شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لا يُغضب الله أن يكون الإنسان سعيداً

لا يُغضب الله أن يكون الإنسان سعيداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 3 يناير 202208:04 م

من يصدّق أن إنساناً على وجه الأرض قد يُحرم من رؤية شجرة عيد جميلة لأسباب دينية؟! ملايين اليمنيين لم يروا في حياتهم كلها شجرة ميلادٍ مضاءةً، ولم يستشعروا قط بهجة أعياد رأس السنة، وهذا وحده يجعلني ممتنّةً لغربتي المؤلمة.

في أحد مشاتل شارع السبعين في صنعاء، وفي أثناء قيامي بإعداد تقرير عن الزهور، لم أميّز أني أقف أمام شجيرات الصنوبر، وعددهن لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. حين سألت عنها، أخبرني المزارع بأنها خاصة باحتفالات الدبلوماسيين الأجانب، وبأنها باهظة الثمن.

نريد أن نحتفل لأننا نود أن نكون جزءاً من هذا العالم، ولأننا كبرنا وأدركنا أن الله لا يُغضبه أن يكون الإنسان سعيداً

في كل مرة أشهد احتفالات العالم بعيدي الميلاد ورأس السنة، تنهال الأسئلة على رأسي: لماذا لا نقوم في بلادنا بتزيين الشجر؟ ألا نقدّر الجمال؟ هل يطمس الفقر ميل الإنسان نحو الجمال؟ لكن هل حقاً نحن فقراء إلى هذا الحد؟ أم أننا لا نميل إلى الجمال (وهذه مصيبة أكبر)؟

لماذا لا نحتفل بالعام الجديد؟ لماذا نغتال كلّ مناسبة للحياة، كونها "بدعة" تقرّبنا من جهنم؟ حتى الأم التي كرّمها الدين، يرفض رجال الدين أن نجعل لها عيداً؟ أعياد ميلادنا هي الأخرى حرام، وكأننا خطايا! من أين جاءت فكرة أن إحياء اللحظات السعيدة يستدعي الشعور بالذنب، وأنها "تشبّهٌ بالكفّار"؟ هل السعادة حصرية "للكفّار"؟ هل العالم كله كافر؟ وهل البؤس واجب المؤمن؟

تؤكد دراسات علمية أن الاحتفالات والأجواء السعيدة التي يقضيها الفرد في الأعياد والإجازات، تزيد من قدرته على الإنتاج والإنجاز في حياته العملية، وهذا يأخذنا للتفكير في تقدّم الشعب الياباني، وإنتاجية الشعب الصيني، وهما بلا دين سماوي، ولكن احتفالاتهما مبهجة ومليئة بالألوان والمتعة الباذخة.

 من أين جاءت فكرة أن إحياء اللحظات السعيدة يستدعي الشعور بالذنب، وأنها "تشبّهٌ بالكفّار"؟ هل السعادة حصرية "للكفّار"؟ هل العالم كله كافر؟ وهل البؤس واجب المؤمن؟

لدينا كمسلمين أعيادنا، لكنها خالية من مظاهر الفنون والجمال. إننا لا نصدّر احتفالاتنا للعالم، ويكاد الأخرون لا يميّزون أعيادنا من أيامنا العادية؛ نحتفل بهدوء، ويرتدي الأطفال ملابس جديدة، ونزور الأهل بدافعٍ ديني أيضاً "عبادة صلة الرحم"، ثم يأتي ما يشبه الشعور بالذنب! بعد عيد الفطر مثلاً، والذي يُعدّ هدية الله للمسلمين، ومكافأةً لهم بعد صيامهم 30 يوماً، يأتي صيام "الستة البيض". نحن النساء نكون في حالة سباق مع الزمن، نسارع للصيام بعد يوم العيد مباشرةً قبل مباغتة الدورة الشهرية، فأمامنا قضاء سبعة أيام، أو أكثر، بالإضافة إلى "الستة البيض"، ويمضي العيد من دون الإحساس به، بل ونردد بقناعة أن العيد للأطفال!

الكنيسة في العصور الوسطى لم تحبذ مظاهر العيد، وتزيين الشجر، وحاولت منعها كونها مرتبطةً بالديانات الوثنية القديمة. الأديان كلها، أو بالأحرى كهنة الأديان حرصوا على إغراق الناس بالزهد ونذر النفس للحياة الآخرة، ولولا تمرد العقل البشري الطموح ما وصل العالم اليوم إلى الفضاء.

هأنذا أمام احتفال الناس، والتقاطهم الصور، وتبادلهم الأحاديث، أسبح في أفكار وهموم فكرية؛ من قال إننا شعوب قلقة؟ نحن نغرق في القلق. لم نعتد على الاسترخاء. سلوتي خيالاتي التي تشبه عملية نقل وتركيب سحرية، فحسب. الآن فقط، وأنا أكتب هذه السطور، وجدت تفسيراً لصمتي وشرودي أمام الأضواء والألوان وشجر الزينة. إنني أضع كل ما تلتقطه عيني في أماكن مختلفة في وطني المظلم؛ الشجرة الصنوبرية الضخمة أنقلها إلى ميدان السبعين، والمنصّة الموسيقية الضخمة أجدها مناسبةً أكثر قبالة الساحل الذهبي، وهكذا تمضي الليلة، ويستمر الحلم في اليمن بإضاءة الشوارع والمنازل والناس.

المرة الأولى التي غادرت فيها اليمن، ورأيت بلداً مختلفاً، شوارعه مزينة، وأهله يرتدون ملابس ملوّنة، بلغ فيّ الاندهاش مبلغه. حين عدت، وبمجرد أن وطئت قدمي مطار صنعاء، أحسست وكأنني أشاهد فيلماً قديماً بالأبيض والأسود. غرقت في حزن عميق. الفرق بين اليمن وأي دولة أخرى تماماً كالفرق بين تلفزيون ملوّن، وآخر بالأبيض والأسود.

الأعياد في الغربة تثير الحنين أكثر لدفء العائلة، وللبيت الصغير، ولوالدتي التي تحب الاحتفال على طريقتها البسيطة، بعيداً عن الفتاوى الدينية ونصائح البعض. كنّا نستعدّ -أمي ونحن- بتحضير مجموعة أفلام ومسرحيات، والكثير من الـ"الجعالة"... والضحكات، حتى مشكلات العائلة لها حنين في المناسبات.

إنني أضع كل ما تلتقطه عيني في أماكن مختلفة في وطني المظلم؛ الشجرة الصنوبرية الضخمة أنقلها إلى ميدان السبعين، والمنصّة الموسيقية الضخمة أجدها مناسبةً أكثر قبالة الساحل الذهبي، وهكذا تمضي الليلة، ويستمر الحلم في اليمن بإضاءة الشوارع والمنازل والناس

لدى أمي اعتقاد؛ "يجب أن تكون للعام الجديد بداية كالزواج، أو العمل في وظيفة جديدة، يقام له حفل وفرح". ترى ذلك فألاً حسناً؛ "حين نحسن استقبال البدايات، سنُكرم بأيام سعيدة"، ولا تنسى أن تعزو تعاستها عشرين عاماً مع والدي، إلى كآبتها يوم زواجها.

لم نحتفل برأس السنة تقليداً لأحد، ولا حتى إحياء لمبادئ التسامح، والتعايش المشترك الذي يُعدّ ترفاً غير واقعياً في مجتمعاتنا، وقيمهما، بل لأجلنا نحن، لأجل افتقادنا الفرح، ومشاركة عائلاتنا وأطفالنا وأصدقائنا أوقاتٍ سعيدة، لأننا نود أن نكون جزءاً من هذا العالم، ولأننا كبرنا وأدركنا أن "الله" لا يغضبه أن يكون الإنسان سعيداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard