شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ماذا لو تعطّلت شاشة الأحلام؟

ماذا لو تعطّلت شاشة الأحلام؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 19 نوفمبر 202111:41 ص

تندرج المادة في ملف "كان صرحاً من خيال... لعبة التاريخ البديل"

لقيت روايات التاريخ البديل رواجًا منذ ستّينات القرن الماضي، ويقوم بناؤها على حجرٍ أساسٍ عنوانه: "ماذا لو..." لتحقِّق بعدها انزياحًا عن الحقائق التاريخيّة إلى عالمٍ متخيَّلٍ من الأحداث يسائل الشرعيّات والمسلَّمات. والمطالِعُ لهذه الروايات يلحظ أنّ أغلب الكتّاب يختارون الانعطاف عند حدثٍ تاريخيٍّ عظيم أو قرارٍ مصيريّ، كأن يعدّلوا نتيجة حربٍ ما، أو يكتبوا النجاح لثورةٍ أخفقت، أو يفترضوا أنّ شخصيّةً محوريّةً في التاريخ لم تولد أصلًا، أو لم تُقتل قبل أن تستكمل مسيرتها. ولأنّ التغيير يقع في أحداثٍ ذات شأن، تنبني عليه نتائج واسعة الأثر والمدى، وسرديّاتٌ قد تغيّر خارطة العالم ومستقبل البشريّة. لكنّ المفارقة أنّ ذلك كلَّه ممكنٌ بمجرّد تغييرٍ تاريخيّ طفيف يقضي بإلغاء منامٍ واحد، فهو وحده كفيلٌ بإعادة كتابة التاريخ ورسم حدودٍ سياسيّة جديدة وصناعة حاضرٍ مختلف.

لقيت روايات التاريخ البديل رواجًا منذ ستّينات القرن الماضي، ويقوم بناؤها على حجرٍ أساسٍ عنوانه: "ماذا لو..." لتحقِّق بعدها انزياحًا عن الحقائق التاريخيّة إلى عالمٍ متخيَّلٍ من الأحداث يسائل الشرعيّات والمسلَّمات

هل سألنا أنفسنا يوماً: ماذا لو لم تتخيل السرديات التاريخية ما تخيلت في قصص عن أحلام تأسيسية؟ ماذا لو لم يرَ القائد المسلم طارق بن زياد في منامه النبي ليلة عبوره من الشمال الإفريقي إلى شبه الجزيرة الإيبيرية – التي عُرفت فيما بعد بالأندلس – ليعزم أمره من بعدها؟ وماذا لو لم يرَ الخليفة الواثق بالله مناماً هالَه، ليرسل على إثره حملةً استكشافية بلغت الحدود الشمالية والشرقية لقارة آسيا؟ وماذا لو لم يرَ أبو بكر الرازي، أبو الطب العربي، منامات ألهمته علاجَ بعض الأدواء، فأثبتها في كتابه "الحاوي في الطب" وتناقلها الأطباء بعده؟

هل سألنا أنفسنا يومًا: ماذا لو لم تعرف البشريّة عالمًا ثانيًا هو عالم الأحلام؟ ماذا لو أنّ النوم لا يقترن بتلك الشاشة التي بمقدورها أن تحرّك جميع حواس الإنسان وهو في حالٍ أقرب إلى الموت منه إلى الحياة؟

لا تخضع الأحلام لضوابط المنهج العلميّ، ولا توجد آلةٌ أو استراتيجيّةٌ لتفحص صدقها من عدمه. ولذلك يُنظر إلى الأحلام عادةً على أنّها خيالات أو ادّعاءاتٌ غير موضوعيّة، ويُحيل ذكرها في الأذهان إلى سياقاتٍ أدبيّة محضة كحكايات ألف ليلة وليلة. لكنّ الواقع التاريخيّ للأمم والحضارات يثبت أنّ الأحلام كان لها حضورها الفاعل والوازن. هذا الحضور الذي يمنحها أثرًا كأثر الفراشة؛ لا يُلتفت إليها استخفافًا أو تكذيبًا ثمّ تكون تداعياتها "مدوّية". هل سألنا أنفسنا يومًا: ماذا لو لم تعرف البشريّة عالمًا ثانيًا هو عالم الأحلام؟ ماذا لو أنّ النوم لا يقترن بتلك الشاشة التي بمقدورها أن تحرّك جميع حواس الإنسان وهو في حالٍ أقرب إلى الموت منه إلى الحياة؟ الإجابة ليست بالأمر الهيّن كما يظنّ البعض، ولا تقتصر على المحور الفرديّ بل تتعدّاه إلى ما هو أبعد بكثير وصولًا إلى المحور الكوزمولوجيّ كما سنرى.

المنام والرحلات

تنقل لنا كتب الرحلات أخبار الحملات الاستكشافيّة التي عرفها العالم الإسلاميّ في العصر الوسيط، وترد فيها بعض المنامات على نحوٍ متفرّق. ولعلّ أبرزها منامٌ رآه الخليفة الواثق بالله فأرسل على إثره حملةً استكشافيّة بلغت الحدود الشماليّة والشرقيّة لقارّة آسيا. ينقل لنا ابن خرّداذبه خبر هذا المنام في كتابه المسالك والممالك، يقول: "فحدّثني سلّام التّرجمان أنّ الواثق بالله لمّا رأى في منامه كأنّ السّدّ الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج قد انفتح فطلب رجلًا يخرجه إلى الموضع فيستخبر خبره. [...] فدعا بي الواثق وقال: أريد أن تخرج إلى السدّ حتّى تعاينه وتجيئني بخبره. وضمّ إليّ خمسين رجلًا." إنّ إلغاء منامٍ كهذا من تاريخ الجغرافيا له وقعٌ عظيم، لا سيّما أنّ المصادر القديمة تؤكّد أنّ رحلة سلّام بلغت بلدانًا قاصية لم يصلها رحّالة آخرون في حينها.

رؤية المنام والطبّ

يُذكر المنام في كتب الطبّ القديمة على أنّه أحد مصادر هذا العلم، وممّا يُؤثر عن جالينوس (Galenus) أنّ السبب الذي دعاه إلى اعتماد بعض العلاجات هو رؤيتها في المنام أكثر من مرّة. ويكفي أن يطالع المرء كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء ليدرك دور الأحلام في تراجم الأطبّاء من الحضارة العربيّة. يقول ابن سينا وهو الطبيب والفيلسوف وصاحب كتابٍ في تعبير الرؤيا (أي تفسير الأحلام)، يقول عن اشتغاله بالتأليف: "ومهما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها حتّى إنّ كثيرًا من المسائل اتّضح لي وجوهها في المنام." ويستند أبو بكرٍ الرازي – المعروف بأبي الطبّ العربيّ – إلى بعض الأحلام "الملهِمة" وقد أثبتها في كتابه الحاوي في الطبّ وتناقلها الأطبّاء من بعده. منها على سبيل المثال قوله: "رأى رجل في المنام وهو مجذوم أن يشرب ترياق الأفاعي ويمسح به بدنه كلّه ففعل فتغيّرت علّته بعد أيّام يسيرة إلى تقشّر الجلد ثمّ برئ من ذلك أيضًا."

تختلف قصّة بدء الحياة على الأرض باختلاف المصادر القديمة وتنوّع مشاربها، وترد قصّة آدم وحوّاء برواياتٍ متباينة لا تكاد تُحصى. واللافت أنّ بعض هذه الروايات يجعل المنام نقطة التحوّل الأساسيّة، وفيها أنّ الشيطان أغرى حوّاء في المنام أن تأكل من ثمار الشجرة المحرّمة

أرسطو والمأمون

لا يُذكر تاريخ الترجمة عند العرب إلّا ويُذكر منام الخليفة المأمون الذي التقى فيه أرسطو، يقول: "رأيت فيما يرى النّائم كأنّ رجلًا على كرسيّ جالسًا في المجلس الذي أجلس فيه فتعاظمته وتهيّبته وسألت عنه فقيل: هو أرسطوطاليس، فقلت: أسأله عن شيء، فقلت: ما الحسن؟ فقال: ما استحسنته العقول. قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ما استحسنته الشريعة. قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ما استحسنه الجمهور. قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ثمّ لا ثمّ." فأحضر المأمون إثر المنام حنينَ بن إسحق وسأله نقل كتب اليونان إلى اللغة العربيّة، وبذل له من الأموال والعطايا شيئًا كثيرًا. وقيل إنّ المأمون كان يعطيه من الذّهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربيّة مثلًا بمثل.

حلّل ديميتري غوتاس (Dimitri Gutus) هذا المنام، وربط سياسة المأمون الداخليّة بانتشار حركة الترجمة. فبيّن كيف "وُضع" هذا المنام ليثبت التوجّه الأيديولوجيّ الجديد للخليفة، والذي قضى بتقوية سلطته السياسيّة والدينيّة وإضعاف سلطة رجال الدين والمذاهب المختلفة. لقد أراد المأمون تأسيس سياسةٍ جديدة تقوم على تفسيرٍ فرديٍّ للإسلام، يكون فيه الخليفةُ صاحبَ القول الفصل، ولقد تمكّن عن طريق المنام من تحقيق ذلك.

يحضر المنام في نظريّةٍ لنشأة الكون كانت جزءًا من معتقدات شعوب جنوب شرقيّ آسيا في الماضي، ومفادها أنّ هذا العالم بمن فيه وما فيه هو حلمٌ تراه الآلهة

المنام وتاريخ الدول

يذهب بعض الدراسين إلى أنّ الدور الأبرز للمنامات في الحضارة العربيّة-الإسلاميّة كان منح الشرعيّة لفردٍ أو لسلطةٍ حاكمةٍ أو لقرار. فحظيت الأحلام السياسيّة باهتمام الأكاديميّين، وخصّص لها توفيق فهد مقالًا بعنوان “The Dream in Medieval Islamic Society”، يسرد فيه أحلام الأسرة العبّاسيّة الحاكمة، وأفردت أنّا ماري شيمل (Annemarie Schimmel) فصلًا للأحلام السياسيّة في كتابها أحلام الخليفة الذي وضعته بالألمانيّة وتُرجم إلى العربيّة. وأحد هذه الأحلام جديرٌ بالذكر لارتباطه بخليفةٍ جدليّ، هو الخليفة الأمين ابن هارون الرشيد، ولأهمّيّته في قراءة الصراع القديم بين العرب والعجم. كان هارون الرشيد قد استخلف الأمين على الحكم بعده، علمًا أنّ ابنه المأمون كان يكبر الأمينَ سنًّا.

ودامت ولاية الأمين قرابة خمس سنوات قبل أن ينتزع أخوه الخلافةَ منه بدعمٍ من الفرس. وتستغرق قصّة الصراع بين الأخوين عشراتِ الصفحات في مصادر التاريخ الأولى، وترمز إلى صراعٍ أكبر عرفته الدولة العبّاسيّة بين العرب (الذين كان يميل إليهم الأمين) والعجم (الذين ناصروا المأمون وقاتلوا دونه).

وممّا يستوقف القارئ لهذا التاريخ أنّ الأمين اتّكأ على منامٍ رآه في مرحلةٍ مفصليّةٍ متأخّرة من القتال بين الفريقين، ورفض أن يستسلم لطاهر بن الحسين – أحد قوّاد أخيه – ويتنازل عن السلطان ويأمن على نفسه وأمواله. فكمن طاهر للأمين وأنهى حياته بطريقةٍ مأساويّة قطع فيها رأسه وأرسله إلى المأمون. لقد كان المنام تجسيدًا مؤثِّرًا لإضفاء شرعية على صناعة القرار على المستوى الأعلى من السلطات، ومن الواضح أنّه برّر وصول الأمينَ إلى حتفه بشكلٍ أو بآخر. 

المنام وتاريخ الكون

تختلف قصّة بدء الحياة على الأرض باختلاف المصادر القديمة وتنوّع مشاربها، وترد قصّة آدم وحوّاء برواياتٍ متباينة لا تكاد تُحصى. واللافت أنّ بعض هذه الروايات يجعل المنام نقطة التحوّل الأساسيّة، وفيها أنّ الشيطان أغرى حوّاء في المنام أن تأكل من ثمار الشجرة المحرّمة. ويحضر المنام في نظريّةٍ أخرى لنشأة الكون كانت جزءًا من معتقدات شعوب جنوب شرقيّ آسيا في الماضي، ومفادها أنّ هذا العالم بمن فيه وما فيه هو حلمٌ تراه الآلهة.

لم تأخذ الأحلام برأيي حقَّها من "موجة" التاريخ البديل، ولا من الدراسات التاريخيّة والعلميّة، وذلك أنّ الباحثين ينظرون إليها بمنظار حاضرهم لا حاضر الأمم السالفة. لم تكن الأحلام في التاريخ على هامش الحياة، ولم تكن كذلك عنصرًا حياديًّا، وإنّ حذفها من بعض المعادلات التاريخيّة يُحدث تغييرًا جوهريًّا في النتائج. ولا أحد يدري كم روايةً تاريخيّةً ستُكتب لو أنّ شاشة الأحلام.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard