شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"جنّة جنّة" وحفل وائل القاق في برلين… الرثاء في الأغاني كفعل مقاوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 28 أكتوبر 202109:54 ص

أجساد متلاصقة، في عتمة صالة "الفاست سال كرويزبرغ" في برلين، كانت تتراقص على وقع أغاني الثورة السورية التي حوّلها الموسيقي السوري، وائل القاق، بموسيقاه الإلكترونية، إلى لحظة جامعة ضمّت العديد من الشباب العرب، وغير العرب، الموجودين في المدينة، وأوقفت الزمن لبرهة، داخل جدران هذه الصالة.

على إيقاع الطبلة والمزمار، مصحوبَين بالإلكترونيك، وبآلتَي الربابة والعود، تمايل الجمهور، وهو يغني "عيني عليها"، و"جنّة جنّة"، و"عندك بحريّة يا ريس". رقصوا، وصفّقوا، ودبكوا، وتناسوا لبعض الوقت أين هم، وما الذي أتى بهم إلى هذه المدينة؟

على إيقاع الطبلة والمزمار، مصحوبَين بالإلكترونيك، وبآلتَي الربابة والعود، تمايل الجمهور، وهو يغني "جنّة جنّة"... رقصوا، ودبكوا، وتناسوا لبعض الوقت أين هم، وما الذي أتى بهم إلى هذه المدينة؟

بعد عرض وائل القاق، خرج العديدون من الصالة، للتدخين، ولالتقاط أنفاسهم، واستيعاب كمية المشاعر التي ولّدها العرض. الكل ينظرون إلى عيون الأصدقاء والغرباء من حولهم. وتلمع عيونهم، وتميّزهم سعادة داخلية خلقتها تلك اللحظة التي جمعتهم داخل الصالة. غرباء يبتسمون لآخرين لا يعرفونهم، يريدون مشاركة سعادتهم، ويسألون عن آراء بعضهم البعض بالعرض، ويحاولون ترجمة أحاسيسهم بكلمات أبت أن تصوّر تماماً أفكارهم ومشاعرهم بدقة.

أتكلّم عن ليل الخميس 14 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عندما كانت برلين على موعد مع "مهرجان آل برلين"، الذي يعكس تحوّل المدينة إلى عاصمة المنفى العربي، عبر جمعه جمهوراً متنوعاً أتى للاستماع إلى فرق موسيقية وديجيهات؛ ديميترا زينة (اليونان)، ورشا حلوة (فلسطين)، وإيدنا مارتينز (كولومبيا)، وفرقة "جميلة والأبطال الآخرين"، وحسن كاي، ووائل القاق مع فرقته "نشامى" السورية، الذين شكّل عرضهم لحظة جارفة استوقفتني لتأملها.


"جنّة يا وطننا"

قدّم وائل القاق مشروعه الموسيقي، نشامى، والذي هو عبارة عن استعادة الأغاني التراثية والثورية السورية التي راجت خلال فترة المظاهرات السلمية، حين قام موسيقيون شعبيون بتأليف أغانٍ جديدة، وغنّوا مع الثوار، وتم دمج الشعارات الثورية بالألحان الشعبية المعروفة. من بين تلك الأغاني، أغنية "جنّة جنّة" التي تشكّل بحد ذاتها مادةً مثيرةً للاهتمام، لقدرتها على جمع لحظات تاريخية عديدة ومتناقضة.

فهي في الأصل أغنية عراقية تتغنّى بالعراق كوطن قومي، سجّلها الفنان العراقي رضا الخياط، في ثمانينيات القرن الماضي (وهي من كلمات الشاعر كريم العراقي، ومن ألحان المؤلف الموسيقي جعفر الخفاف).

يُظهر الفيديو المرافق للأغنية، مشاهد من العراق، في ظل نظام صدام حسين، هذا "الوطن الجنّة" التي تتغنى به الأغنية، مشدداً على معالم النظام خلال تلك الفترة التي كانت آلة الدعاية البعثية تحاول تصويرها، ليظهر العراق كنموذج للدولة القوية، مكرّساً العبادة الشخصية لصدّام: كاستخدام الفلكلور، وآثار حضارة ما بين النهرين، لتعزيز النظام، وشرعيته التاريخية، مع التشديد على اللغة، والقومية العربية، إلى جانب تحديث الريف والاقتصاد العراقي، بعد تأميم المصالح النفطية الأجنبية، وماكينة الزراعة على نطاق واسع، وبناء بنى تحتية عصرية... طبعاً لا ينحصر هذا الخطاب بالعراق، فهو شكّل نواة العديد من الأنظمة العربية في المنطقة، خلال تلك الفترة.


منذ ذلك الحين، استُعيدت هذه الأغنية مراراً، وتحديداً في فلسطين، وسوريا. ولكنّ استعادة السوري عبد الباسط الساروت (1992ـ2019)، لهذه الأغنية، في ظل الثورة السورية، عكست حجم التغييرات التي طرأت على العالم العربي. فـ"الوطن العربي" الذي صُوِّر في فيديو الخياط، والمتمحور حول الدولة القومية والعروبة، سحق شعوبه، سواء في العراق، أو في سوريا، أو في بلاد عربية أخرى، ولم يعد مرغوباً في مخيّلة شعوب المنطقة. لا بل هذه الصورة تحطمت في بعض الأماكن، وأصبح التسليط الأقوى على المدن، وساكنيها، وأقليّاتها المختلفة، وعلاقتهم ببعضهم البعض. وقد عبّرت النداءات المختلفة للمدن في أغنية الساروت، وخلال الثورة، عن رغبة متنامية بلقاءات جديدة لا تأتي من فوق، ولا ترسمها الأنظمة، بل تُنسَج من تحت، عبر العلاقات الشخصية والحميمية بين المدن وساكنيها.


الساروت والأغنية

عبد الباسط الساروت، الملقب بـ"حارس الثورة السورية"، وبـ"بلبل الثورة"، هو الحارس السابق لنادي الكرامة، ومنتخب سوريا للشباب، وأحد قادة المظاهرات في حمص، حيث برز عبر أناشيده، وهتافاته التي أصبحت في ما بعد أغاني يتغنّى بها الثوار. وعلى الرغم من أن حياة الساروت، وتحوّله نحو العسكرة، والأسلمة، ومقتله، شكّلت انعكاساً "لمسارات الصراع السوري المعقّدة، ومآلاته التراجيدية"، والاشتباكات بين الخطابات، تبقى إعادة قراءة أغانيه، وتحديداً "جنّة جنّة" اليوم، واستعادتها موسيقياً، مدخلاً لتحليل التحولات العميقة التي عاشتها وتعيشها شعوب المنطقة.

في هذه الفوضى العارمة من الموسيقى والعاطفة والمظالم، تم رسم مساحة آمنة لبضع لحظات.

إذ يطبع الساروت الأغنية بنفحة حزن تستعيد آلام الماضي، ويحوّل مسارها الذي يكرّس في الأساس الوطن العربي القومي بمختلف تجليّاته، إلى تكريس للمدن السورية، وشعوبها الذين شلّ النظام السوري تلاقيهم. وفي ذلك رغبة من التحرر من خطاب النظام وسرديته المسيطرَين، وتحديداً سيطرته على كتابة الحاضر والماضي، ليصبح الاعتذار في الأغنية، وطلب السماح من حماة مثلاً، وسيلةً لاستعادة الماضي، وكسر السكوت عن الظلم والمجزرة التي عرفتها المدينة بعد انتفاضة الإخوان المسلمين خلال فترة الثمانينيات، خوفاً آنذاك من الطاغية، واستعادة للكلام في الحاضر والماضي. وقد يُقرأ هذا الاعتذار في استعادات أخرى لأغنية "جنّة جنّة"، كاستعادة وائل القاق مثلاً، كوسيلة للرثاء، ولبكاء الهزيمة الحالية المرفق بنفحة أمل.

فمع أنّ أغنية الساروت كانت أغنية الثورة بامتياز، وعلى الرغم من المعاني المختلفة التي تحملها، والإسقاطات السياسية والدينية التي ارتبطت بها، لكنني عندما أسمعها، أو أسمع استعادة القاق اليوم، أصنّفها في رأسي ضمن فئة أغاني الرثاء والحداد، لا أغاني الثورة من حيث تأكيدها على الخسائر، والمعاناة السابقة، واللاحقة، التي عرفها الشعب السوري، وهي مواضيع يتردد صداها في أغاني الرثاء عادةً. ومع ذلك، تبهرني قوتها في تصوير روايات الشعب السوري، وصوره، وامتلاكه لهذه اللحظة، حين خرج فيها إلى الشوارع، وسعى إلى الاستيلاء على إنسانيته ​​الكاملة، وتحقيقها، في ظل نظام أصرّ على حرمانه من حقه. ويظهر هذا الرثاء الذي تتخلله نفحة أمل، كرؤية لما يمكن أن يكون عليه العالم، لو كان حقاً عالماً جميلاً، عالماً من دون سعادة كاملة، ولكن مع الكثير من الحزن، والمقاومة، والتضحية، والمعاناة. وتمكن قراءته كلحظة "هدوء" تشكّل نافذةً بديلة لقراءة روح الثورة، كما يتم التعبير عنها في الموسيقى الشعبية.

استُعيدت هذه الأغنية مراراً، وتحديداً في فلسطين، وسوريا. ولكنّ استعادة السوري عبد الباسط الساروت (1992ـ2019)، لهذه الأغنية، في ظل الثورة السورية، عكست حجم التغييرات التي طرأت على العالم العربي

أغاني الرثاء والمقاومة الهادئة

قراءة الاحتجاجات في الأغاني على أنّها تعبير هادئ يعكس الأحلام، والأماني، تسمح باستكشافٍ عميقٍ للحاضر المبني على تراكمات ماضية. من هذا المنظار، أقرأ استعادة الساروت، ووائل القاق، لأغنية "جنّة جنّة"، ومختلف الاستعادات للأغاني التي إمّا ارتبطت بخطاب الأنظمة العربية من فوق، واستعيدت خلال الثورات، كأغنية "موطني"، أو "سوف نبقى هنا"، أو تلك المرتبطة بالفئات الأكثر تهميشاً، والتي عبّرت عنها أغاني الألتراس، كأغنية "في بلادي ظلموني"، و"الرجاوي فلسطيني" في المغرب، وأغنية الألتراس الأهلي المصري "حكايتنا"، في شوارع بيروت.

قراءة الاحتجاجات في الأغاني على أنّها تعبير هادئ يعكس الأحلام، والأماني، تسمح باستكشافٍ عميقٍ للحاضر المبني على تراكمات ماضية.

هذه القراءة تمكّننا من تتبّع لحظات المقاومة المختلفة والهادئة، والبحث عن الهويات التي تُبنى استناداً إلى التراكمات التاريخية، وعبر غربلةٍ للأحزان الماضية، إذ تسعى شعوبنا اليوم للبحث عن هويات جديدة معقدة، ومتداخلة، لا تدور بالضرورة حول مفهوم واحد للمقاومة، وخطاب القومية العربية، ولو أنّها تميل نحو الأسلمة أحياناً، بحكم الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة، وهذا باب آخر للتحليل والتفكيك. وتذكّرنا هذه الاستعادات بالتركيب الموسيقي للقدود التي هي منظومات غنائية شعبية بُنيَت على قدِّ، أو لحن أغنية شائعة دينية، أو مدنية، وحُوِّرت كلماتها، مما يعكس هذا التداخل القديم بين الديني والدنيوي، والتراكم التاريخي عبر الموسيقى والغناء.

الحزن كفعل سياسي

وتصبح بذلك استعادة "جنّة جنّة"، من قِبل الساروت، ومن ثم وائل القاق، أو خلال الاحتجاجات في فلسطين، السنة الماضية، واستعادات الأغاني المختلفة في سياق الاحتجاجات، بمثابة وسيلة ومساحة للحلم، والنقد، والشكوى، عبر الاستناد إلى تاريخٍ ماضٍ من المقاومة والآلام… وتتحوّل الأحلام ومشاعر الحزن، أو الحب تجاه الوطن، بالنسبة إلى المهمّشين والمضطهدين، إلى فعل سياسي ومقاوم على الرغم من المعاني المختلفة التي يمكن إسقاطها على هذا الوطن، هنا وهناك، أو هذه الأغنية، أو اللحظة التاريخية. تضحي الأغنية وسيلةً للمقاومة، لا بكلماتها أو موقفها فحسب، بل لأنها تتيح للفرد بناء الأحلام، وذاتاً جديدة، واستعادة الماضي القريب الذي سُرق. ويشكل اللجوء إلى هذه الأغاني، قبل الهزيمة، أو بعدها، وسيلةً لإيجاد مساحات جديدة، وإنشائها، سواء أكانت جغرافية، أو ميتافيزيقية، حقيقية أو متخيلة، من الحرية الشخصية، والسياسية.


من هذا المنظار، أقرأ التشابك الذي حصل بين الجمهور البرليني، وعرض وائل القاق، خلال مهرجان آل برلين، فقد أربكت استعادة القاق لأغاني الساروت، وموسيقاه الإلكترونية المتعددة الطبقات، والمشحونة عاطفياً، الجمهور باستعادتها لغةً مألوفة كسرت جليد هروبه من الماضي، وواقع الغربة، وأعادته إلى قلب تخبّطاته.

تتحوّل الأحلام ومشاعر الحزن، أو الحب تجاه الوطن، بالنسبة إلى المهمّشين والمضطهدين، إلى فعل سياسي ومقاوم على الرغم من المعاني المختلفة التي يمكن إسقاطها على هذا الوطن، هنا وهناك، أو هذه الأغنية، أو اللحظة التاريخية

أصوات جديدة لكنها مألوفة

وفي تلك اللحظة، التقت أطر مختلفة من الحزن، والأمل، والحب. فمن جهةٍ نجد الحزن على اللحظات التأسيسية للثورة، وبداية الاحتجاجات التي جسّدها الساروت، يجاوره حزنٌ عام على ما آلت إليه الثورة والحرب، وحزنٌ من واقع الغربة، واللجوء، وترك البلاد والعائلة والأصدقاء، ذلك كله ممزوج بفرح اللحظة الجامعة، في هذا المكان والزمان. وشكّلت بذلك حفلة "آل برلين"، وعرض وائل القاق، مكان جمع هذه السير المختلفة التي تشابكت وتجاورت في لحظة معينة. وصاغت هذه الأصوات الشخصية المنعزلة، وموسيقى الرثاء، أصواتٍ جديدة، لكنها مألوفة، تتخطى حواجز الكلمة والحدود، لتأسر الجماهير، وتشرك المستمعين في حوار مع المدينة الحاضنة، والأحلام المستقبلية، والبلد المنكوب، والشوق إليه، والحزن على فقدانه.

يصبح الرثاء تجربةً شخصيةً وجماعيةً معاً، تعبّر عن حزن مشترك، لا وطن، أو هوية محددة له.

خلق هذا الأداء الفنّي تفاعلاً ديناميكياً بين المغنّي، والأغنية، والجمهور، عبر إشراك الجمهور في التعبير عن الصراع العاطفي. في هذه الفوضى العارمة من الموسيقى والعاطفة والمظالم، تم رسم مساحة آمنة لبضع لحظات. وعلى الرغم من أن الأغاني تحدثت بلغة الثورة السورية التي تطورت في سياق تاريخي وسياسي معيّن، إلا أنها متشابهة بشكل ملحوظ، في تعبيرها العاطفي عن النضال الشخصي، والسياسي، والاجتماعي، في مختلف المناطق العربية، ممّا سهّل التقاطها من قبل الجمهور غير السوري الموجود في المدينة، ليصبح الرثاء تجربةً شخصيةً وجماعيةً معاً، تعبّر عن حزن مشترك، لا وطن، أو هوية محددة له. رثاء لا يسعى إلى تفسير المحنة، أو فهمها؛ بدلاً من ذلك، يوفّر طريقة للتعامل معها، ومع آلامها، عبر التحدّث عنها، وعن قصص الناس الشخصية، في محاولةٍ متكررة لتجاوز اليأس والهزيمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard