شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
فتاة سمراء تمنّت لو ولدت بيضاء كالقشطة... رحلات نوال السعداوي

فتاة سمراء تمنّت لو ولدت بيضاء كالقشطة... رحلات نوال السعداوي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الأربعاء 3 نوفمبر 202112:56 م


في أحد أيام عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، كانت الطبيبة الشابة نوال السعداوي، تحملق في النافذة المُطلّة على البركة الآسنة، فرفعت عينها إلى المساحة الصغيرة من السماء بين الجدران لتخُاطب الله: "من هو المسؤول عن هذه التعاسة فوق الأرض؟ أنت أم رئيس الدولة؟". ثم سَرَت في جسدها قشعريرة الخوف، وقد ألقت بالمسؤولية على رئيس الدولة، وليس على الله، إذ كانت وقتها لا تزال تؤمن بـ"العدالة الإلهية"، على حد وصفها.

لحظتها، دق جرس الهاتف فجأة، فانتفضت من مقعدها، وتصورت أن مكتب الأمن بالوزارة التقط بجهازٍ ما شكوكَها العميقة في "عدالة الدولة"؛ لكن الصوت الذي أتاها من الهاتف، أخبرها بأنها على وشك أول رحلة لها خارج البلاد: "صدر قرار وزاري بسفرك ضمن وفد الأطباء إلى الجزائر". ذلك الاتصال كان نقطة التحول في حياة الطبيبة الشابة، التي ستهوى السفر لاحقاً، وترتحل من الجزائر إلى باريس، ثم أمريكا وموسكو، وإيران والهند، ودولٍ إفريقية عدة.

حلم تحرير الجسد من الدولة والرجل!

عام 1984، نشرت الدكتورة نوال السعداوي كتابها "رحلاتي في العالم"، وصدّرته بإهداء يكاد يختصر جُلّ ما بالكتاب: "إلى كل من سافر وعرف الغربة بعيداً عن الوطن، وإلى كل من عاش الغربة في الوطن".

ما من سطرٍ داخل كتاب نوال إلا وينضح بكل رؤاها التي يعرفها قراؤها، حيث الثورية ضد كل معوق؛ الرجل، الدولة، النظام الضاغط بوجه عام، وهو ما يظهر جلياً في حوارها مع الشرطي في المطار، فكما تروي "فحص الشرطي الورقة الصفراء بعينين بوليسيتين، تأكد أن خاتم النسر حقيقي وليس مزيفاً، وأن الدولة توافق على انتقال جسمي خارج حدود الوطن".

ثم تساءلت في قرارة نفسها: "ما دخلُ الدولة في حركة جسمي؟ (...) لا يعرف الشرطي أن بيني وبين رجال البوليس عداء ثلاثة آلاف عام، منذ سيطر الإله آمون وانهارت حضارة إيزيس، وظهر إلى الوجود شيء اسمه العبودية".

 "في دورة المياه بالنادي بابان، كُتب على أحدهما: للبيض، وكتب على الآخر: للملونين، وتوقفت أمام المرآة أدقق النظر في لون بشرتي، ولم أعرف أيهما أدخل، ثم دخلت من باب الملونين"

أخرج الشرطي نوال من شرودها بسؤال ربما سيكون هو لبّ علاقتها بالدين والجنس والسياسة على مدار تاريخها: "هذه هي موافقة الدولة، لكن أين هي موافقة الزوج؟". تقول نوال: "حملقت في وجهه بدهشة، ربما تقتضي الديكتاتورية أن تملك الدولة جسمي، لكن الزوج! هل هو أيضاً يمتلك حركة جسمي؟!".

تذكرت نوال أنها غير متزوجة، فأخرجت وثيقة طلاق وضعتها في يد الشرطي، فسألها: "لماذا لم تقولي منذ البداية إنكِ مُطلّقَة؟"، فردت بغضب ـ بحسب تعبيرها -: أنا لست مُطلقة (بفتح اللام) ولكن مُطلِّقة (بكسر اللام)"!

انتهى حوارها مع الشرطي، وأخيراً سترحل لأول مرة خارج البلاد، لتظهر الطفلة المختبئة بداخلها، فتصف تلك اللحظة قائلة: "لا زلت أسمع صوت حذائي الأسود الجديد يدبّ في أرض المطار كأنه بالأمس. مرّ عشرون عاماً منذ وقعت عيناي لأول مرة على طائرة فوق الأرض. رأيتها أضخم مما تصورت، وكنت أراها في الجوّ صغيرة بحجم طائرة أخي ذات الزمبلك".

لم تنسَ نوال السعداوي نزعتها الأدبية في وصف لحظة هبوطها على أرض الجزائر، أو بالأحرى اللحظة التي غيّرت خلالها الزمن بيديها، وكما تقول: "ما زلت أذكر هذه المرة الأولى التي غيّرت فيها الزمن بيدي. أحسست برعشة خفيفة فوق أصابعي وأنا أحرك مسمار الساعة، وعيناي تتابعان العقربين وهما يتقهقران إلى الوراء ثلاث ساعات كاملة. كنت أظن أن حركة عقربي الساعة مقدسة لا يمكن ليدٍ أن تلمسها أو تغيرها"!

نوال في بلاد العنصرية!

من الجزائر طارت نوال إلى باريس، بعدما فقدت سحر ركوب الطائرة، فحملقت من خلال الزجاج لترى مضيق جبل طارق، شريط البحر بين قارة إفريقيا وقارة أوروبا، تلك القارة التي تملأ رأسها بالخيالات، وبخاصة باريس، التي ترن ساحرة في أذنها، أو كما تقول: "قرأت في طفولتي عن رجال مصريين سافروا إلى باريس. لا أتذكر منهم إلا سعد زغلول وطه حسين. في خيالي عن باريس نساء شقراوات جميلات يرقصن على ضفاف نهر السين. عيونهن زرقاء وسيقانهن وردية ناعمة وألحان الموسيقى تملأ الكون".

لمحت نوال تشابهاً كبيراً بين رجال إيران ونظرائهم في مصر وكذلك النساء

في فرنسا عقدت نوال مقارنة فورية بين مسقط رأسها في ريف مصر، وبين مهبط قدمها في باريس، فتقول: "الحرية تتجسد أمامي، حيث لا عيون ولا آذان ولا أنوف تندس أو تتشمم، وسَرَت إليّ عدوى الحرية، شددت عضلات ظهري ورفعت رأسي وسِرت بخطوات منطلقة أحرك ذراعي في الهواء".

تكررت المقارنات التي عقدتها نوال على اختلاف أوجهها، ففي أمريكا دخلت في حوار مع سائق تاكسي عن تباين الرواتب بين القوة العظمى في العالم، وبين بلدها المسحوب على العالم الثالث، عندما علم السائق أنها طبيبة ظنّ أنها غنية مثل أطباء بلده، فسألها: "كم تكسبين في العام؟ قالت: أقل من خمسمائة جنيه مصري في السنة. صاح بدهشة: أوه! هذا قليل جداً. هنا يكسب الطبيب ثلاثون ألف دولار في السنة على الأقل"!

رغم الانبهار بالوفرة الاقتصادية في أمريكا، شعرت بالضيق من عنصريتها حكومة وشعباً، حين استاءت من موظفة الإدارة بالجامعة هناك، التي كانت "تدقق النظر إلى لون بشرتي السمراء كأنما تقيس درجة السمرة ودرجة ارتفاع الأنف والصدر والبطن"، على حد قولها.

وكذلك ما جرى لها في أحد النوادي، فتقول: "في دورة المياه بالنادي بابان، كُتب على أحدهما: للبيض، وكتب على الآخر: للملونين، وتوقفت أمام المرآة أدقق النظر في لون بشرتي، ولم أعرف أيهما أدخل، ثم دخلت من باب الملونين"!

جذور النسوية والاشتراكية في مسيرة السعداوي

حكَت نوال في كتابها عن رحلاتها ذات الغرض النسوي، حين حضرت مؤتمر النساء في هلسنكي، الذي ضمّ أكثر من ألف امرأة يمثلن 92 دولة، برفقتهن مجموعة من النساء المصريات والعربيات عددهن يبلغ المئة.

في فنلندا دعتها إحدى الروسيات الحاضرات للمؤتمر إلى زيارة بلادها، التي لم تكن نوال تعرف عنها شيئاً إلا من "الروايات وأفلام السينما، وفي ذهني للاتحاد السوفييتي صور متناقضة، بعضها مشرق كضوء الشمس، وبعضها غامض مظلم كالوجه الآخر من القمر"، بحسب قولها.

هناك عرفت نوال الاشتراكية بشكل أوضح، بعدما سمعت عنها لأول مرة من أبيها وهي في العاشرة من عمرها، وقبل أن تتخرج في كلية الطب، قرأت تولستوي ودوستويفسكي وماركس وإنجلز ولينين وكروبسكايا وبوشكين وجوركي وترجنيف.

في شوارع "الحبشة أو أوغندا فلا يكاد يلحظ أحد أنني غريبة. وأعترف بأن ذلك لم يكن يبهجني دائماً، ففي أعماقي منذ الطفولة حنين لأن أكون بيضاء مثل القشطة"

في التتبع لرحلة نوال السعداوي في روسيا، أو "العالم الأحمر"، كما أسمتها، نلحظ انبهارها بما رأته هناك، فتقول: "لم أرَ بلداً مولعاً بالمتاحف كالاتحاد السوفييتي، لنينجراد وحدها بها خمسون متحفاً، وكل شيء هنا له علاقة بالتاريخ أو الفنانين يمكن أن يتحول إلى متاحف، ويقام لهم التماثيل، وتسمى المدن بأسمائهم".

إيران ومصر بعين نوال السعداوي

في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، هبطت نوال في الأراضي الإيرانية لأول مرة، تحديداً عام 1988، ضمن رحلة علمية طبية "محصورة داخل جامعة طهران"، ورغم ذلك لمحت نوال تشابهاً كبيراً بين رجال إيران ونظرائهم في مصر وكذلك النساء، فبحسب وصفها: "وجوه لا تختلف كثيراً عن وجوهنا، الملامح الشرقية بارزة في الوجه ومدببة، فيها خشونة ورجولة شرقية تتناقض مع الشعر الطويل المسدل فوق الرقبة وأمام الأذنين، والفتيات بشرتهن الفاتحة وعيونهن الواسعة كعيون المها تتعثر فيها نظرات وجلة خجلة لم تتحرر بعدُ من عقدة الأنثى الأَمَة، رغم المساحيق الأمريكية التي تُظلل الجفون والرموش، ورغم الميني جيب التي تكشف عن أفخاذ شرقية ممتلئة حياءً وخفراً"!

كان ذلك مدخلاً لحديث نوال عن عهد السادات وإرهاصات عودة العلاقات بين مصر وإيران، فتحكي أن رجلاً يدعى علي أكبر قسمائي، دخل عليها ذات يوم يسألها: هل قرأت الخبر في الصحف هذا الصباح؟ فردت بسؤال: أي خبر؟ فأجابها: "عودة العلاقات بين حكومتي مصر وإيران".

وعن عمق العلاقة بين مصر وإيران، تحكي أن الرئيس الأسبق محمد أنور السادات كان يتشابه كثيراً مع شاه إيران، خاصة في لقب "أبو العائلة المصرية"، على غرار "أبو العائلة الإيرانية"، وفقاً لقولها.

سيدة سمراء في القارة السمراء!

تقول نوال السعداوي عن رحلتها لإفريقيا، إنها "جاءت متأخرة (..) مع أن قارتنا هي إفريقيا، ونحن نعيش عليها، وجذورنا ومنابع نيلنا تمتد من قلبها"، وتعلل ذلك التأخير بقولها: "لكن عيوننا ووجوهنا كانت دائماً تتجه نحو البحر الأبيض وأوروبا وأمريكا، وظهورنا ناحية إفريقيا، ناحية أنفسنا. حينما يدير الإنسان ظهره ناحية نفسه، حينما يخجل الإنسان من بشرته السمراء أو السوداء، ويحاول يخفيها بمسحوق أبيض، كيف يعرف نفسه؟!".

تقول نوال إن بشرتها السمراء التي كانت تؤرقها في طفولتها، ظلت تؤرقها في إفريقيا أيضاً، لأنها عندما كانت تسير في شوارع "الحبشة أو أوغندا فلا يكاد يلحظ أحد أنني غريبة. وأعترف بأن ذلك لم يكن يبهجني دائماً، ففي أعماقي منذ الطفولة حنين لأن أكون بيضاء مثل القشطة (...) منذ ولدت أدركت حقيقتين اثنتين لا شك فيهما: أولهما أنني بنت ولست ولداً مثل أخي، وثانيهما أن بشرتي سمراء، وليس بيضاء مثل أمي، ومع هاتين الحقيقتين أدركت شيئاً آخر أكثر أهمية، ذلك أن هاتين الصفتين وحدهما وبدون أي عيوب أخرى كافيتان للحكم على مستقبلي بالفشل"!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard