شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل سمعتم عن

هل سمعتم عن "السجناء الزرق" في بيروت؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 25 أكتوبر 202105:22 م

مبنى كالح، حائل اللون، يرتفع عدة طوابق، تتناثر على الأرض حوله الكثير من أعقاب السجائر، وورق وعلب الطعام الفارغ، التي– ربما– ألقى بها سكان المبنى من نوافذه.

تتدلى من نوافذ المبنى الصغيرة المغلقة بالقضبان الحديدية الكثير من الأقمشة الملونة، التي لا نتبين كُنهها كمشاهدين، هي بالنسبة لنا مجرد خرق بالية، لكنها على الأرجح ملابس ساكني هذا المبنى المُسمى بـ"البيت الأزرق" داخل سجن رومية، أحد أكبر سجون لبنان، والمخصص للمرضى العقليين، الذين ارتكبوا جرائمهم تحت طائلة المرض، إذ يقضي قانون العقوبات اللبناني الصادر عام 1943 بإيداعهم في السجن إلى حين الشفاء.

هؤلاء المرضى السُجناء هم أبطال فيلم "السجناء الزُرق" للمخرجة اللبنانية زينة دكاش، الثالث عن السجون اللبنانية، والثاني من داخل سجن رومية، وعُرض مؤخراً في مهرجان الجونة السينمائي ضمن مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة، بعد عرضه العالمي الأول في مهرجان البندقية في دورته الماضية.

سجناء في انتظار المجهول

تجلس المخرجة خلف الكاميرا، في غرفة معتمة، لا يضيئها سوى ضوء النهار المتسلل من النافذة الصغيرة، لتكشف عن غرفة كالحة، مثل المبنى الذي تحتله، تخلو من أي أثاث سوى سرير صغير متهالك.

على السرير، يجلس رجل مسن أمام الكاميرا، وينعكس ظل القضبان على الحائط خلفه، مما يعطينا شعوراً أن هناك سجناً آخر داخل هذا الرجل، بالإضافة إلى السجن المادي المرئي. يخبر الرجل أنه يعيش داخل هذا المبنى منذ أكثر من ثمانين عاماً، فتسأله المخرجة "أديش عمرك"، فيخبرها مائة وثلاثين عاماً.

مريض عقلي في "البيت الأزرق" أعطته المخرجة دور مساعد المخرج، فيقوم بحضور البروفات، ويدلي برأيه بخجل ممزوج بالبهجة

بالطبع ليس هذا هو عمره الحقيقي، ولا هذه هي المدة التي قضاها داخل أسوار هذا المبنى، ولكن ربما هو إحساسه ببطء مرور الزمن، وثقل العمر من كثرة السنوات التي قضاها داخل هذه الجدران لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً في انتظار المجهول، دون أن يجد جديد على حياته وحياة زملائه، أو يعرف تحديداً متى يمكنه الخروج إلى العالم مرة أخرى.

حسب رواية أحد المسجونين العاديين للمخرجة، بنى هذا المبنى أخ لأحد المرضى، الذي حكم عليه بإيداعه في السجن لحين الشفاء، إذ لا يوجد مكان مخصص في أي من سجون لبنان للمرضى العقليين، وكان هذا الأخ هو أول من يقطنه، ثم صارت الحكومة تُحيل إليه المرضى العقليين المحكوم عليهم.

تنص المادة الخاصة بهؤلاء المسجونين من قانون العقوبات اللبناني على أن "كلّ مجنون، كلّ معتوه، كلّ ممسوس ارتكب جرماً، يوضع في مأوى احترازي في السجن إلى حين الشفاء"، ومع ذلك، لا يتلقى هؤلاء المسجونون أي علاج نظامي يؤهل للشفاء أو استقرار حالتهم حتى يتمكنوا من الخروج، فلا يوجد أطباء أو ممرضات أو أي نوع من الرعاية الطبية والصحية، ولا يزورهم الطبيب سوى مرة كل شهر أو شهرين.

وليس هناك أيضاً من يزورهم من ذويهم أو يسعى لخروجهم، فأصبحوا بشراً محكوماً عليهم بالسجن مدى الحياة. بمجرد دخولهم إلى هذا المبنى انقطعت صلاتهم بالعالم الخارجي إلى أجل غير مسمى.

موضوع شائك وتجربة أقل عمقًا

مثل فيلميها التسجيليين السابقين "12 لبناني غاضب" (2009) و"يوميات شهرزاد" (2013)، تحاول دكاش رصد أحوال المرضى السجناء، ومشاعرهم تجاه الحياة داخل هذه الأسوار، وتجسد هذه المشاعر والأفكار في عمل مسرحي يتم عرضه أمام المسؤولين وأهالي السجناء، في محاولة لإقامة جسر تواصل بين العالم الخارجي والمسجونين، ورؤية جوانب أخرى خفية منهم، ما عدا كونهم مرضى مرتكبي جرائم، لكن هذه المرة مختلفة عن سابقيها.

فقد أتاح الفيلمان السابقان للمسجونين التعبير عن مشاعرهم تجاه طفولتهم، وما دفعهم لارتكاب جرائمهم، ومشاعرهم تجاه السجن، ورؤيتهم للمستقبل والعالم الخارجي بعد انتهاء محكوميتهم، بالإضافة إلى مشاعرهم نحو العلاج بالدراما والعمل المسرحي، إذ مارسوه لأشهر طويلة مع المخرجة/ المعالجة، وكيف أثر ذلك على أفكارهم ووجدانهم، ونتجت عن عملها هذا مسرحيات تحمل أسماء هذه الأفلام،

كما سلطت دكاش في فيلم (يوميات شهرزاد) الضوء على العنف الذي يمارسه المجتمع على المرأة منذ طفولتها، مما يدفعها للبحث عن الخلاص، حتى لو عن طريق إيذاء نفسها، وإيذاء الآخرين.

في هذا الفيلم، ترصد دكاش كواليس العمل المسرحي "جوهر في مهب الريح"، الذي يرتكز على حياة سكان "البيت الأزرق"، ونظراً لصعوبة قيام هؤلاء المرضى بالتمثيل طرحت دكاش على السجناء العاديين تجسيد شخصيات زملائهم على خشبة المسرح، وبالتالي أصبحوا مطالبين بالانفصال عن شخصياتهم ومشاكلهم، والتوحد مع مشاعر زملائهم.

ومن ثم توزعت مشاهد الفيلم بين أحاديث قليلة مع المرضى لا تعطينا سوى شذرات قليلة عن حياتهم قبل السجن وداخله، ولا تمنحنا رؤية شاملة عميقة عنهم، مثلما حدث في الفيلمين السابقين.

وهناك مقابلات أخرى مع المسجونين العاديين، الذين يجسدون شخصيات زملائهم المرضى في العرض المسرحي، يتحدثون فيها عن رؤيتهم لهؤلاء المرضى والعلاقة التي تربطهم بهم، وثمة مقابلة تستعرض الكواليس والتدريبات بشكل أكثر طولاً وتكراراً مما يتحمله الفيلم.

أفقد هذا التشتت الفيلم الكثافة الشعورية وعمق الرؤية.

أفقد هذا التشتت الفيلم الكثافة الشعورية وعمق الرؤية التي تحققت في الفيلمين السابقين، وجعلتنا نتفهم هذه الشخصيات ودوافعها، ونتماهى مع قلقها وغضبها وحزنها.

ساهم في ذلك أيضاً عدم السماح للمرضى المسجونين بحضور العرض المسرحي، ورؤية شخصياتهم يجسدها آخرون على الخشبة، بسبب قواعد السجن التي تمنع اختلاط المسجونين المرضى بالسجناء العاديين، رغم حضور بعضهم للبروفات، وأثناء تجهيز الشخصيات، وبالتالي لم تكن هناك أي نافذة على مشاعرهم تجاه العمل المسرحي، ورؤيتهم لشخوصهم بتفاصيلها على المسرح، وتأثير ذلك عليهم.

ومع ذلك هناك مشاهد إنسانية تتفجر بالمشاعر، مثلاً عندما تخبر المخرجة أحد هؤلاء المرضى بأن هناك من سيقوم بتجسيد شخصيته على المسرح، فيبتسم في مرح طفولي، ومريض آخر أعطته المخرجة دور مساعد المخرج، فيقوم بحضور البروفات، ويدلي برأيه بخجل ممزوج بالبهجة.

تبرز هذه المشاهد مدى عوز هؤلاء المرضى للاهتمام الإنساني، الذي يجعلهم يشعرون بأهميتهم وقيمتهم كبشر، وليس مجرد جثث تتنفس بمعزل عن الحياة والعالم، في انتظار اللا شيء.

مشروع فني وإنساني

رغم مشكلات الفيلم الفنية، يعد لبنة مهمة في مشروع زينة دكاش للعلاج بالدراما والمسرح والتوثيق له من خلال أفلامها التسجيلية. وهو مشروع اجتماعي خدمي يهدف إلى تسليط الضوء على المسجونين في سجون لبنان، ليس كمرتكبي جرائم، بل كبشر يستحقون النظر إليهم من زوايا أخرى أكثر إنسانية، والدفع نحو مساعدتهم في محبسهم أو في خروجهم منه أو في التأقلم مع العالم الخارجي بعد الإفراج عنهم.

ساهم هذا المشروع الذي بدأته دكاش كمعالجة في سجن رومية عام 2006، في تحسين وتفعيل بعض قوانين العقوبات اللبنانية، مثل: تخفيف العقوبة عن السجين في حالة ثبوت حسن سلوكه، كما تعمل حالياً على مشروع تغيير القانون الخاص بالمرضى العقليين والنفسيين داخل السجون اللبنانية.

أصبحوا بشراً محكوماً عليهم بالسجن مدى الحياة. بمجرد دخولهم إلى هذا المبنى انقطعت صلاتهم بالعالم الخارجي إلى أجل غير مسمى

كذلك تمكنت دكاش من مساعدة كبار السن الذين قضوا سنوات طويلة في (البيت الأزرق) من الخروج منه، والعيش في دور رعاية للمسنين.

تحمل أفلام دكاش التسجيلية عن المسجونين بصمة إنسانية عالمية، بحيث تتيح للمشاهدين أينما كانوا التعاطي معهم كبشر لهم احتياجات ومشكلات وأزمات إنسانية واجتماعية وليسوا مجرد مجرمين يقضون عقوبتهم داخل أسوارهم العالية، كما أنهم يمتلكون طاقة إبداعية يمكن استغلالها وتوجيهها نحو إعادة اكتشاف ذاتهم والعالم من حولهم، وكيفية العيش فيه من جديد دون خوف من المستقبل أو الخوف من نظرة الناس إليهم كمدانين سابقين.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard