شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
رحل صباح فخري، وكأنّ جدي مات مرّةً ثانية

رحل صباح فخري، وكأنّ جدي مات مرّةً ثانية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 3 نوفمبر 202112:56 م

"رحل صباح فخري"؛ افتتاحية حزينة بما يكفي لنصّ، أو ليومٍ هو الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.

ابنتي على كرسي الأطفال قبالتي. صحن العصيدة في يدي، ومن الجهاز: "درب حلب ومشيته، كلّه سجر زيتوني"، على خدّيّ تنهمر الدموع.

الطفلة تنظر إليّ بدهشةٍ، أخمّن أنها تقول: "لماذا تستخدم ماما سلاحي الفعّال الآن؟"، وتحرّك رأسها بما أظنّه تمايلاً مع الإيقاع.

أردتُ أن أخبرها بأن نصفها من حلب، وأن هذا النصف فقد شيئاً ثميناً اليوم، وهذا اليوم قد يعني لها الكثير في المستقبل. قد تقول مثلاً: "المرة الأولى التي رأيت أمّي تبكي فيها، كانت في ذلك اليوم".


لا أذكر متى رأيت أمّي تبكي للمرة الأولى، وأخمّن أن معظم الأبناء مثلي، لكنني أذكر متى أخبرني أحد أخوالي أنها بكت حين مات عبد الحليم حافظ، وأنا بدوري أحببت القصة، وصرت كلما فكرت بعبد الحليم تذكرت أن أمي بكته، أو أخبرت شخصاً مقرّباً مني بالأمر. نعم بكاء الأمهات لأسباب مثل هذه، هو أمر يستحقّ الإشادة.

أحبّ الآن أن أرى الأمر على النحو التالي: المرة الأولى التي سمعتُ اسم ابنتي فيها، كنتُ في عمرها، وربما أصغر، أجلس في حضن والدتي، بينما يذيع الراديو موشّح "أحنّ شوقاً"... تضع أمي العصيدة في فمي، وصوت صباح فخري يقول: "شراب ألمى".

ابنتي على كرسي الأطفال قبالتي. صحن العصيدة في يدي، ومن الجهاز: "درب حلب ومشيته، كلّه سجر زيتوني"، على خدّيّ تنهمر الدموع. الطفلة تنظر إليّ بدهشةٍ، أخمّن أنها تقول: "لماذا تستخدم ماما سلاحي الفعّال الآن؟"، وتحرّك رأسها بما أظنّه تمايلاً مع الإيقاع

حين دخلت أجهزة "الفيديو سي دي" حياتنا، اقتنى جدّي واحداً، وبسرعةٍ صارت لديه مكتبة جزء منها تسجيلات لاحتفالات عائلية، والجزء الثاني الأكبر، للأمور الموسيقية التي يهواها، لكن "السي دي" الذي حاز المكانة الأكبر على الإطلاق، لدى جدي، ولدى العائلة كلها بالضرورة، هو التسجيل الشهير لحفلة صباح فخري في برنامج "جار القمر". أرضية شطرنجية، ووجوه معروفة تتمايل على الطاولات، وصبيّة فاتنة بالفستان الأسود "المدقدق" بالأبيض ترقص بلطف شديد، والأستاذ صباح فخري يجود كعادته.

كنت أظنّ تلك التفاصيل خاصّةً بعائلتي، وأن هذه الحفلة هي الحفلة التي يحبها جدي، والعائلة. لكن بعد الانفتاح الذي خلقته السوشال ميديا، عرفت أن هذا كان حال الكثير من العائلات، من شمال سوريا إلى جنوبها، وأنّ سهرات الصيف على السطح، مع كأس العرق، والبطيخ الأحمر، وصوت صباح فخري، ليست ملكاً حصريّاً لنا. حتّى أنهم، مثلنا، يضعون صوته في حقائب الإجازات القصيرة.

إنّ سهرات الصيف على السطح، مع كأس العرق، والبطيخ الأحمر، وصوت صباح فخري، ليست ملكاً حصريّاً لنا.

"خمرة الحب اسقنيها"؛ ظلت هذه الأغنية لسنوات طويلة شارة نهاية الحفلات في مدينتي، في أواخر التسعينيات من القرن الماضي وأوائل الألفية، وربما كان الأمر كذلك في مدنٍ سورية وعربية أخرى. أما وصلة الأغاني الحلبية، فهي فقرة أساسية في منتصف كلّ حفل، تتنحّى جانباً الأغاني الرائجة عربياً وعالمياً، وتكرج سبحة "يا مال الشام، وعلى العقيق اجتمعنا، ويا سمك يا بنّي، وتحت هودجها، وابعتلي جواب، وكنّا ستّة على النبعة"... وغيرها وغيرها. في هذه الفقرة، عادةً ما تكتظّ الساحة بالراقصين، وتتوحّد الأعمار، والطباع جميعها، وتأتي الفسحة المنتظرة كي يتخلى المرء عن وجومه، أو وقاره، أو عن أيٍّ كان مما يكبّله على الكرسي، ويحرّر جسده ليتمايل بين الناس، وكأنّ هذه الوصلة كانت بمثابة جواز الرقص.

تشتعل تلك الحفلات الآن في ذاكرتي؛ وجوه عزيزة، ووجوه مألوفة، ووجوه بقيت غريبة، ووجوه صارت غريبة، كلّها الآن سعيدة داخل رأسي، وأسمع أغاني صباح فخري بصوتها. يحلو لي أن أسمّي صوتها الآن: صوت الطبقة الوسطى التي تلاشت، وبقيت منها هذه السعادة التي تمرّ عابرةً في الرأس، كي تنقلب بسرعة إلى مرارة حين تفتح عينيك، وتلمس قدميك برودةُ الأرض.

"بالله يا مجرى الميّ سلّم عليهم... عليهم"

الدموع ما زالت تنزل على وجهي، بينما أرقص وابنتي تضرب طاولتها الصغيرة بيديها الحبيبتين. ليست المرة الأولى التي تراني فيها أرقص على أي حال، لكنها المرة الأولى مع المحرمة.

في مثل هذه الفترة من العام 2019، ذهبت في جولة إلى معصرة زيتون في بلدة أندلسية، تابعة لمقاطعة جيان... كي أصل إلى تلك البلدة، كان عليّ أن أمرّ بمدينة اسمها بيّاسة، وهي مدينة بديعة، لا لشيء إلاّ لأنها تحوي أزقّةً شديدة الشّبه بأزقّة حلب، روحياً ومعمارياً. وأيضاً لأن دربها كله "سجر زيتوني"

في مثل هذه الفترة من العام 2019، ذهبت في جولة إلى معصرة زيتون في بلدة أندلسية، تابعة لمقاطعة جيان، الأشهر على الإطلاق في زراعة الزيتون، وإنتاج الزيت. كي أصل إلى تلك البلدة، كان عليّ أن أمرّ بمدينة اسمها بيّاسة، وهي مدينة بديعة، لا لشيء إلاّ لأنها تحوي أزقّةً شديدة الشّبه بأزقّة حلب، روحياً ومعمارياً. وأيضاً لأن دربها كله "سجر زيتوني".

يزورني جدّي كثيراً في المنام، وحين يفعل ذلك يبدو الأمر حقيقيّاً أكثر ممّا يحتمله النّائم، وأعود إلى هناك بحواسي كلها، لأستيقظ والفقد يعضّ قلبي.

رحل صباح فخري اليوم، وكأنّ جدي رحل مرّةً ثانية.

"بالله يا مجرى الميّ سلّم عليهم... عليهم"...


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard