شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أنا خائف يا رأفت، خائفٌ جداً

أنا خائف يا رأفت، خائفٌ جداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 13 يناير 202211:51 ص

أنت يا من تقف على الرصيف البحري لهذه المدينة المظلمة، أكتب إليك.

صباح الخير صديقي العزيز رأفت

استيقظت من النوم باكراً، وشربت قهوتي، وخرجت أتمشى تحت هذه الأمطار اللطيفة كي ألقي التحية على شوارع هذه المدينة للمرة الأخيرة.

تركت حقيبتي موضبةً في المنزل، وبالقرب منها جواز سفري، وخرجت كي أتمشى.

في الحقيقة، حقيبتي جاهزةٌ للرحيل منذ خمسة عشر يوماً، وفي كل يوم أخرج وأتمشى كي ألقي التحية على هذه المدينة للمرة الأخيرة، ولم أستطع اتخاذ قرار الرحيل بعد!

أوضّب حقيبتي بعد أول خلاف، وأفرغها بعد أول كحّةٍ من صدر أمي.

يبدو أن الأمر أصعب مما توقعت!

ربما لأنني أحب هذه المدينة حقاً، أحبها أحياناً.

رائحة البحر في الصباح، ورائحة الأزقة بعد الأمطار، وهدوء هذه المدينة في الصباح قبل استيقاظ الوجوه الثكلى، كلها أشياءٌ أخاف من أن أخسرها.

ذكرياتنا التي بنيناها على هذه الأرض قبل رحيلك أنت والأصدقاء، تمر أمامي كالمشاهد السينمائية في كل يوم ٍ أخرج فيه إلى هذه الشوارع.

أخاف حقاً من أن أخسر هذه الذكريات الجميلة عن هذه المدينة، فواقعها اليوم مختلفٌ تماماً. لقد باتت هذه المدينة مظلمةً وباردةً جداً يا صديقي العزيز.

لا كهرباء، ولا ماء، ولا تدفئة، ولا فرص عمل... لا شيء فيها سوى الجوع والبرد وأنين الناس المتعبين.

وفي الحقيقة يا صديقي العزيز، كل ذلك يهون أمام الصقيع الذي يحرق قلبي بعد رحيلكم.

بل إنني أحسدكم حقاً، لأنكم رحلتم عن هذه المدينة، قبل أن تروها بهذه الحال، فظلت لديكم الذكريات الجميلة عنها، وبقيت أنا هنا أصارع يائساً كي أحافظ على تلك الذكريات.

ولكن ما يعزيني حقاً، هو أنني مسافرٌ للقائكم يا صديقي.

تركت أبي في المنزل غاضباً، بعد أن تجادلنا حول أمر تافه، ومن ثم كبر الخلاف قليلاً، ولكن لا مشكلة، فعندما أعود إلى المنزل، سأطيّب خاطره بكلمتين، وقبلة على خده، وسيرضى على الفور كعادته.

أتعلم يا رأفت... بعد كل خلاف بيني وبين أهلي أخرج من المنزل، وأبدأ بالندم على أنني ضيّعت فرص سفرٍ كثيرةً، لأجل أن أظل بالقرب منهم، وها هم يردّون لي الجميل بافتعال المشكلات معي دوماً، لأتفه الأسباب.

وبعد أن نتراضى، ونجتمع على العشاء، أبدأ بشكر ربي لأنني لم أسافر، وأبتعد عنهم.

دائماً ما يتكرر هذا الحدث.

أوضّب حقيبتي بعد أول خلاف، وأفرغها بعد أول كحّةٍ من صدر أمي.

ماذا سيحدث لو أنهم تعبوا، وأنا بعيدٌ عنهم؟ كيف سيتدبرون أمرهم في إحضار قنينة الغاز؟ كيف سيتكيّف أبي مع الطوابير الطويلة التي وقفت فيها بدلاً منه، طوال السنين الماضية؟ كيف ستقوم أمي بتحديث برنامج الواتساب؟ 

ماذا سيحدث لو أنهم تعبوا، وأنا بعيدٌ عنهم؟ كيف سيتدبرون أمرهم في إحضار قنينة الغاز؟ كيف سيتكيّف أبي مع الطوابير الطويلة التي وقفت فيها بدلاً منه، طوال السنين الماضية؟ كيف ستقوم أمي بتحديث برنامج الواتساب؟ كيف وكيف وكيف؟

كلها أسبابٌ تافهة لا تستحق أن ألغي سفرتي، وأعطّل مستقبلي لأجلها، ولكنني أفكّر فيها بجدية، بل تكاد تكون هاجساً بالنسبة إلي.

اللعنة! ما هذه اللعنة التي أُصبنا بها لحظة ولادتنا على هذه الأرض يا رأفت؟

لماذا نحب هذه البلاد، ونكرهها في آنٍ واحد؟ لماذا من الصعب علي اتخاذ قرار الرحيل؟

لماذا لا أستطيع وضع ملابسي في حقيبة، والرحيل بهذه السهولة؟ بل علي أن أضع ملابسي وطفولتي وذكرياتي وهمومي وخوفي على أهلي في حقيبة واحدة.

كيف سأتحمل رؤية الدمعة المحبوسة في عين أمي لحظة رحيلي، من دون أن أنفجر؟ أخبرني يا رأفت: هل استطعت الاحتمال؟ أم مات شيء ما في داخلك؟

في البداية كان أهلي من أشد المعارضين لسفري، كوني الابن الوحيد لهم، ولكن اليوم بعد موجة هجرة الشباب الأخيرة، وبعد أن وصلنا إلى هذه الحال، بات أهلي من أشد المشجعين للسفر، بل إنهم باتوا يركضون خلفي حاملين العصا كي أسافر!

حتى أنهم باتوا يشعرون بالندم، لأنهم لم يرسلوني إلى الخارج قبل مدة طويلة!

وخصوصاً أبي الذي كان متفائلاً بالمستقبل، ويعتقد بأن هذه البلاد ستخرج من عنق الزجاجة يوماً ما، وها نحن قد انتصرنا وخرجنا من عنق الزجاجة، لكنها لم تكن يوماً زجاجةً يا رأفت!

على ما يبدو، كانت حقنةً شرجية!

ولكن ما علينا يا رأفت، لا تراجع بعد الآن، سأسافر ولن ألتفت إلى الخلف أبداً، وسأحمل لعنتي، وألحق بكم.

ثم إن أهلي ليسوا أهم من أهلكم، أو من أهالي جميع شباب هذه البلاد.

سأسافر وأموت شوقاً وخوفاً على أهلي في الغربة، بدلاً من أن أموت هنا من قلة الحيلة.

كفى كذباً على نفسي، ما الذي سأستطيع تقديمه لهم هنا، إن تعبوا، وأنا لا أملك كلفة سيارة الأجرة إلى المستشفى؟

ولكن ما علينا يا رأفت، لا تراجع بعد الآن، سأسافر ولن ألتفت إلى الخلف أبداً، وسأحمل لعنتي، وألحق بكم. ثم إن أهلي ليسوا أهم من أهلكم، أو من أهالي جميع شباب هذه البلاد. سأسافر وأموت شوقاً وخوفاً على أهلي في الغربة، بدلاً من أن أموت هنا من قلة الحيلة

ولكنني خائف يا رأفت، أنا خائفٌ جداً، لا أعلم كيف سأصف لك ما أشعر به، لكن الأمر أشبه بقلبي وهو يُطبخ على نارٍ هادئة.

اللعنة يا رأفت اللعنة! ما الذي فعلناه حتى نحمل مثل هذه اللعنة طوال حياتنا؟ ما الذنب الذي اقترفناه حتى تكون أجسادنا مستوعباً للهمّ؟

لماذا لا يمكننا أن نولد ونعيش ونموت في بلادٍ واحدة مع أحبتنا؟ لماذا؟

لماذا لا أمل لنا في هذه البلاد؟

انتظرني يا رأفت، انتظرني.

أنا قادم إليك حاملاً لعنتي.

إلى اللقاء القريب.

أسعد


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard