شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الساخران السوريان لوقيانوس والماغوط في العالم السفلي

الساخران السوريان لوقيانوس والماغوط في العالم السفلي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 16 أكتوبر 202112:57 م

الفارق الزمني بين الكاتبين ما يقارب 1800 عام، على اعتبار أن لوقيانوس ولد عام 125م، أما الفارق المكاني بينهما فهو مئات الكيلومترات لا أكثر. اشترك الكاتبان في مغامرة الهبوط إلى العالم السفلي ومحاكمة واقعهما بسخرية على لسان الموتى، في كتاب لوقيانوس "مسامرات الأموات" وكتاب الماغوط "غرام في سن الفيل"، وهما شخصيتان عرفتا بالأسلوب الساخر وبالقليل من الجد.

سيرة الكاتبين بين التشابه والمفارقة

الكاتبان من خلفية عائلية فقيرة. ترك لوقيانوس المدرسة مبكراً وزُجّ به ليعمل نحاتاً، بحسب كتاب من "أعمال لوقيانوس"، لسعد صائب ومفيد عرنوق، ولكنه ترك العمل، ولا نعرف إلا تخميناً أنه تعلم اللغة والبلاغة اليونانية في مدارس سميساط ومدينة في آسيا الصغرى تدعى ايونيا. امتهن المحاماة في أنطاكيا ثم تركها إلى أثينا ليعمل بمهنة السفسطائي، وهم خطباء ذلك العصر، يتنقلون بين المدن بخطبهم أمام الأغنياء فيجنون مالاً وشهرةً.

ترك الماغوط المدرسة مبكراً، بحسب كتاب "محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي" لجان دايه، وتلقى ثقافته الفكرية الأولى في الحزب السوري القومي الاجتماعي وعقيدة مؤسسه أنطون سعادة، وخالط فيه مثقفي عصره الكبار من قوميين وسواهم.

كانت بواكير مقالاته في جرائد ومجلات دمشق وبيروت القومية أو المتعاطفة مع الحزب (الجيل الجديد، الدنيا، الجندي/ الدمشقية) أو (النهضة، الأحد، الأجيال، الزوابع/ اللبنانية) لينطلق بعدها بشهرته إلى جرائد ومجلات تجمع مثقفي عصره بكل توجهاتهم، مثل النقاد والآداب.

نعرف بداية الماغوط الأولى في مجلة الدنيا الدمشقية  29أيلول 1950، وله من العمر 16 عاماً، في مقال "ذكراك في قلبي إلى الأبد"، مخاطباً فيها أنطون سعادة الذي أعدم عام 1949، محدداً انتماءه لعقيدة واضحة ومتحملاً متاعب الإيمان بعقيدة لها خصومها وأعداؤها، في عالمٍ عربيٍ مترعٍ بعنف الصراعات السياسية والفكرية في ذلك الوقت.

أمّا لوقيانوس فبدايته كانت في عمل السفسطة، وكانت موزَّعة متميّعة بين العقائد، وكان مستغلاً لثقافته الواسعة وبلاغته في اللغة "اليونانية"، لكنه اعتزل السفسطة نهائياً في الأربعين من عمره، وتوجّه إلى الفلسفة، وخاصة الجانب الأخلاقي العملي لكشف قناع الرذائل وجعلها أضحوكة بين الناس.

الفارق الزمني بين كتاب لوقيانوس "مسامرات الأموات" وكتاب الماغوط "غرام في سن الفيل" ما يقارب الـ1800 عاماً. أما الفارق المكاني بينهما فهو مئات الكيلومترات لا أكثر. وقد اشترك الكاتبان في مغامرة الهبوط إلى العالم السفلي ومحاكمة واقعهما بسخرية على لسان الموتى

الذي انطلق منه الماغوط مراهقاً وخفّف منه متأخراً، وصل إليه لوقيانس متأخراً وتشبّث به حتى نهاية حياته، أي الإيمان بفكرة واضحة والدفاع عنها وبأسلوب السخرية.

مقدمة للكتابين

في مقدمة المترجم إلياس سعد غالي، يحدثنا أن لوقيانوس كتب "مسامرات الموتى" في أثينا بعد اعتزاله السفسطة، وجاءت هذه المحاورات في 26 حواراً، وبطله الرئيسي شخصية الهجّاء السوري مينيب، وهو البطل المفضل في بعض مؤلفات لوقيانوس، والسبب يكمن في شخصية مينيب نفسها التي كتب عنها سهيل رستم في كتابه "سوريون في التاريخ"، فهو شاعر وفيلسوف من مدينة جدرة في الأردن، ولد عام 280 ق.م. كان عبداً ثم تحرّر ودرس الفلسفة معتنقاً الفلسفة الكلبية. كتب مينيب الشعر الهجائي اللاذع، ووضع فيه الآلهة على المسرح، وتناول حماقات الناس وخاصة الفلاسفة، فدُعي "أبو الأدب الرخيص".

بحسب دراسة جان دايه في كتابه "محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي"، نشر الماغوط روايته "غرام في سن الفيل" على شكل حلقات في جريدة البناء البيروتية، وكانت البداية في 8 أيلول 1959، تحت اسم سومر وليس شيبوب.

وهما الاسمان اللذان اعتمدهما الماغوط لنشر مقالته بعد مقال "خونة وأبطال"، حيث سخر في مستهله من ماركس ولينين ومحمد عبد المطلب بضربة واحدة، وكان يقصد المطرب وليس النبي، ولكن القيامة قامت عليه باعتباره يسخر من النبي، وصلت القضية إلى القضاء، فحُكم بالسجن والتغريم.

كان عمر الماغوط 25 عاماً عندما كتب روايته، وجاءت في مقدمة وثلاثة فصول، وفي الفصل الثالث، وهو الأطول في عدد مقالاته، تسعة مقالات، أرسل بطله سومر إلى العالم السفلي.

لم يقدم لوقيانوس لعمله بعكس الماغوط الذي ذكر في المقدمة أن رئيس التحرير (إنعام رعد، في ذلك الوقت) طلب من سومر أن يتخلص من "أجواء العنف والقتال"، ويحلق "كطائرة الهليكوبتر في عالم الأدب الساخر"، واستجاب لطلب رئيس التحرير لأنه "اكثر صرامة من ماك أرثر"، رغم تمزقه "لوعة على فراق الاستاذ أحمد سعيد والإذاعات المصرية".

ووعد قرّاءه بقصة غرام مثيرة كالتي تحدث ما بين الريفيرا وباريس وجنيف، ولكنها بين سن الفيل وبرج حمود والداكونة، وأنهم سيسمعون مثيل كلمات الغزل والشوق التي تقال على شواطئ مونت كارلو، ولكن غزلياته ستكون في ساحة البرج وسرافيس سن الفيل الشاهدة على الشتائم وشد الشعر بينه وبين حبيبته، وأنه سيزيد من الحرب الباردة، وتكون مترعة بمشاهد العنف والدم، محاولاً خلق صراع بين شخصياته كل خمس دقائق، "لأن على القتال وضرب البوكس من أجل أتفه الأسباب، تنهض الأمم، وتصعد بالأسانسور إلى قمم المجد والسجون!!".

كانت فكرة الهبوط إلى العالم السفلي طبيعية في عصر لوقيانوس، لأن فكرة الجنة والنار لم تكن قد وجدت، وأما الماغوط فقد استغل تلك الفكرة التاريخية ثقافياً، ليتجنب محاكمات الجنة والنار، ويتجنب معها ردود فعل كانت بالتأكيد ستكون بنتائجها أقسى من الإشارة إلى محمد عبد المطلب.

كان الماغوط سيداً من أسياد النكتة في عصره بأسلوبه الخاص، ويستطيع الماغوط بروايته "غرام في سن الفيل" أن ينتزع القهقهة والدموع حتى من الحزين في مأساتنا في سوريا الضائعة

مينيب لوقيانس

نعثر على مينيب في 11 محاورة مع الموتى والآلهة، ستجد بين محاوريه الذين يسخر منهم فلاسفة، مثل سقراط وفيثاغورث وأفلاطون وأرسطو وفيلسوف ما (رمزياً)، أو ملوك موتى، مثل كارون، آخر ملوك ليديا المعروف بثرائه الفاحش، أو تانتالوس ملك ليديا، وكان غنياً.

فأراد أن يختبر الآلهة فأطعمهم لحم أبنه، فعاقبه جوبيتر بالجوع والعطش وإلقائه في دركات الجحيم، وسط ماء يصل إلى شفته ويهبط كلما حاول الشرب، أو سردنبال الذي ضرب المثل فيه في عصر لوقيانوس في الخلاعة والتخنّث والانغماس في الملذات، أو أسماء وهمية لشخصيات من متملقي العجائز الأثرياء ولكنهم ماتوا قبل العجائز، أو حديثه مع الآلهة، مثل هرميس ناقل الأرواح، وخارون ناقل الموتى بقاربه.

أما بقية الحوارات فيستنطق فيها لوقيانوس شخصيات أخرى يحبها، مثل الفيلسوف ديوجين، ساخراً من الإسكندر المقدوني، أو حوارات ساخرة بين أبطال حرب طروادة وأفعالهم الفارغة في الحرب الشهيرة.

سومر الماغوط

سومر عضو مسيّس في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ورافض للوحدة السورية المصرية. يعشق سومر نفلة التي تحيا في سن الفيل، ونفلة محتارة بين حبيبها وأمها القوية التي تكره سومر. ظمخ نشال مصري وسياسي ناصري، يصر سومر على استجوابه حول رغبة مصر بالوحدة مع سوريا ويماطل ظمخ. يحاول ظمخ إثارة إعجاب نفلة التي تتعاطف مع استجدائه لعدم البوح بسر الوحدة المرعب، والذي يظهر في ما بعد أن تاجراً سورياً فتح محل شاورما في مصر.

فكانت الأعداد التي تشم الرائحة أمام المحل أضعاف من يستطيع الشراء، فأصبحت الوحدة مطلباً جماهيرياً. تعثر أم نفلة، وبمساعدة عشيقها ظمخ، على سومر وابنتها الهاربين، فتطلق النار على سومر ويذهب إلى العالم السفلي حزيناً لأنه "سيموت ويبقى أحمد سعيد وخالد بكداش، ولن يستطيع أن يأكل شيئاً بعد اليوم".

لوقيانوس ساخراً

اعتمد لوقيانوس أسلوب الحوار بين شخوصه وبدون تسلسل منطقي، فهو لم يبدأ بنزول مينيب إلى العالم السفلي وما صادفه من شخصيات، وجعل الآلهة أيضاً تتمتع بحس الدعابة. بدأ الحوار بشكوى قارون الحزين على أمواله، وسردنبال الحزين على ملذاته، إلى إله العالم السفلي بلوتون لمرافقة مينيب لهما وسخريته من أحزانهما. يعاتب الإله بلوتون مينيب على سخريته، فيجيبه مينيب: "أجننت أيضاً يا بلوتون حتى توافقهم على انتحابهم؟"، يرد بلوتون: "كلا، بل أود أن أراكم متخاصمين".

نرافق مينيب العاري هابطاً إلى العالم السفلي ومتقدماً الموتى بسعادة، فيرحب به هرميس. يتخلص الموتى من زوائدهم، فالقائد الذي دفن مع سلاحه يتخلى عنه، والجميل يتخلى عن جماله، والمصارع يتخلى عن عضلاته. يأتي دور الفيلسوف. يتدخل مينيب ليساعد هرميس باعتباره خبيراً بالفلاسفة، فليس الملابس فقط ما يجب أن يخلعه، بل حب الجدل والجهل والتوريات والمواربات العقيمة والشغف بالملذات والرخاوة، يستجيب الفيلسوف، فيحتج مينيب على لحيته لأنها ثقيلة، ولكن من يجزّها؟

كتب الماغوط في روايته قصة سوريا المعاصرة التي تتنازعها القوى الخارجية، متبنياً قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي، وساخراً من خصومها وأعدائها بطريقة مبتكرة لا اصطناع فيها، وهي سخرية لا توفر صاحبها فكيف توفر الأصدقاء

يطلب هرميس من مينيب أن يجلب فأساً، ولكن مينيب يريد منشاراً لأن ذلك أدعى للتسلية. بقي مينيب متأملاً، فما زال الفيلسوف ثقيلاً، ويقول: "التملّق يا هرميس". يحتج الفيلسوف أن على مينيب أن يتخلى أيضاً عن عزة نفسه وضحكه، يرد هرميس: "لا فهي مفيدة في الرحلة"، وبالتالي يكتشف هرميس أن الفيلسوف ما زال يحمل البيان والمطابقات والاصطلاحات. يبكي الفيلسوف، فيسأله هرميس السبب، فيقول الفيلسوف: "لأني كنت أعتقد يا هرميس أن النفس خالدة".

يتشاجر مينيب وخارون الذي يطالبه بثمن نقله بالقارب مع الموتى (وهو العرف السائد في ذلك الوقت) فيحتج مينيب متسائلاً: "أ كان من الواجب ألا أموت بسبب ذلك؟"، فهو عاش شحاذاً. يرد خارون: "إذن أنت وحدك ستفتخر بأنك عبرت مجاناً". يرد مينيب: "لا تقل مجاناً أيها الطيب، فقد أفرغت الماء من الزورق وجذفت معك، وأنا وحدي دون سائر الركاب لم أبك".

يلتقي مينيب في أثناء تجواله بفيثاغورس ويناديه: "السلام عليك يا أوفورب أو أبولون أو من تشاء!"، غامزاً من معتقده في التناسخ. يسأله فيثاغورث إن كان معه ما يؤكل، فيرد مينيب: "الفول يا عزيزي، غير أنه ليس من مأكلك"، ساخراً من تحريم فيثاغورث الفول على أتباعه، فيعترف فيثاغورث أن آراء المرء تتغير في دنيا الموت.

يقابل مينيب سقراط الذي يسأله ماذا يقولون عنه؟ فيخبره مينيب أنه سعيد الحظ لأنهم ما زالوا يرون فيه رجلاً عجيباً عارفاً بكل شيء رغم أن مينيب يراه ما كان عارفاً بشيء. يرد سقراط: "هذا ما كنت أنا بنفسي أقوله لهم. وأما هم فقد حسبوه هزلاً".  

الماغوط ساخراً

يدفن سومر، مثل "التكميل وروزفلت ولويس الخامس عشر ومثل كل علماء الفلك والتاريخ"، والتكميل لبناني أعدم بعد إدانته بجريمة قتل بعيد أحداث 1958. يقابل عزرائيل الذي يدخن لوكي تهريب، فيستجوبه عزرائيل ويطلب سومر سيجارة منه. يرفض عزرائيل، فيتوعّده سومر بطبق من البفتيك يأتيه قريباً ولن يدعه يتذوقه، يعترف عزرائيل برغبته بمعرفة سر هذا الطبق الذي يتردد في زاوية ساخرة لرجل اسمه سومر في الصحف. ينظر الماغوط إليه نظرة صحفية ويبتسم، فيتعارفان ويتعانقان، ويسمح له بالتجول بحرية ويودعه لأعمال طارئة في القاهرة.

كانت فكرة الهبوط إلى العالم السفلي طبيعية في عصر لوقيانوس، لأن فكرة الجنة والنار لم تكن قد وجدت، وأما الماغوط فقد استغل تلك الفكرة التاريخية ثقافياً، ليتجنب محاكمات الجنة والنار

يقابل سومر ستالين ويخبره مستفزاً كيف شتمه رفاقه وحطموا تماثيله، فيبكي ستالين ويطالبه بأسماء الفاعلين، يطيب سومر خاطره برفع الكلفة: "يا سوسو، إن ما تم بناء على أوامر خروتشوف الذي جرب أن يكون الإرهاب واضحاً وجريئاً ويتجاوب مع رغبات الشعب وليس سرياً"، ولكنهم ندموا وحاولوا أن يعيدوا له هيبته، فيغضب ستالين على المتلاعبين بمقدرات الإرهاب، ووسط غضب ستالين يسأل سومر عن أحوال إسرائيل لأنه مشتاق إليها.

يلتقي سومر بيتهوفن، وفي طريقه يعترضه المتنبي ليبعث معه رسالة إلى يوسف الخال، فيرفض سومر لأنه على عجلة. فيكون الحوار مع بيتهوفن سخرية لاحتلال مصر العسكري للأغنية العربية، وتوظيفها لقضايا مصر وتخدير الناس بحماسات فارغة تحت توجيه من وزارة الدفاع، وأن كل فضول بيتهوفن يجيبه عليه المذيع أحمد سعيد.

يحتج بيتهوفن مستغرباً: "من أحمد سعيد؟، أليس من موسيقي خالد من بعدي". فيخبره سومر بعد صفعة غاضبة من بيتهوفن أن الموسيقار برهان أدهم (من رجالات المخابرات في سوريا) ألف قطعة تدعى "رقصة الشعب في المزة"، رقي رتبة بعدها لأنه دمج الفالس مع المامبو.

يعود للقاء ببيتهوفن ويفقعه خطاباً يخلط فيه الماغوط الموسيقى بكل قضية تخطر بالبال، فشعبية عبد الحليم مرتبطة بقضية الترانزيت، ومحمد قنديل الذي يشق طريقه كتركتور في عالم الفن، ويرفض احتجاج الشعوب ضده، للجامعة العربية، وكارم محمود يغني على الصعيد السياسي بدون ضجة على مستوى السفارات والقنصليات، والحكومات صامتة على أساس أن الفن للفن، ولكن الحكومات فضلت أن تشن حملة على الفنانين السوريين واللبنانيين، فالجماهير توافق مئة بالمئة على وجهة نظر الجمهورية المتحدة.

يقول سومر: "إن الصحف في العالم السفلي علقت على خطابه أنه أتفه حديث ظهر للآن عن الفن العربي، لكن بيتهوفن كان سعيداً به جداً".

يلتقي سومر مع هتلر الذي يسأله عن أخبار العالم بعد حربه العالمية، فيسرد سومر له فعلة ستالين وكيف لطش منه قداحة رونسون ينقصها حجر أهداه إياها خالد قطمه (رفيقه في الحزب)، رغم أن سومر أخبره أنه كان ينوي تقديمها لهتلر، لا بل إنه شتم هتلر واتهمه بأنه من أشعل الحرب العالمية الثانية. يسخر هتلر من سومر بأنه لا يلقي تبعات أعماله على الآخرين كالشيوعيين، ولا يخاف حتى من التكميل.

بسبب شوق سومر إلى نفلة، يفتعل فتنة بين ستالين وهتلر ومشاهير العالم السفلي، كاتباً على جدران العالم عبارات تستفزهما، ويتصل بكل منهما ناقلاً لشتائم مختلقة، بل ويتصل ببتهوفن ويخبره أن سيد درويش يتهمه بالتفاهة وأن موسيقاه كانت السبب في تأخر زراعة القطن.

يسود الهرج والمرج في أنحاء العالم السفلي، ويلبس عزرائيل لباسه الرسمي الموشى بالقصب ويجول في الشوارع للسيطرة على الموقف. يضرب عن العمل ويتغنى بهم المتنبي شعراً حماسياً. يبحث هتلر عن ستالين ويتعاركان وسط تشجيع الكلبة لايكا التي أرسلها السوفييت إلى الفضاء، والتي اتهمت ستالين أنه كان يبصبص عليها من النافذة وهي بثياب النوم.

يستغيث ستالين بلايكا لتنقذه من سطوة هتلر، مذكراً إياها برابطة الدم ورابطة الكتاب العرب بلا فائدة، فيجلس على الأرض رافضاً القتال. يسود الصمت لقادمٍ جديدٍ، إذ به منالكوف الذي اغتيل أيام خروتشوف. فيستغيث به ستالين، ولكن منالكوف يسأل الجماهير هل نشنقه أم تريدون أن ننكت عليه.

تصرخ لايكا: "المشنقة"، وتندفع الجماهير لتشنق ستالين، ويلطش سومر ساعته وقلمه الباركر ومحرمته، مدعياً أنها للتحقيق. يلاحظ سومر "شرذمة قذرة من الشيوعيين" تطارده، فيهرب ويقترب من سطح الأرض ويستغيث ببني البشر ونقيب الصحافة وأدونيس (فهو عديل الماغوط)، ولكن الماغوط ينهي ملحمته بـ "وهنا جيت فايق"، فكان كل الذي سبق على حد تعبيره حلماً عسكرياً طويلاً.

لوقيانوس والماغوط ما لهما وعليهما

نظر لوقيانوس إلى حياة الناس من شاطئ الموت، ساخراً من أخلاقياتهم، وهو السر في اعتماده على الفيلسوف الكلبي ديوجين، ساكن البرميل. لم يدخل لوقيانوس في تفاصيل العالم السفلي ومداخله وطبقاته، كما فعل الشاعر فرجيل أو المعري الذي نقل بطله، ابن القارح، في رسالته المشهورة إلى الجنة وطاف به، أو دانتي الذي طاف الجحيم والمطهر والجنة وفق خطة لاهوتية مرسومة بدقة.

مسامرات لوقيانوس بسيطة التأليف بعكس المحاورات الساخرة في بقية أعماله. جاء الغمز من قناة الطغاة والملوك السابقين، بسبب الواقع الذي تحياه سوريا في عصره تحت حكم الأباطرة العسكريين الرومان الذين كان ينظر إليهم باعتبارهم آلهة.

فسوريا ومنذ عام 539 ق.م خسرت حكومتها المحلية مع سقوط الدولة البابلية لمصلحة الفرس الإخمينيين، ثم إسكندر المقدوني والدولة السلوقية التي استمرت لتاريخ 64 ق.م، ووقوع سوريا تحت النفوذ الروماني، فكانت الثقافات والمصالح الغريبة مهيمنة على الثقافة السورية ومصالح حياتها، ومن هنا نفهم مثلا سبب عدم توفيره السخرية من الإسكندر في حوارات متعددة.

رغم أن لوقياونس كان سفسطائياً في طريقة عرضه حواراته، ولكنه ما ضل طريق الصواب، ولم يداهن، ويستطيع أن ينتزع ابتسامة عريضة من قارئه المعاصر بطريقته المركزة في رمي خصومه وإصابة أهدافه بدقة.

كتب الماغوط في روايته قصة سوريا المعاصرة التي بالكاد نالت استقلالها، وتتنازعها القوى الخارجية، متبنياً قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي، وساخراً من خصومها وأعدائها بطريقة مبتكرة لا اصطناع فيها، وهي سخرية لا توفر صاحبها فكيف توفر الأصدقاء.

تخلو سخريته من الجوانب الفكرية العميقة، فحواراته مع ستالين أو هتلر أو بيتهوفن تلامس سطح الواقع وتصيب بعض أعماقه، ولكن من قال إن السخرية لا تكون إلا جدّية وعقلانية! فيجوز لساخر مثله إذا شعر بالوحدة في القبر أن يصف شعوره "بوحدة عربية قاتلة"، أو أن البحّة العسكرية في صوت سعاد حسني تشجّع التدخل الأجنبي.

أما سخريته من سبب الوحدة الاقتصادي التي لامست سطح المعضلة بطريقته، وهو الكاره للاقتصاد ومعالجاته، فهي لم تمنعه لاحقاً من كتابة قصيدة المنام، التي جعلها على لسان عبد الناصر الواقف على أطلال سوق الهال، متمنياً عودة الوحدة وقبلة من أكرم الحوراني.

كان الماغوط سيداً من أسياد النكتة في عصره بأسلوبه الخاص، ويستطيع الماغوط بروايته "غرام في سن الفيل" أن ينتزع القهقهة والدموع حتى من الحزين في مأساتنا في سوريا الضائعة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard