شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أذكّر نفسي بأنني لست وحيداً في رحلة الاكتئاب

أذكّر نفسي بأنني لست وحيداً في رحلة الاكتئاب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 4 يناير 202203:07 م

يوصف مرض ضغط الدم بأنه القاتل الصامت، لأن أعراضه لا تظهر بشكل واضح في البداية، وبإمكان عواقبه أن تكون خطيرةً في حالة عدم تداركه وعلاجه.

ولكن الاكتئاب لا يقلّ خطورةً عن ضغط الدم، وفي بعض الأحيان يتفوق عليه، لأن أعراضه ليست مرئيةً، أو حسّيةً بمقدار ضغط الدم نفسه، أو أيّ من الأمراض العضوية.

فالمعلومات وحملات التوعية عن الاضطرابات النفسية، أو السيكولوجية، ما زالت غير كافية في العالم، مقارنةً بالأمراض العضوية. ومع أن أوروبا وشمال أمريكا تطورتا في هذا المجال عن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أنه ليس كافياً كما يجب.

إن الاضطرابات النفسية ما زالت تعاني من النظرة النمطية، و"وصمة العار" تلاحق الشخص المصاب بالاكتئاب إذ يُعدّ فاقداً للأهلية العقلية، أو "مجنوناً".

في المقابل، ترزح منطقة الشرق الأوسط بمعلوماتٍ مغلوطة ومخلوطة عن أنواع الاضطرابات النفسية. فحتى وقتٍ ليس بالبعيد، كان يعامَل مريض الصرع، على أنه "ممسوس أو ملبوس بالجن"، وكان يؤخذ إلى شيخ دين، أو عرّاف، لكي "يطرد" منه هذا الجنّ، أو العفريت. وكان الشخص الذي يعاني من الاكتئاب، يعتقد أن "عملاً" معمول له، لتعطيل أمور حياته، أو لتخريب علاقته الزوجية. ومع أن الطب الحديث أثبت بطلان هذه "النظريات"، إلا أنه ما زالت شعوب كثيرة من المنطقة تؤمن بتلك الخزعبلات.

فالاضطرابات النفسية ما زالت تعاني بشكلٍ كبير من النظرة النمطية، و"وصمة العار" تلاحق الشخص المصاب بالاكتئاب إذ يُعدّ فاقداً للأهلية العقلية، أو "مجنوناً".

ومع أن هناك محاولات جادة من قبل الحكومات ومنظمات المجتمع المدني لزيادة الوعي بتلك الاضطرابات، إلا أنها غير كافية نهائياً وسط الكم الهائل من النظريات السلبية، والأفكار المسبقة تجاهها. ناهيك أيضاً عن الأمّية والجهل ومستوى التعليم المنخفض وأسباب أخرى؛ كلها جعلت محاولات التوعية صعبةً للغاية.

وكأيّ مرض عضوي، فإن الاكتئاب أنواع؛ فيه ما تسببه ضغوط الحياة اليومية، أو القلق تجاه مرض أحد أفراد العائلة، أو حتى الفشل في علاقة عاطفية... ذلك كله كفيل بشعورنا بالاكتئاب الوقتي، والذي يزول بزوال المسببات، أو مع مرور وقتٍ كافٍ للتأقلم مع الوضع الجديد.

ولكن المشكلة تكمن في الاكتئاب المرضي، والذي تتعدد أسبابه.

ترزح منطقة الشرق الأوسط بمعلوماتٍ مغلوطة ومخلوطة عن أنواع الاضطرابات النفسية. فحتى وقتٍ ليس بالبعيد، كان يعامَل مريض الصرع، على أنه "ممسوس أو ملبوس بالجن"، وكان يؤخذ إلى شيخ دين، أو عرّاف، لكي "يطرد" منه هذا الجنّ، أو العفريت

أنا لست هنا بصدد أن أناقش أسبابه، وماهية العلاجات التي يتم استخدامها، فأنا لست طبيباً، ولا حتى من القطاع الطبي، أو الصحي. أنا هنا لكي أشرح تجربتي الشخصية، وتجربة من أعتقد أنهم يعانون من الاكتئاب، من الأصدقاء والأقارب.

علمت بإصابتي بمرض الاكتئاب عام 2009، عندما مررت بتجربة شخصية مؤلمة جعلتي أعيش أفكاراً سوداويةً للغاية. وبعد مقاومة شديدة للفكرة، اتّبعت نصيحة صديق لي بأن أراجع طبيباً نفسياً مختصاً، واعتقدت آنذاك، أن الطبيب سيصف لي بعض العلاجات، أو الأقراص التي ستكون كفيلةً بالتغلب على هذا الشعور في بضعة أيام، وبعدها سأعود إلى حياتي الطبيعية.

وبعد جلسة مطوّلة قرابة ساعة ونصف الساعة، أعطاني الطبيب استبياناً مطوّلاً (تقريباً 60 صفحةً على ما أذكر)، وطلب مني أن أجيب على الأسئلة بأكبر قدر ممكن من الشفافية والصدق، لكي يتمكّن من التأكد من حالتي.

وبالفعل، قمت بتعبئة الاستبيان الذي أخذ مني وقتاً أكثر مما اعتقدت، وأرجعته إلى عيادة الطبيب، وقمت بحجز موعد للأسبوع الذي يليه.

في الجلسة الثانية، علمت من الطبيب بأنني مصاب باكتئابٍ مزمن يُسمّى ثنائي القطب (Bipolar Disorder).

الخبر نزل عليّ كالصاعقة!

تبادرت إلى ذهني صورة الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف، وهي تنتحر غرقاً في النهر. فهل هذا هو مصيري؟!

علمت بإصابتي بمرض الاكتئاب عام 2009، عندما مررت بتجربة شخصية مؤلمة جعلتي أعيش أفكاراً سوداويةً للغاية.

بكيت بصمتٍ عند الطبيب، محاولاً استيعاب الخبر. فما كان منه إلا أن يطمئنني. قال لي إن هذا المرض مثله مثل أيّ مرضٍ عضوي مزمن، كالسكري، أو ارتفاع ضغط الدم؛ بالعلاج المنتظم وجلسات العلاج النفسي، أستطيع أن أكمل حياتي بشكلٍ طبيعي.

ولكوني شخصاً فضولياً بالفطرة، قمت بالبحث عن المرض على الإنترنت؛ أسبابه، وأعراضه، ودرجاته، وما إلى ذلك من معلومات استطعت أن أجدها على الشبكة العنكبوتية.

وكأي إنسان، لم أستسغ فكرة أنني مريض، وحاولت مراراً أن أقاوم تلك الفكرة. عملية تقبّل المرض/ الاضطراب، أخذت مني فترةً طويلةً لكي أتقبّلها. عشر سنوات ما بين شدٍّ وجذب بين فكرة أنني شخص "سويّ وسليم"، والتوقف عن أخذ الدواء، وبين أنني مصاب "بذلك المرض"، ويجب عليّ أن ألتزم بالدواء لكي أتمتّع بحياة "طبيعية" مثل سائر البشر.

خلال تلك العشر سنوات، حاولت أن أغوص في ذاكرتي إلى الوراء، محاولاً استرجاع بعض الذكريات والأحداث التي حصلت لي، وتيّقنت وقتها من أنني تصرفت في تلك المواقف طبقاً لحالتي النفسية، وليس كما كان من المفترض أن أتصرف، وهذا في حدّ ذاته شيء إيجابي لكون معرفة الذات من أهم سبل الراحة النفسية والعلاج.

فلا أحد يستطيع أن يدرك ما يفعله المرض، إلا من يعاني منه؛ فمريض الاكتئاب لا تظهر عليه أي عوارض جسدية، لذلك من الصعب على الآخرين ملاحظة المرض على الأشخاص.

ولكن من تجربتي الشخصية، أستطيع أن أذكر بعضاً من تلك العوارض، لعلّكم تستوعبونها في حال تقابلتم أو تعاملتم مع شخص يعاني من الاكتئاب.

اضطراب في الأكل

مريض الاكتئاب يعاني من اضطرابات في الأكل. فإما أن يفرط في الأكل، وإما أن يفقد الشهية تماماً. وقد عانيت من تلك الحالات بشكلٍ متكرر قبل اكتشاف المرض، ولكن وقتها لم أدرك السبب، وكنت أعزوه إلى كونه شيئاً اعتيادياً يتعلق بالقلق وزيادة التفكير.

التذبذب في العلاقات الاجتماعية

فإما أن تنعزل تماماً قدر الإمكان، وإما أن تكون اجتماعياً زيادةً عن المألوف. من السهل استيعاب الحالة الأولى من ناحية الانعزال. أما في الحالة الثانية، وهي الأصعب في رأيي، فيتنقّل الشخص من حفلٍ إلى آخر، ومن تجمّعٍ إلى آخر، ويتحدث مع هذا، ويضحك مع ذاك، ولكنه يعيش في كرة من الزجاج. كرة تسمح له برؤية العالم الخارجي، وفي الوقت نفسه العالم الخارجي يراه، ولكن لا يوجد أيّ اتصال حسّي، أو عاطفي، أو مشاعري، بينه وبين هؤلاء الأشخاص. هذه الحالة صعبة، وحرجة للغاية. فمريض الاكتئاب يريد العزلة، ولكنه مرعوب من فكرة البقاء وحيداً. فكرة أنه سيواجه نفسه وحيداً تجعله يتفادى البقاء وحيداً، أو حتى النوم... وهذا يأخذنا إلى العارض الثالث.

اضطرابات في النوم

مريض الاكتئاب يعاني إما من النوم المفرط، والذي بإمكانه أن يصل إلى أكثر من 12 ساعةً، وإما من قلّة النوم بشكلٍ ملحوظ، والأرق الشديد. وأتذكّر عندما كنت في بداية العشرينات من عمري، أني تعرّضت لتلك الحالتين؛ كنت أنام بشكلٍ مفرط، وأستيقظ متعباً مجهَداً، وكأنني لم أنم مطلقاً. وفي الحالة الأخرى كنت لا أنام فترةً طويلة. وأتذكر هنا أنني في مرّة من المرات جلست مستيقظاً لأكثر من خمسة أيام، ولم أستطع النوم حتى تجرّعت قرص منوّم لكي أنام.

لم أستسغ فكرة أنني مريض، وحاولت مراراً أن أقاوم تلك الفكرة. عملية تقبّل المرض، أخذت مني فترةً طويلةً لكي أتقبّلها. عشر سنوات ما بين شدٍّ وجذب بين فكرة أنني شخص "سويّ وسليم"، والتوقف عن أخذ الدواء، وبين أنني مصاب "بذلك المرض"

التذبذب في العمل

مريض الاكتئاب يتمتع عادةً بذكاءٍ فوق المتوسط، وفي بعض الأحيان يصل إلى درجة الذكاء الخارق. ومع أن هذه الخاصية إيجابية، كما هو متعارف، إلا أنها في حالة الاكتئاب تكون لعنةً في بعض الأحيان. فالذي يعاني من الاكتئاب، يدرك أنه يستطيع إنجاز مهام عمله بسهولة بالغة، وفي داخله يدرك ذلك. ولكنه لا يستطيع. وأستطيع أن أشبّه هذه الحالة بمشهدٍ من أحد الأفلام، ويصوّر كيف يأتي طاقم مستشفى الأمراض العقلية لإلقاء القبض على شخصٍ "مختلّ عقلياً"، وإلباسه لباساً يربط يديه به من خلاف. فالمريض ما زال يملك ذراعيه، ولكنه كالمشلول، لا يستطيع استعمالهما. وفي المقابل، من الممكن أن يفرط مريض الاكتئاب بالعمل لساعات طويلة تشغله عن حياته اليومية خارج إطار العمل.

التخبط في العلاقات العاطفية

الذي يعاني من الاكتئاب، يتخبّط في علاقاته العاطفية. فإما أن يكون محبّاً جداً، وودوداً (بشكل مزعج)، وإما أن يبتعد عاطفياً وجسدياً عن الطرف الآخر، ويفقد الرغبة في التواصل معه. ففي الحالة الأولى يكون متعطشاً للحب والاهتمام، لكيلا يقع في الدوامة السوداء للاكتئاب، وطبعاً هذا يسبب نوعاً من الانزعاج للطرف الآخر بحكم أن ذلك يفسَّر على أنه عدم استقلالية في النفس... ولكنه بعيد البعد كله عن ذلك. أما في الحالة الثانية، فيعاني مريض الاكتئاب من نقصٍ في الطاقة، وفقدان الرغبة؛ طاقة للحب، وطاقة للاهتمام، ورغبة في التواصل، ورغبة في الجنس... إلخ. ذلك كله بإمكانه أن يفسَّر على أن الشخص المكتئب قد فقد المشاعر تجاه الآخر... ولكنه ليس صحيحاً. فهذه الحالة مؤلمة لمريض الاكتئاب، فهو يدرك أنه "مقصّر" مع الطرف الآخر، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً.

تلك كانت بعضاً من الأعراض التي شعرت بها في رحلتي مع الاكتئاب، على فترات متقطعة خلال السنوات الماضية.

وأعود وأذكّر نفسي بأنني لست وحيداً في هذه الرحلة، بل أعدّ نفسي محظوظاً، فغالبية مرضى الاكتئاب حول العالم لم يتمّ تشخيص حالتهم، ولم يتلقّوا العلاج. وعندما أتذكّر هذه المعلومة، أتخيّل مدى العذاب والمعاناة الذي يتعرض له هؤلاء، ومن حولهم أيضاً.

فرفقاً بمرضى الاكتئاب. هم ليسوا "مزاجيين". هم عالقون في قاعٍ مظلم، ويحاولون بشتى الطرق أن ينجوا من غرقٍ مؤكّد.

ولا يغرّنكم الضحك والابتسامة وخفّة الظل. فعمالقة الكوميديا عانوا ويعانون من الاكتئاب؛ تشارلي تشابلن، وروبن وليامز، وإسماعيل ياسين، وزينات صدقي، كلهم عانوا من هذا المرض الصامت. بعضهم فقد حياته بسببه، والبعض الآخر عاش حياةً مليئةً بالصراعات اليومية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard