شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الماضي وذكرياته الحلوة وتوثيق حياة المصريين الاجتماعية... حوار مع الكاتب حسن الحلوجي

الماضي وذكرياته الحلوة وتوثيق حياة المصريين الاجتماعية... حوار مع الكاتب حسن الحلوجي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 26 نوفمبر 202104:04 م

مظاهر كثيرة نصادفها في الشارع المصري، هناك من ألِفها وأصبح يتعامل معها كقطعة عادية من الحياة اليومية، وهناك من توقف عندها، ومنحها بعضاً من وقته وتفكيره، ليتأملها ويحللها، ويوثقها، كما هي، من دون تغيير. من هؤلاء الكاتب حسن الحلوجي، الذي حاوره رصيف22، حول كتاباته التي يخصصها لرصد جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية في مصر، خاصةً في الأماكن الشعبية.

جولة بين الصور الفوتوغرافية التي ينشرها الكاتب على صفحته في موقع فيسبوك، تشعرك وكأنك تقوم/ ين برحلة افتراضية إلى سوق المقتنيات القديمة: شرائط فيديو، وكتب، وأوراق، وخطابات، مثل خطابٍ قديم أرسله شخص ما في ما مضى، إلى أحد أصدقائه. صور فوتوغرافية يلتقطها الحلوجي خلال حياته اليومية العادية، ويقول عنها: "تُعدّ الصورة عنصراً أساسياً في أعمالي، وفي معظم الحكايات التي أرويها، فالأدوات القديمة التي كان يستخدمها المصريون، مثل الطابعات اليدوية، وأجهزة الكاسيت، والراديو، وحتى الحلوى والعلكة، التقطها في صورة، وعندما أكتب، أكتب عن صورٍ تحتفظ بها ذاكراتي، وأستدعيها من خيالي. فكتبٌ مثل ‘جهاز جلب الحبيب’، و’الممنوعات’، تعتمد على صور".

"الذاكرة البصرية عندي حاضرة طوال الوقت، وأترجمها إلى كلامٍ، أو أستعين بالصور مع الكلام".

ويضيف الكاتب: "الذاكرة البصرية عندي حاضرة طوال الوقت، وأترجمها إلى كلامٍ، أو أستعين بالصور مع الكلام، والصور التي ألتقطها خلال الحياة العادية التي أعيشها، اختار منها بعد ذلك، وأقرر ما الذي سأتحدث عنه، خاصةً أنني لا أحدد موضوع الكتاب مسبقاً، إنما أترك الصور لتصنع الرحلة بكاملها".

رسائل التسوّل الصامت

"ينفتح باب عربة الركوب في مترو الأنفاق، تدخل منه امرأة تحمل قصاصات أوراق بيضاء بيدها، تبدأ في توزيعها بسرعة، فتلقيها إلى الركّاب الجالسين، تسقط في جحورهم رغماً عنهم. تفترض المتسوّلة أن الركّاب قرأوا ما تقوله أوراقها من شكاوى وقصص، فتستعيدها منهم، ومعها ما جادت به جيوبهم من نقود، ثم تجري بسرعة عند انفتاح باب العربة، لتلحق بالعربة المجاورة، قبل أن يقفل بابها. يتكرر المشهد بدخول طفل أو طفلة، يؤدون نفس الدور بخفةٍ وسرعة، بينما يمرّ المتسولون الرجال دون أوراق، فيقدّمون شكواهم شفاهةً. أما النساء والأطفال فيمرون صامتين، يكتفون بما تحمله هذه الأوراق من قصص مأساوية اضطرتهم إلى الخروج طلباً للمساعدة، وطمعاً في أن يقرأها الناس فيتأثرون بما حدث لهم من مآسٍ".

مشهد يومي مألوف يوثّقه حسن الحلوجي، في أحدث كتبه بعنوان "رسائل التسوّل الصامت"، والذي يعرض نوعاً من التسوّل يحدث بصمت، وهو أحد الطرق التي يتّبعها المتسوّلون في القاهرة، وغيرها من المدن، فيكتبون قصصاً مأساوية لاستدرار عطف الناس، على أوراق يوزّعونها على المارة بصمت، وعندما يقرأ الناس هذه القصص، يشعرون بالأسى، فيجودون بالمال لمساعدة هذا المتسوّل.

القصص المكتوبة تحمل نوعاً من الاستعطاف، فعلى سبيل المثال، متسوّل يحكي في الورقة أنه يتيم، ويرعى أخواته، ولا يستطيع أن يتكفّل بهن، ولديه أخت مريضة بالسرطان لا يقدر على علاجها، ثم يكتب بضع آيات قرآنية عن فضل الصدقة.

يعرض الكتاب مجموعةً من تلك الأوراق، جمعها الحلوجي من المتسوّلين على مدار سنوات، ويحلل القصص التي يرويها هؤلاء في أوراقهم، ولماذا تلجأ المتسوّلات والأطفال لاستخدام الأوراق بدلاً من التحدث، ولماذا تُعدّ الفتيات والسيدات الأكثر استخداماً لهذه الطريقة.

كتاب "رسائل التسول الصامت"

يقول الحلوجي، إن هدفه من الكتاب هو توثيق فئة من الناس، والكتابة عنهم، وعن أسلوب تعبيرهم وحكاياتهم التي تتضمن تفاصيل من حياتهم اليومية، حتى ولو كانت تلك الحكايات مزيّفةً، أو فيها مبالغة، إلا أنها تحدث وتعبّر عن تجربة حقيقية، كأنهم يروون حكايات أشخاص آخرين لا يتحدثون. "باختصار، هذه القصص تعبّر عن لحظة زمنية، بما فيها فكرة التزييف".

توثيق الحياة الاجتماعية المصرية

"الملموس دائماً مهددٌ بالاختفاء، والآن، يتجه العالم إلى أن يكون افتراضياً أكثر، لذلك أحاول أن أتمسك بكل ما يمكنه أن يعبّر عنّا، وبالأشياء الحقيقية الواقعية، وكل ما يستخدمه الإنسان". يقول الكاتب، ويضيف: "أي شيء ينتجه الناس يعبّر عنهم، حتى لو علبة كبريت، فتوثيق الحياة الاجتماعية، وكل ما يخص الإنسان، يُعد أمراً ضرورياً، لأننا نرصد أشياء كثيرة مهملة لا يهتم بها أحد، ولكنها شديدة الأهمية كالمنتجات المستخدمة، والأوراق الشخصية، والفواتير اليومية".

وعند سؤاله ما أهمية هذا الرصد وتأثيره؟ أجاب حسن: "حياة الناس هي مجموعة خبرات متراكمة، وهي ما يصنع التاريخ بأنواعه، سواء أكان تاريخاً اجتماعياً، أو سياسياً، أو اقتصادياً. فدراسة نمط حياة إنسان كان يعيش على الأرض، وتتبّع تطوره، ورصد المشكلات التي يعاني منها على سبيل المثال، يفيد الأجيال المتعاقبة، ولذلك إذا أراد باحث مثلاً أن يعالج قضيةً مثل التسوّل، أو الفقر في مصر، أول خطوة يلجأ إليها هي دراسة تاريخ تلك القضية.

يعرض الكتاب مجموعةً من الأوراق، جمعها الحلوجي من المتسوّلين على مدار سنوات، ويحلل القصص التي يرويها هؤلاء في أوراقهم، ولماذا تلجأ المتسوّلات والأطفال لاستخدام الأوراق بدلاً من التحدث، ولماذا تُعدّ الفتيات والسيدات الأكثر استخداماً لهذه الطريقة

"التاريخ الاجتماعي يرصد تاريخ الإنسان نفسه، ومعرفته تجعل الفرد قادراً على إدراك ماضيه، وعليه يستطيع البناء والإصلاح، ويتعرّف إلى كيفية العيش في الحاضر، من دون تكرار أخطاء الماضي، كما أن الإنسان في الأهمية التي تجعل أي شيء ينتجه، مهما كان، يجب أن يوثَّق، وهذه هي الفكرة التي تقوم عليها المتاحف، فهي تسجّل حياة البشر السابقين والحاليين، فضلاً عن أن تاريخ الحياة اليومية هو الأكثر صدقاً، لأن هناك ما يدل عليه، فالأشياء المادية، والأدوات التي يستخدمها الناس، غير قابلة للتزييف، لذا تُعدّ وثيقةً في حد ذاتها".

ويتابع حسن حديثه: "نحن الآن نحاول أن نوثّق الحياة لأشخاص قادمين لا نعرفهم/ ن، لذلك ندوّن حياتنا اليومية بتفاصيلها كلها. فشكل الحذاء التقليدي العادي، وأزياؤنا، ووسائل مواصلاتنا، وشكل الشوارع المصرية الشعبية والاحتفالات، ستصبح تاريخاً مدهشاً بعد مئة عام".

خطاب قديم عثر عليه الكاتب أثناء عمله في التوثيق

خطاب قديم عثر عليه الكاتب أثناء عمله في التوثيق

سعادة اقتناء كاسيت من التسعينيات

يرى حسن أننا دائماً نشعر بالحنين إلى الماضي، ونستدعي ذكرياته الحلوة، وحتى المُرّة، لأنه انتهى وليس له سلطان أو سيطرة علينا، فالماضي عبارة عن لحظات عشناها لم نكن ندركها حينها، لأننا نستغرق في داخل اللحظة، ولا نراها بشكل كامل. وبعد أن تمرّ وتصبح ماضياً، نشعر بأنها جميلة لأننا أصبحنا نراها في صورتها الكاملة.

وربما هذا التفسير يقودنا إلى الإجابة عن سؤال: "لماذا يهتم شخص ما بشراء الأشياء القديمة، مثل جهاز كاسيت يعود إلى فترة التسعينيات من القرن الماضي؟". ذلك لأنه يشعر بأن هذا الكاسيت يجسّد لحظةً من الزمن تخصّه، ويمثّل ذكرى ما اندثرت، فيحاول أن يستعيدها مرةً أخرى.

لماذا يهتم شخص ما بشراء الأشياء القديمة، مثل جهاز كاسيت يعود إلى فترة التسعينيات من القرن الماضي؟

"الممنوعات"... رصد لافتات المناطق الشعبية

كتاب "الممنوعات"، هو أحد مؤلفات حسن الحلوجي، ورصد فيه مجموعةً من اللافتات المعلّقة في أماكن متفرقة في المناطق الشعبية، مثل: "ممنوع الدخول"، و"ممنوع ركوب الأسانسير"، و"ممنوع إطعام القطط"، و"ممنوع التسوّل".

الأماكن الشعبية في مصر، كما يراها حسن، تتميز بأنها تحمل روحاً خاصةً بها، وخصوصيةً أيضاً، فالأحياء في القاهرة تختلف عن الأحياء في الصعيد، وعنها في مناطق بحري، وفي مناطق الأرياف. يقول حسن إن هذه الأحياء بشكل عام تعبّر عن ساكنيها، فيمكننا معرفة الكثير عنهم، وعن سلوكهم، ومستواهم الاجتماعي والاقتصادي، من خلال رسوماتهم التي يرسمونها على جدران بيوتهم وشوارعهم، أو حتى لافتات المحال، فالشخص الذي لديه ذوق، نجده يهتم بتزيين بيته، وتلوين محيطه، وعلى العكس نجد أشخاصاً لا يهتمون، ويكون محيطهم مليئاً بالقمامة.

ويضيف: "الأحياء الشعبية في مصر عموماً، ملهمة جداً، ولها ذائقة فريدة وممتعة، كما أنها صادقة، لأن الناس يعبّرون فيها عن أنفسهم من دون تزييف"، لافتاً إلى أن هناك نوعين من الأماكن، يجب التفرقة بينهما، الأول، أحياء شعبية أصيلة وفيها يمكننا رصد مظاهر مألوفة، مثل أن سكان الشارع الواحد يعرفون بعضهم البعض، ويتعاملون وكأنهم عائلة واحدة، ويدعمون بعضهم، ويتعاونون، وتكون بينهم ألفة. أما الشكل الآخر، وهو الأماكن الحديثة نسبياً، فتميل إلى العشوائية أكثر منها إلى الشعبية، وتكون عادةً مكتظةً بالسكان، والخصوصية فيها تكون مخترقَةً، فهناك منازل مثلاً يستطيع أي شخص مارّ من أمامها، كشف ما في داخلها.

"الناس فاتحة بيوتها على الشارع"، هكذا يصف اختراق الخصوصية في تلك المناطق العشوائية، والتي تخرج من دائرة الحميمية والدفء، إلى الاطّلاع على أسرار الجيران.

من الصور التي يلتقطها الكاتب حسن الحلوجي أثناء جولاته في القاهرة

من الصور التي يلتقطها الكاتب حسن الحلوجي أثناء جولاته في القاهرة

"جهاز جلب الحبيب"

كتاب آخر من مؤلفات الكاتب، عبارة عن توثيق للمناسبات الاجتماعية الشعبية، كاحتفالات الخطبة، والزواج، وأعياد الميلاد، وذلك من خلال تفريغ عدد من شرائط الفيديو القديمة.

يقول حسن إن كتابه يُعدّ نوعاً من التوثيق الأدبي، نفّذه ضمن مشروع بينه وبين صديقه محمد علام، الذي حول ما تحتويه الشرائط إلى مواد ديجيتال، ثم بدأ بمشاهدتها وتحليلها، وأجرى قراءةً أدبية لها. ومن خلال تلك الشرائط، تعرف على إحدى الفترات التي عاشها المصريون، ونمط حياتهم حينها، وعاداتهم في ما يخصّ احتفالاتهم.

"الأحياء الشعبية في مصر عموماً، ملهمة جداً، ولها ذائقة فريدة وممتعة، كما أنها صادقة، لأن الناس يعبّرون فيها عن أنفسهم من دون تزييف"

"شاهدت مقاطع الفيديو المُسجلة على الشرائط، وبدأت أصنع حولها حكاياتٍ، فكتبت متتالية قصصية، وأرفقت بها بعض الصور المأخوذة من المقاطع. أتذكر الآن أحد الشرائط ويعرض يوماً كاملاً لتجهيزات حفل زفاف، بدءاً من استعدادات العريس، وحتى ذهابه إلى خطيبته في صالون التجميل، ثم انتقالهم إلى قاعة الأفراح، وبعدها فقرة المطربين والفرقة الموسيقية، ثم نهاية الحفل" يقول حسن.

ويختم: "أبحث عن المقتنيات، وأوثّق أشياءً تغيّر شكلها، وربما اندثرت، فأي شيء يخص حياة الناس يحمل رحلةً وحكايةً، وأنا أكتب هذه الحكايات".

الكاتب حسن الحلوجي

الكاتب حسن الحلوجي

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard