوى أنك في مدرسة، ومن حولك مصححون.

كم هو شعور قاسٍ حتى وأنا أحرر المقالات، وأكتبها، أشعر وكأني مدرس في مدرسة، وأطلب من الكتاب ما يشبه الواجب، إحساس عميق ومؤلم.

كيف أتحرر من ذلك؟

سألت نفسي، وحلمت بحلم آخر، أني في مدرسة بجوار صحراء، مبناها متداخل مع خارجها، وأنا طالب مجتهد، ويوجد آخرون يقفزون من خلف السور، ورأيت صديقتين وزميلتين، كريستين وإيناس، نتبادل الإعجاب الفكري والرؤى الروحانية فيما بيننا، سمراوتان في الحلم، كأنهما من الحبشة، وفي أيديهما "أيادي البلايستينشن"، يلعبان بالمشهد الحلمي كله، كنت أسمعهما يتحادثان:

"إنه لا يفهم ماذا يفعل".

"لا! بدأ يشعر، بدأ يتساءل".

"لن يفهم إنها لعبة".

"اصبري عليه بدأ يسمع همساتنا".

يتهامسان عني، ويتمنيان أن أقفز من السور، ولكني جبنت.

عندما استيقظت، كانت الفكرة، أن أقفز من السور، وبدأت أستخدم هذه الاستعارة مع نفسي ومع من يتعاملون معي، لا بد أن نتحرر من ماضينا المدجن ونقفز عن السور.

وعندما قفزت من السور، وتأثرت حياتي بشكل كامل، جاءتني أحلام تخيفني، أني أجلس في قاعة مسرح، أشاهد مسرحية، كان فيها أبي، ولواء في الشرطة، وأحد مدرائي في العمل، ومدير مدرسة، وشيخ مشهور. كنت أشعر بالجوع، وكانوا مجتمعين ليبتّوا في شأني، حينها انقض علي فأر صغير، وجرحني في ساقي.

كان هذا الحلم الصدمة، فمنذ 4 سنوات وأنا أكتب معظم أحلامي، وأستكشف رموزها، ما صدمني. وكنت أحاول أن أتجنب تلك الفكرة المرعبة، أن كل رموز السلطة واحدة، الله، محمد، رب العمل، الأهل، الشرطة، كأنهم أقنعة لوجه واحد، يجسد السلطة وموسيقاها الجنائزية العسكرية.

ذات حلم، رأيت أني في بيت غريب، أتنقل بين غرفه، وأنا أسمع صوت أنثوي ناعم يردد سورة الإخلاص والمعوذتين، في ترنيمة كان من المفترض أن تطمئني ولكنها أخافتني... مجاز في رصيف22

الجميل في الأحلام أنها تحول حياتك لتجربة منسجمة غير منفصلة، اللاوعي لا يفرق بين مناخ العمل والأسرة والصداقة وجلسات المتعة، يجمعها في أنماط، ويشفرها في أنماط واحدة.

في تلك المرحلة، والتي بدأت منذ نصف عام مضت، والتي أسميها "القفز من على السور"، تعاونت كل رموز السلطة في أحلامي لتهديدي، ولإرجاعي إلى حالة الانضباط في المدرسة والامتحانات.

قررت أن أكون إيجابياً في الأحلام، ألا أدع الأحداث الحلمية تؤثر في شخصيتي الحلمية، سأكون أنا الفاعل والمؤثر، وفرحت بنفسي في حلم احتفلت به مع أصدقاء، عندما قررت أنا وزملائي، شهداء موقعة العباسية، أن نأخذ السلاح ونقتحم تلك الحديقة الممتلئة بالشرطة، ونحرر زملاءنا المسجونين، وعشت مشاهد تشبه فيلم الماتريكس الجزء الأول.

حتى جاء يوم 11/11/2019، هذا اليوم الذي لا أنساه، كنت أمارس التأمل ليومين، وأنا في رحلة أسيد، لأول مرة أشعر باللوسيد دريم، كنت أرى حياتي وأحلامي كلاً واحداً، وأنا على سريري، والشمعة أمامي، وموسيقى مهلوسة لفرقة لكويد بلوم في أذني.

خرج من الشمعة شبك ذهبي، ورأيت حتحور كما تصورها الجداريات المصرية، في مركز الشبكة، تنسج نسيجها، ويتراءى من الشبكة صور لحروب ومعارك وجنس وانفجارات وجنائن.

وجدتني في مكان مظلم، وماريا التي شاهدتها على وجه صديقتي الساحرة، بالمعنى اللفظي والمجازي، تحملني كالأطفال، فرحة، ودخلت قصراً محاطا بأبواب، وكائنات يشبهون ماريا تحمل أطفالاً يشبهونني.

بعدها بيوم، وقد اختلطت علي حالات النوم واليقظة، شكراً لأصدقائي الذين أرشدوني بسماحة نفس على علامات تفرق بين أني أحلم أو في يقظة. رأيتني أمشي في رمال ذهبية. كانت الشمس دافئة والجو منعشاً، ومن بعيد، اقتربت امرأة بزي مصري قديم، حتى التقينا، رأيت فيها صورة إيزيس، كاملة متوهجة، قالت: "أحاسيس جديدة تتفتح لا ترتبط بالقديمة، كل شيء يتغير في الكون الآن".

بدأ يأتي لي ما يمكن أن نطلق عليه الجاثوم، رؤى غائمة وإحساس بالشلل، أتنفس ولكني لا أستطيع. كانت فترة اتخذت فيها موقفاً متمرداً مع العائلة، والرب الإبراهيمي، والعمل. رأيت أني في مدرسة، نصطف في طابور طويل لنخرج منها ولكن ببطء، وأخي الأكبر، الذي كان مصدر حماية لي في المدرسة والجامعة، يوصيني بألا أخرج عن الطابور.

تركت الصف عندما سمعت الأذان، وصليت على مرتبة مريحة تشبه التي أنام عليها الآن، وأمارس فيها التأمل، وكان أبي شديد الإعجاب بي، وكنت أشعر براحة نفسية كبيرة، لم أشعر بها إلا في بداياتي الإسلامية المتطرفة، وعندما عدت للطابور، وخرجت من المدرسة، اختطفتني عصابة، وضعوني في سيارة حمراء، وركبوا قيداً يشدني له بالكهرباء، وأوقفوا السيارة في متجر.

نعم، يبدو أن اللاوعي الإسلامي يريد لي أن أخضع، وأستسلم، ففي أوقات الأزمة أعود لترديد المانترا الإبراهيمية، التي تردني كخروف ضال إلى الراعي/الأب/الرب. استمر ذلك حتى نجحت ودخلت في مرحلة اللوسيد دريم، الوعي الكامل في الحلم أني أحلم، الحرية في أفعل ما يحلو لي.

اللوسيد دريم

في أول كتاب نُشر عن اللوسيد دريم، يترجم أحياناً بالحلم الواضح، اسمه "حلم اللوسيد: فجر الضوء الساطع" كتبه جريجوري سكوت سبارو، خريج علم 1976، وهي أكثر ما قرأت تتشابه تجربته مع تجربتي.

فتنت بسرديته حول الوعي في الأحلام، يقول في بداية كتابه: اللوسيد دريم هو أن "تختبر أن تصبح واعياً بينما أنت في حالة نوم"، ويتفق مع التفسير الإسلامي، بأن هذه الرؤى تمتاز بظهور كائنات نورانية، وسطوع النوع من شكل دائري كالشمس أو القمر أو نجمي.

يرى غاريد زيزيل، خبير اللوسيد دريم، أن الحالم يشبه راكب الفضاء (أعجبني التشبيه). حيرة ودهشة عندما تكتب يوميات حلمك، إلى أي عالم تنتمي، تشعر بحقيقتك؟ شعر زيزيل بنفس الحيرة، يقول أفضّل إنّ كلا العالمين مهم، ويؤثران في بعضهما الآخر.

عندما تشاهد فيلماً فيه وحش، في ذات الليلة قد ترى ذات الوحش في حلمك، وعلى جانب آخر إذا طرت في الحلم، هذا الإحساس سيترجم إلى العالم الآخر، بإحساس الطموح العالي والحرية.

هناك ترابط بين العالمين، يقول زيزيل.

ذات ليلة، وبإيحاء من كتاب سكوت، قررت أن أمارس التأمل داخل اللوسيد دريم، هنا كنت أدخل إلى مستويات أعمق من الحلم، تشبه بشكل كامل فيلم "إنسيبشن" الشهير، حلم داخل حلم داخل حلم، ولكني لم أستطع أن أتجاوز المستوى الثالث.

الأحلام لعبة يا رفاق، ولكنها لعبة ممتعة وذات معنى ولها تأثير قوي وعميق على أدائك في الواقع الخارجي، وانتبهت أن الآلية التي تحدث عنها أريك فروم في كتاب "فن الاستماع" وسماها "المقاومة"، أي مقاومة الوعي لأي فعل من أفعال التغيير، يشعرك بالخوف والرهبة، أو يشتت انتباهك لأشياء أخرى، فيفقد التغيير الجذري جاذبيته.

هذه الآلية تفعل فعلها أيضاً في الأحلام، ففي الوقت الذي استبدلت اللاوعي الصحراوي بآخر مستلهم من الحضارة المصرية القديمة، والشعوب الأصلية في أستراليا، والهنود الحمر في أمريكا، بدأت تتكرر الكوابيس، وتدفعني دفعاً إلى الاستغفار.

أشعر أني أتنفس، وهمسات مرعبة في أذني.

ذات حلم، رأيت أني في بيت غريب، أتنقل بين غرفه، وأنا أسمع صوت أنثوي ناعم يردد سورة الإخلاص والمعوذتين، في ترنيمة كان من المفترض أن تطمئني ولكنها أخافتني، وكانت يد آلية حديدية تخرج من الهواء، وتقبض على رقبتي، وأجدني أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

يثمّن غاستون باشلار، فيلسوف الأحلام الفرنسي، في كتاب "الأرض وأحلام يقظة الإرادة… بحث في خيال القوى"، تلك الكوابيس التي نختبرها في منامات، والشياطين التي نصارعها في يقظتنا أيضاً، وخيالاتنا، ويرى أن لها دوراً في "تقويم الخيال"، خاصة الأفراد الذين عانوا من ماضٍ أليم، وضعف في الإرادة، واستعرض كل الصور الملائكية والشياطينية التي نختبرها في أحلامنا. ولفت إلى وجود حركة عمودية للوعي، من أعلى إلى أسفل، على هذا الترتيب: الصور الروحانية السماوية، الصور الأسطورية العليا، صور لاوعي الشخصي، الصور الأسطورية السفلى، الصور الروحانية الجهنمية.

تعلمت الكثير من اختباري لحالات الأحلام الخالصة، أو للحالات المتداخلة بين الحلم واليقظة، كالتأمل وترتيبات الأسيد، تعلمت أن الإيغو الذكوري مجسد في صورة الفرعون، يقال إن صياغته الحلمية للكهنة المصريين الأوائل، تحدث عن تلك البرمجة الكهنوتية اللاواعية كتاب التحليل النفسي "أنا حكة"، فداخل كل رجل منا إحساس عميق بأنه إله، يقول للشيء كن فيكون، ثم يصطدم بواقع معاكس، لأنه ليس فرعوناً، فيسقط فرعونيته الأنانية على الذات المتعالية، ويخضع لـ"مركب الاستسلام".

كلما ذهبت إلى سماء، وجدت أرضاً مختلفة، في البداية كانت حيوانات ضخمة، ثم قرود وشمبانزي، ثم هنود حمر، وفي مستوى مرتفع رأيت محمداً وأصحابه، كانوا يتهيؤون للصلاة في مكان صحراوي، وشاب أسود، اعتقدت أنه بلال بن رباح، يقيم الصلاة مؤذناً... مجاز في رصيف22

الفرعون، تلك الصورة التي استثمرها موسى وروحانيو الشرق الأوسط الأوائل، الذين برمجوا اللاوعي الإبراهيمي، ووهبوا كل دلالاتها لكائن متعالٍ، لا يتواصل سوى معهم هم حصراً، لذا كانت صدمة، عندما "اتربيت" وأنا داخل الهرم الأكبر في 2/11/2021 ورأيت ساحة تنافس بين السحرة، ولكن موسى لم يكسب المعركة، لقد ارتدت الأفعى عليه وكادت تأكله.

انتبهت إلى أن تلك القصص الدينية، خاصة الحرب بين موسى وكهنة فرعون، لها دور كبير في برمجة اللاوعي الديني، وأن أكبر تهديد للصورة المقدسة للمتعالي الإبراهيمي هي الفرعون المصري، وأن صورة الجنة تشبه إلى حد كبير مصر القديمة، جنات تجري من تحتها الأنهار، وأنه هو المتحكم في تدفق ترع "فروع مائية" نهر النيل، فبمجرد أن يسخط على قرية سيمنع عنها الماء، وستموت كلها، لذا وقف أمام شعبه قائلاً: "أليس لي حكم مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي".

وتعلمت أيضاً، أن كل روحانيين أسسوا للاوعي جديد، شددوا على حرمانية التعامل مع كل أشكال اللاوعي القديمة، فالأديان الإبراهيمية شديدة العدائية للغنوصية، والمسيحيون الأوائل هم من اخترعوا تلك الكلمة العنصرية "الوثنية"، في وصم لما قبلهم، وحرص محمد وأصحابه على تحطيم الأصنام، و"تطهير" الجزيرة العربية من كل "مشرك" و"ثني"، إما بقتله أو تهجيره أو استمالته للإسلام.

وتعلمت أيضاً، أن اللاوعي موجود، وتلك البرمجة الدينية لها دور كبير، وأن تجاهلها، سواء من الشعوب التي جنحت إلى الواقعية المادية أو من قبل ملحدي الشرق الأوسط، يجعل أصحابها عرضة للنكوص، والخضوع لأنماطها البدئية، خاصة في أوقات الأزمات والكوارث الكبرى، الشخصية أو الجماعية.

وأنهي مقالي، شكراً على صبرك على هذه الحكاية الطويلة، بما أسميه "الحلم الأخير"، الذي تحقق أخيراً بعد زيارتي إلى الأهرامات، ورؤيتي لتلك الساحة التي بارى فيها موسى وأصدقاؤه كهنة الفرعون المصري، حلمت أني أطير، هذه المرة كان على شكل عمودي وليس أفقي، وكلما ذهبت إلى سماء، وجدت أرضاً مختلفة، في البداية كانت حيوانات ضخمة، ثم قرود وشمبانزي، ثم هنود حمر، وفي مستوى مرتفع رأيت محمداً وأصحابه، كانوا يتهيؤون للصلاة في مكان صحراوي، وشاب أسود، اعتقدت أنه بلال بن رباح، يقيم الصلاة مؤذناً.

في لحظة عادت لي كل مشاعر الأحلام القديمة، نظر لي مبتسماً، كأنه يقول لي لم غبت عنا طوال هذه المدة، هل خنت الأمانة؟ أين الكتاب الأخضر الذي سلمته لك، حينها تذكرت إيزيس الخارجة من الرمال الذهبية، وهمساتها "حواس جديدة تتفتح"، تركته، وطرت إلى سماوات أعلى، ورأيت أراضي رائعة بتضاريسها وخضارها، ولكن لا بشر فيها، وكأنها أرض بكر لم تطأها قدم.

حتى وجدت نفسي نيزكاً في الفضاء، وصوت أزيز الآلة العالي يحركني، بين النجوم والكواكب، أنوار ساطعة مفاجئة، ظلام دامس ونقط مضيئة كعيون الآلهة البعيدة.

هل هذا هو الموت؟ أم هذه هي الحياة؟!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard