شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
دعوني أحزن في العيد

دعوني أحزن في العيد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 21 ديسمبر 202109:38 ص

من الوفاء أن يرتبط العيد بها. هي رائحته وجوهره، وهي من علّمني رسم العيد بألوانه وعطوره وضحكاته والسعرات الحرارية "المزروعة" في كل أرجاء البيت. صاحبة العيد رحلت وتركت لي ورقة بيضاء فارغة، قلماً أسود مكسوراً وغصّة في القلب لا ترحم.

لم يتغيّر شيء في التفاصيل، ما زالت الأغاني نفسها تُبثّ على التلفاز وعلى المذياع في السيارة، وزينة الطرقات المبهرة لم تعد تعني لي شيئاً. محاولات استنساخ اللحظة لم تنجح. لا شراشف الطاولات المنقوشة بالشموع الذهبية ولا الأجراس نفعت ولا حلوى العيد أشبعت حاجتي إلى صوتها وبهجتها. أحبّت أمي العيد وكانت سخية في استقباله والاحتفال به، وكأنها جعلت منه فرصة لإبهارنا وتذكيرنا أن الأيام كلّها، مهما حملت من حزن وقسوة، لا تساوي فترة الراحة التي تأتي بها هي على شكل عيد. رحلت أمي وتركتني لمعركة العيد دون سلاح.

كيف نعبُر للعيد بدون من نحب؟ كيف نحتفل بدون الأشخاص الأحب على قلبنا والذين كانوا يستقبلون العيد بفرح لا متناهٍ؟ لولاهم لما تجرّأ العيد على ارتداء بهجته، فهل يبقى العيد عيداً بدونهم؟ الصراع بين وجوب القبول باستمرارية الحياة وبين الشعور بالذنب أنهم ليسوا هنا، هو أمر يجعلكم تشعرون وكأنكم تحصدون جهد غيركم. تخيّلوا أن يحارب شخص الحياة ومآسيها وينجح في استحضار العيد من أجلكم رغم كل شيء، ثم تفرحون أنتم من دونه، أليست هذه خيانة؟

بعدها يحاول الآخرون مساعدتكم على رسم العيد من جديد، أو زرع ما تبقى منه في روحكم. إنها حرب نفسية تتخبطون فيها بين الحزن على فقدان من أسس العيد والنجاح في إيهام من حولكم أنهم نجحوا في مهمّتهم.

كيف نعبُر للعيد بدون من نحب؟ كيف نحتفل بدون الأشخاص الأحب على قلبنا والذين كانوا يستقبلون العيد بفرح لا متناهٍ؟ لولاهم لما تجرّأ العيد على ارتداء بهجته، فهل يبقى العيد عيداً بدونهم؟

متلازمة العيد وإلزامية الفرح

عام مرّ على رحيل أمي. ظننت أنني تجاوزت مراحل الحداد، حتى أنني نجحت في خلق علاقة روحية مجرّدة من الحواس ودواعي التواصل الجسدي. لكن صباح الأول من ديسمبر أيقظ في داخلي ذكرى يوم فقدانها، يوم شعرت أنني فقدت المرسى وكل شيء آخر لم يعد مهماً. أعادني هذا اليوم إلى نقطة الصفر، إلى مشاعر الأسى وجدوى البحث عن المعنى في مكان آخر ومشاعر الذنب، كلّما اصطحبتني أنانيّتي إلى لحظات فرح محدودة أنجح كل مرة باستدراكها ورسم نهايتها. صدق من أسمى العيد عيداً، فوظيفته هي الإعادة بالفعل، إعادة كل شيء لم تنته ذيوله بعد. ماذا بالأحرى إذا كان الحزن على فقدان من نحب هو الذي يُعاد في العيد؟

إنها "متلازمة العيد " التي حدد علم النفس أعراضها والتي اتخذت تسميات كثيرة حسب المناسبات. البعض يسمّيها "حرقة العيد" أو "اضطراب العيد". نشعر بها ونحاول الهروب منها بإنكار المشاعر وقمع الألم، لكننا لا نعلم أنها حالة طبيعية، وأحياناً ضرورية، لتطهير ما تبقى من واجب عاطفي ونفسي تجاه من رحل. متلازمة العيد تعني أن المشاعر الأليمة التي يظن الشخص أنه اجتازها تُعاد من جديد، خصوصاً في الفترات الأكثر تعبيراً عن المشاعر، أي خلال الأعياد والمناسبات، فيكون الشخص في حال من الراحة والتواصل مع شعوره بمعزل عن مؤثّرات الحياة وسرعتها.

لا يريدني المجتمع أن أكون حزينة في العيد، أما أنا فلا أريد أن أكون كاذبة. حقيقة شعوري توازي حقيقة غيابها. أمي تستحق حزني عليها، فالحزن كالفرح، مقدّس. أمي تستحق أن تراني حيث هي الآن وتلحظ أن العيد من دونها ليس كما كان

إيقاظ المشاعر تلك سرعان ما يطفئه المجتمع بإصراره على انتشالنا من حزننا وإلباسنا شعوراً على قياسه، نشعر أننا أضحينا كممثل في فيلم هزلي صامت، يُضحك الآخرين وهو في الداخل يتألم لوحده. لكن أفراد المجتمع لا يعرفون أن اصطناع الفرح أشد ألماً من الشعور الحقيقي بالحزن، لا نلومهم، فهم أيضاً ضحايا مجتمع يغرز فيهم سلسلة من التصرفات التي لا أساس لها من المنطق، لكنها مع الإعادة تصبح واقعاً مفروضاً.

ماذا لو أصغينا لتلك المتلازمة؟ ماذا لو كانت استعادة للألم مفيدة لنا؟ ربما نريد إهداء العيد لمن رحل على طريقتنا. ربما نرغب بالإيفاء بالدَيْن الذي ما زال بحوزتنا لهم. نريد البكاء على فقدانهم. نريد التحدث عنهم. نريد صنع الحلويات ذاتها بالطعم ذاته. نريد استحضار من رحل لا نسيانه. لعلّ ذلك يساعدنا على التخلص من مرارة الذنب والشعور بعدم استحقاق الفرح دون الاضطرار للتمثيل.

دعونا نحزن

"دعونا نحزن"، جملة أكررها عندما يسألني أحدهم: "لماذا أنت حزينة؟"، للحظة أظنّ أن قبالتي شخصاً نسي أن أمي رحلت منذ عام، وأنه أول عيد من دونها. ثم أدرك أن المشكلة ليست في السؤال بل في الشعور. لا يريدني المجتمع أن أكون حزينة في العيد، أما أنا فلا أريد أن أكون كاذبة. حقيقة شعوري توازي حقيقة غيابها. أمي تستحق حزني عليها، فالحزن كالفرح، مقدّس. أمي تستحق أن تراني حيث هي الآن وتلحظ أن العيد من دونها ليس كما كان.

يقول فرويد: "المشاعر التي لا نعبّر عنها لا تموت. هي تُدفَن حيّة، ثم تعود إلينا بأشكال أكثر بشاعة".

دعونا نعبّر عن مشاعرنا، خصوصاً في فترات العيد، فترات الهشاشة النفسية وعمق المشاعر. لا تظنّوا أننا لن نفرح مجدداً أو أننا بذلك نكون قد غرقنا في حزننا إلى الأبد: الحزن والفرح يتلازمان تماماً مثل الحياة والموت.  

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard