شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حكايات أمي عن الجّن والضِّباع قبل النوم كانت ترعبني

حكايات أمي عن الجّن والضِّباع قبل النوم كانت ترعبني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 22 أكتوبر 202110:34 ص

الحكايات الشفهية التي تُروى بهدف التسلية والمتعة غالبيتها، إنْ لم تكنْ كلها، تحمل رسائل أخلاقية أو اجتماعية أو دينية أو سياسية أو ما شابه، وتعكس الحكايات التي يتم تناقلها من جيل إلى جيل في كل بلد جزءاً من ثقافة هذا البلد وعاداته وتقاليده، وقد تحوي كثيرٌ منها دلالات على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي وغير ذلك لهذا البلد.

هناك حكايات خاصة لكل مدينة أو منطقة ضمن البلد الواحد، وبالطبع هناك أسباب دينية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية وغير ذلك ساهمت في خلق الحكايات ودعَمَتها لتبقى متداولة حتى الوقت الراهن، ويكمن القول إن الأسباب الآنفة الذكر ذاتها ساهمت أيضاً في اختفاء واندثار بعض الحكايات.

تبدّل كلمات وشخصيات

من مدينة إلى أخرى ضمن البلد الواحد، ومن منطقة إلى أخرى ضمن المدينة الواحدة قد نرى اختلافاً في بعض الكلمات وأحياناً الشخصيات في الحكاية نفسها، ويعود ذلك لأسباب كثيرة منها جغرافية. فعلى سبيل المثال، سكان المدن الساحلية لو كانت لديهم الحكاية الشفهية ذاتها مع سكان المدن الصحراوية، سيستخدمون في حكايتهم كلمة شجرة برتقال بدل نخلة، وبحر بدل واحة وما شابه. والعكس صحيح بالنسبة إلى سكان المدن الصحراوية.

وهناك أسباب دينية وسياسية وأخلاقية وثقافية تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تغيير بعض الكلمات والشخصيات أيضاً في الحكاية ذاتها، فالمنطقة أو المدينة التي تخضع مثلاً للدين والسياسة قد تحذف شخصية من الحكاية يمكن إسقاطها على شخصية حقيقية في المؤسستين السياسية أو الدينية.

ويلعب الراوي دوراً بوجود بعض الاختلاف بين حكاية وأخرى فقد يُضيف ويحذف بعض الكلمات لأسباب متعلقة بثقافته وأخلاقياته وانتمائه ولأسباب متعلقة أيضاً بظروف المنطقة التي يعيش فيها.

معظم الحكايات التي كنتُ أسمعها في طفولتي كان يرويها لي والدايَ ولم يكن الهدف منها جعلي أنام، فأبي كان قادراً على جعلي أذهب إلى النوم بكلمة واحدة "عَ النوم"، وبالطبع كنتُ أنفّذ أمره بسرعة البرق، لذا كانت حكاياته لي من باب التسلية ولأسباب تخصّه، وكنتُ أستمتع بها للغاية، أو للدقة كنتُ أشعر بالاهتمام لأنه خصص لي بعضاً من وقته.

أكثر حكاية كررها والدي على مسامعي كانت عن التحدي بين أمريكا واليابان. ربما هو مَن اخترعها، لأنه لم يروِها لي طوال حياته إلا بعد أن اشترى سيارة "بيك أب" يابانية الصنع، أو ربما أحد ما رواها له، ومع شرائه للسيارة تذكرها وقام بحكايتها كما يحلو له، مضيفاً لها شيئاً من مخيلته.

تقول الحكاية: قامت أمريكا بتحدي اليابان، فأرسلت لها خيطاً يحتاج إلى مجهر كبير كي يُرى طالبةً منها أن تصنع مثله، فقامت اليابان بإعادة الخيط ذاته إلى أمريكا بعد أن ثقبته بشكل حلزوني. بعدها قامت اليابان بتحدي أمريكا فأرسلت لها سيارة حمراء وطلبت منها الإمساك بها وحين وصلت السيارة إلى شوارع أمريكا قامت الشرطة الأمريكية بمطاردتها ومحاصرتها في أحد الشوارع، فقام سائق السيارة بالضغط على أحد الأزرار وإذ تتحول السيارة إلى مروحية والسائق إلى طيار، حينها أرسل الأمريكيون سرباً من الطائرات استطاع محاصرة تلك المروحية، فضغط الطيار على أحد الأزرار فهوت المروحية باتجاه البحر متحولةً إلى غواصة وعادت إلى اليابان.

كان أبي يروي تلك الحكاية بفخر واعتزاز وكأنه أحد سكان اليابان الأصليين، وبالطبع لا ينسى أن ينوّه في نهاية الحكاية إلى أن سيارته "البيك أب" يابانية الصنع.

بعد أن كبرتُ، أصبحتُ أحكي هذه الحكاية أمام الآخرين بهدف التسلية والضحك، وفي إحدى المرات أخبرني شخص يتحدر من قرى حلب أن جده رَوَى له حكاية مشابهة عن التحدي والمنافسة ولكنها كانت بين روسيا وألمانيا فازت فيها روسيا، وبالطبع كان موضوع التحدي مختلفاً عمّا رواه أبي.

حكايات أمّي

حكايات أمي التي كانت ترويها لي، قبل النوم أكثر الأحيان، كانت مختلفة من حيث الموضوع والهدف عن حكايات والدي. كانت كلها تقريباً مرعبة والهدف منها ليس تسليتي أو جعلي أنام، بل تخويفي وتهديدي بإحدى شخصيات الحكاية المخيفة في حال لم أستجب لما تطلبه مني: كالاستحمام والقيام بواجباتي المدرسية وعدم مغادرة المنزل وما شابه.

لكي تؤكد لي والدتي عَظَمة وقوة البسملة، رَوَتْ لي حكاية عن رجل كان عائداً ليلاً إلى منزله وفي أحد الوديان رأى فتاة عارية بشعر أسود طويل تستحم قرب نبع ماء، فاقترب وسألها لماذا تستحم ليلاً ولوحدها؟ فقالت: أرجوك لا تلفظ البسملة وسأخبرك...

معظم حكايات أمي تبدأ بجملة "كان هناك طفل لا يستمع لكلام والدته"، وبما أنني كنت مشاكساً ولا أستمع لها وأخرج كل يوم تقريباً من المنزل ولا أعود إلا مع بداية المساء، قامت في إحدى الليالي بسرد حكاية لي بعنوان "الطفل المضبوع".

تتحدث الحكاية عن طفل يخرج كل يوم من المنزل ليلعب مع أطفال القرية دون أن يُخبر أمه، وأثناء عودته مساءً كانت الضبعة (أنثى الضبع) تجلس في وسط الطريق وعلى ظهرها أولادها يرضعون من أثدائها الخمسة الموجودة على ظهرها، وحين رأت الطفل أنزلت أطفالها واختفت أثداؤها، ثم نظرَت إليه فضبعته، والمقصود بضَبَعتهُ أنها مارست عليه نوعاً من السحر جعله عاجزاً عن الحركة، وبعدها قامت الضبعة بالتبول أمامه، وهذا يُعتبر نوعاً آخر من السحر يرغم الشخص على المشي وراءها إلى حيث تريد.

حاول الطفل أن يصرخ لكن صوته لم يخرج. نظرَت إليه الضبعة فرأى لون بؤبؤ عينها الأحمر، ثم مَشتْ فمَشى خلفها رغماً عنه وحين وصلا إلى جبل بعيد اختفت الضبعة لبضع ثوانٍ... وفجأة أحس بأن هناك حركة خلفه وحين التفتَ رآها على بعد سنتيمترات منه حيث فتحت فمها وابتلعته دفعة واحدة.

كان الهدف الوحيد لأمي من هذه الحكاية هو ألا أخرج من المنزل وألعب وأوسخ ثيابي فتضطر إلى غسلها كل يوم. ليلتها شعرت بالرعب وسألتها هل الضبعة تخرج في النهار؟ فأجابت: تخرج في كل الأوقات والفصول بحثاً عن أطفال تأكلهم.

هناك حكايات خاصة لكل مدينة أو منطقة ضمن البلد الواحد، وبالطبع هناك أسباب دينية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية وغير ذلك ساهمت في خلق الحكايات ودعَمَتها لتبقى متداولة حتى الوقت الراهن

بقيتُ حوالي أسبوع لا أغادر المنزل، ورأيتُ في منامي الضبعة أكثر من مرة وكنتُ أستيقظ قبل أن تبتلعني، ولكنني بعدها ورغم خوفي مما قد تفعله الضبعة بي خرجتُ لأنني بدون اللعب والتواصل مع أقراني كنتُ أكثر خوفاً ووحدة وألماً.

في ما بعد سمعتُ حكاية الضبعة من أكثر من شخص في الساحل السوري ينتمون إلى مناطق جغرافية وثقافية واجتماعية ودينية مختلفة. بالطبع حكاياتهم لم تكن متشابهة ولكن كان هناك شيء واحد مُشترك فيها هو أنَّ الضبعة تُمارس نوعاً من السحر على البشر يجعلهم تابعين لها.

خيال وإبداع

في سن مُبكرة كان والداي يحرصان على تعليمي كثيراً من العادات والتقاليد والأخلاقيات الدينية والاجتماعية، منها البسملة قبل الطعام وشكر وحمد الله بعده، على أساس أن البسملة تجعل الطعام وإنْ كان قليلاً يُشبعني وتمنع الشيطان من أنْ يشاركني فيه، وشكر الله وحمده يعودان بالخير عليّ، وكانت أمي تؤكد لي بأن البسملة لها قوة إلهية خارقة ويجب أن أقولها قبل القيام بأي شيء، لكنني كنت أنساها دوماً.

في إحدى الليالي، ولكي تؤكد لي عظمة وقوة البسملة، رَوَتْ لي حكاية عن رجل كان عائداً ليلاً إلى منزله وفي أحد الوديان رأى فتاة عارية بشعر أسود طويل تستحم قرب نبع ماء، فاقترب وسألها لماذا تستحم ليلاً ولوحدها؟ فقالت: أرجوك لا تلفظ البسملة وسأخبرك بكل شيء. وبالفعل أخبرتهُ بأنها من الجن وأنها تستحم لأن هناك عرساً ستحضرهُ، ويمكنها اصطحابه معها بشرط ألا يلفظ البسملة، فوافق واكتشف في العرس أنّ العروس تردي فستاناً يشبه فستان زوجته فأشعل سيجارة وقام بحرق طرف فستان العروس، وأثناء الحفل سقط شيء ما وأصدر صوتاً مخيفاً جعل الرجل بتلقائية يلفظ البسملة فاختفى الجميع.

حين عاد إلى المنزل، أخرج فستان زوجته من الخزانة ورآه محروقاً من طرفه، وعَلِمَ بأن عروس الجن استعارت فستان زوجته، وأنّ ما رآه كان حقيقة لا مجال للشك فيها.

كانت هذه الحكاية واحدة من أكثر الحكايات رعباً بالنسبة إليّ، لكنني الآن أراها كجنس أدبي فيه كثير من الخيال والإبداع متمنياً لو أن الشخص الذي اخترعها استخدم خياله للحديث عن طقوس الجن وعاداتهم وتقاليدهم في الأفراح بدلاً من أن يجعل هدف الحكاية إثبات قوة البسملة.

ذكر لي شخصان أحدهما من مدينة الرقة والآخر من إحدى قرى مدينة حماة السوريتين أنهما سمعا الحكاية نفسها، ولكن النهاية كانت مختلفة حيث قال الأول: إنَّ الرجل لم يلفظ البسملة وبعد انتهاء الحفل تزوج فتاة الجن التي رآها، والثاني قال: إنَّ الرجل رأى زوجته في الحفل فلفظ البسملة واختفى الجميع إلا هي، وحين نظر إليها متسائلاً عن سبب وجودها، أخبرته أنَّ أمها كانت جنيةً ووالدها آدمي لذلك لم تتأثر بالبسملة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard