شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
محنة التنوير لا محنة جابر عصفور

محنة التنوير لا محنة جابر عصفور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 4 يناير 202205:37 م

برحيل الكاتب والمفكر، صاحب الباع الطويل في الحياة الثقافية، جابر عصفور، تكون مصر قد فقدت حفيداً من حفدة الجيل الأول لحركة التنوير والإصلاح الديني، وفق ما كان يُعرّف الراحل به نفسه.

فأول ما يستوقف المتلقي لأفكار عصفور التنويرية، قراءةً أو استماعاً، أنه لا يُقدّمها كمنتوج غربي خالص، إذ على الرغم من تأكيده على خصوصية النشأة الغربية للتنوير، إلا أنه كان دائم الإحالة إلى ما أنتجه مفكرو عهد الإصلاح الديني في النصف الأول من القرن العشرين، وهو ما جعله أحد قلائل التنويريين العرب الذين يُفرّقون بين التنوير والتغريب، فلا يُقدّمانه على أنه شيئ واحد.

فحركة التنوير التي ارتبطت بالغرب في نشأتها، في ما سُمي بعصر الأنوار الأوروبي، مطلع القرن الثامن عشر، وتبلورت في أفكار روّادها، الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، والفرنسيين، رينيه ديكارت، وفولتير، وآخرين، دعت الناس للإيمان بالعقل وبسلطته، وسعت إلى تحريرهم من سلطة الكهنوت الديني، فمهدت بذلك الأرض لاندلاع الثورة الفرنسية، وأسست لمبادئ ما عُرف لاحقاً بالحداثة والعلمانية والدولة المدنية الحديثة.

أول ما يستوقف المتلقي لأفكار عصفور التنويرية، أنه لا يُقدّمها كمنتوج غربي خالص، إذ على الرغم من تأكيده على خصوصية النشأة الغربية للتنوير، إلا أنه كان دائم الإحالة إلى ما أنتجه مفكرو عهد الإصلاح الديني في النصف الأول من القرن العشرين، وهو ما جعله أحد قلائل التنويريين العرب الذين يُفرّقون بين التنوير والتغريب

لكن الصحيح أيضاً، أنه في القرن التاسع عشر، ظهرت في مصر مدرسة الإصلاح الديني، وأئمتها محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، ورفاعة رافع الطهطاوي، ورشيد رضا، والذين جاؤوا من بعدهم، فأنتجوا بعد اتصالهم بالغرب، تنظيرات وأفكاراً ورؤى عقلانيةً، تتحاكم إلى العقل قبل النقل، فاستلهمت روح التنوير الغربي، وأخرجته في قالب شرقي، يساير البيئة العربية، وموروثها من المعارف الإسلامية، ولا يُعاكسها، فأعادت بذلك قراءة التراث الديني، وقدّمت أفكاراً مستنيرةً، في محاولة لإخراج العالم الإسلامي من كبوته الحضارية.

رحل عصفور عن عمر يناهز السابعة والسبعين عاماً، بعد أن عاش حياةً حافلةً، تنقل فيها من موقع الأستاذ الجامعي، إلى المؤلف والناقد الأدبي، وكاتب الرأي، والضيف المشتبك على الشاشات مع واقع الحياة اليومية، المتبوئ مواقع ثقافية رسمية، تكللت بتولّيه وزارة الثقافة مرّتين، ما مكّنه في نهاية المطاف من خوض معارك فكرية، وطرح أفكاره وبرامجه ورؤاه، على الخاصة والعامة.

لكن ما استوقفني في واحدٍ من أحاديثه الأخيرة، حديثه بمرارة عن حصاد هذا الجهد له، وللسائرين على الدرب ذاته، معترفاً بأن الأفكار السلفية تمكّنت من المجتمع المصري، حتى تسللت إلى أقربائه وإلى أعضاء في أسرته باتوا على مقربة منها.

ما استوقفني في واحدٍ من أحاديثه الأخيرة، حديثه بمرارة عن حصاد هذا الجهد له، وللسائرين على الدرب ذاته، معترفاً بأن الأفكار السلفية تمكّنت من المجتمع المصري، حتى تسللت إلى أقربائه وإلى أعضاء في أسرته باتوا على مقربة منها.

وتلك محنة لا بد أن شعر بها الرجل، في نهاية مشواره الطويل، وأنا أراها محنة التنويريين عامة، قبل أن تكون محنة جابر عصفور خاصةً، فمحنة التنوير لا تقف عند حدود ما رصده عصفور في مؤلفه الذي يحمل هذا الاسم، على عوامل خارجية، تمثّلت في الانتكاسة التي تعرّض لها بعد ثورة تموز/ يوليو منتصف القرن الماضي، ولا في تغوّل نقيضه المتقوّي عليه بأموال النفط، أي التيار السلفي الذي بزع في سبعينيات القرن الماضي، وتمدد لاحقاً في بنية المجتمع المصري، بقدر ما أن عوامل داخلية أيضاً ساهمت في تلك المحنة، أو هذه الهزيمة.

بمعنى أن حركة التنوير تعثّرت في بلادنا، ولم تتمكّن من كسب جماهير واسعة لها، إلى الحد الذي جعل أحد المبشّرين بها عاجزاً عن كسب الأقربين إليه، لأسباب موضوعية في داخلها، والحديث هنا مُنصبٌّ، ويتركز بالأساس، على ظواهر التنوير الحقيقي، الجاد، المبني على حجج ودراسة، وجهد في إعمال العقل، وفي دراسة الواقع، بهدف الوصول إلى أرجح الآراء، أو أعلاها مصلحةً، وغالبها فائدة، وليس حديثاً منصبّاً، ولا متركّزاً على ظواهر التنوير الزائف، القافز على الشاشات، وهو خالٍ من المنطق، وفاقد للحجة، ومتلحّف بالخفة والسطحية، مراهناً على كسب الشهرة، وركوب الموجة، من باب توجيه الإهانة إلى التراث والمقدّسات، ببراعة في النقل والترديد، وعجز عن البحث والتجديد.

ومع التسليم بالأسباب الخارجية الضاغطة على حركة التنوير الحقيقي، لا الزائف، يبقى من الأمانة أن نتلمّس بعضاً من الأسباب الداخلية لهذه المحنة، أو الهزيمة، في وقتنا الراهن على الأقل، وقد نجد أن لها سببين بارزين في الحد الأدنى.

الأول أن التنوير، وعلى الرغم من أنه ذو طبيعة ثورية تأبى التقليد، وترفض الرضوخ للسائد، وتقف على النقيض من أي سلطة، وكل سلطة تسعى إلى السيطرة على الناس، أو إخضاعهم لها، بشعارات سياسية أو دينية، مُجافية للعقل والمنطق، فإننا سنجد مفارقةً تتمثل في اصطفاف دعاة التنوير في معظمهم -إلا قليلين- إلى جانب السلطة السياسية.

فإزاء واقع يجدون فيه أنفسهم مُلزمين بمواجهة سلطتَين، يُفضل معظمهم دوماً الركون إلى السلطة السياسية، والبدء بتوجيه اللكمات إلى خصومهم الإسلاميين، أو ممثلي الأفكار الدينية، وصبّ جام الغضب والعداء عليها، وعدّهم حائط الصد أمام النهضة، والعائق الوحيد أمام التطور.

فيتبنى معظم دعاة التنوير منطق السلطة السياسية، ويسايرونها، ومنهم من يروّجون لها، ويتباهون بالجلوس في مقاعدها، وهذه المفاضلة بالركون إلى السلطة السياسية ابتداءً، أول ما يَقدح ويَفتذ من عضد المراهنين عليها، وهي مفاضلة بدأت قديماً منذ روّج الإمام الأفغاني لنظرية المستبد العادل، واستمرت بعد ذلك -بدرجات- وصولاً إلى قبول الدكتور عصفور مثلاً جائزة القذافي، عام 2009، وتموضعه في أثناء الربيع العربي وبعده، في ما يتناقض مع الإيمان بالتنوير والديمقراطية، وهي مواقف لا يكفي الاعتذار اللاحق عنها لمحو أثرها، وهذ المفاضلة لم ينجُ منها إلا قليلون.

يجد دعاة التنوير أنفسهم، متحالفين مع أوضاع سلطوية، وأحياناً مبررين، أو صامتين عن انتهاكات وقمع يطال خصومهم والمخالفين لهم، ما ينزع عنهم أهم ورقة في كتاب التنوير، وأول عمود من أعمدته، أي الدفاع عن حرية التعبير، بل والإيمان بحق الآخرين المخالفين في الرأي بعرض رأيهم، مع التأكيد على مخالفته

الثاني، واعتماداً على الموقف السابق، يجد دعاة التنوير أنفسهم، متحالفين مع أوضاع سلطوية، وأحياناً مبررين، أو صامتين عن انتهاكات وقمع يطال خصومهم والمخالفين لهم، ما ينزع عنهم أهم ورقة في كتاب التنوير، وأول عمود من أعمدته، أي الدفاع عن حرية التعبير، بل والإيمان بحق الآخرين المخالفين في الرأي بعرض رأيهم، مع التأكيد على مخالفته، على نحو ما عبّر عنه فيلسوف التنوير الفرنسي، فولتير، في كتابه، "رسالة في التسامح"، بقوله: "قد أختلف معك في الرأي، لكني مستعدٌّ لدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك"، وبغياب هذا الدفاع المبدئي عن حرية المخالف، وبتبرير انتهاكه، يفقد دعاة التنوير أهم ملامح هذه الفلسفة وميزاتها، ما يمهد الطريق أمام تبرير عجزها، وفشلها في إقناع الجماهير بجدية الدعوة إليها. رحم الله الدكتور جابر عصفور، وألهمنا طريق النور.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard