شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لماذا كل هذا الغضب والرعب من القبلة الفموية؟

لماذا كل هذا الغضب والرعب من القبلة الفموية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 12 أكتوبر 202101:08 م

في سهرة عائلية، وأمام الثالوث المحرّم، من دون سابق إنذار، يصاب أبي بالهلع المفاجئ، وكأن سخط العالم قد حل في تلك المنظومة الأسريّة، وينقضّ على الشيطان الصغير كما كان يسمّيه، ويخرسه بصفعة مدوية.

كان استيعابي للحدث العظيم بطيئاً، بحكم سنوات عمري، فالأمر يتطلب أن يهدّئ من روعي، حتى أدرك أن ذلك الهجوم الصارخ على الشاشة المستكينة، وتغيير المحطة، كان بسبب قبلة.

والقبلة، التعبير الأجمل عن الحبّ، لماذا كانت تصيب أبي بالهلع المفاجئ؟

في كل مشروع قبلة أمام العائلة، يبدأ قلبي بالخفقان بتوتر عالٍ، خوفاً من ردة الفعل الكارثية، وغير المبررة لذلك المشهد غير المألوف، فأذوب مع لهاث الأنفاس، وأنسلّ بخفة غير معهودة إلى جحر القنفذ، طلباً للأمان، حتى لا يرى أحد عري إثمي العظيم الذي لا أعرف ماهيته.

"كساندرا" وضعت أبي تحت الأمر الواقع، إذ كان من الجهل ألا يتابع هذا المسلسل الفنزويلي الذي كان بمثابة الثقافة الجنسيّة لجيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، في المجتمع الشرقي الرحب، إذ بدأت من خلاله، وبشكل عقلاني، في التفكير بالقبلة الفمويّة، وماذا تعني؟ ولماذا كل هذا الغضب والرعب من رؤيتها على الشاشة؟ وما الفرق بينها وبين القبلة العادية المتعارفة؟

من الفكاهيّ أن البشر في النصف الآخر من العالم، يعيشون مراحلهم العمرية بامتلاء، أما أنا، فأقبع في جحر القنفذ مشغولاً بالبحث عن معنى القبلة بشيء من الرهبة والرغبة... ولكن لا يهم، فأنا الولد الحباب، ولهذا سيكون العالم رحيماً بي

من الفكاهيّ أن البشر في النصف الآخر من العالم، يعيشون مراحلهم العمرية بامتلاء، أما أنا، فأقبع في جحر القنفذ مشغولاً بالبحث عن معنى القبلة بشيء من الرهبة والرغبة... ولكن لا يهم، فأنا الولد الحباب، ولهذا سيكون العالم رحيماً بي.

معلمي في المدرسة هو عرّابي الذي أفتخر به، وقد لجأت إليه، وكلّي ثقة بأن حكمته سوف تدلني إلى مبتغاي. رمقني بنظرة بلهاء تحوي الكثير من الحياء المصطنع، ثم أشاح بوجهه عنّي وهو يتفوّه بكلماتٍ مبعثرة، جاهدت بشوق عظيم لألتقطها: "ستفهم حين تكبر"... هل سأنتظر حتى أكبر؟ وما هو العمر المفترض الذي أكون كبيراً فيه؟

أتابع طريقي في البحث، فأذهب إلى بعض الأقارب البالغين المثقفين، لأسألهم عن ماهية القبلة الفموية، وتفاصيلها، وخاصةً عن سبب ميلان الرأسين جانباً عند افتعالها. بعضهم يلقي عليّ إجابات ساذجة، بطريقة استفزازية وعنصرية، إذ أخبرني مرة أحدهم، بأن "اليهود فحسب هم من يمارسون هذا النوع من القبل!"، أما غالبيتهم، فقد فقأوا عينيّ بنظراتهم التي توجه عادة إلى فاعل الإثم العظيم -وأنا الولد الحباب- ليرديني تائهاً في برزخ الوجود والعدم، فأعود صاغراً منبوذاً إلى جحر القنفذ.

الجدار كان بديلاً عن المرآة التي رفضت معاشرتها، حتى لا أرى وجهي وهو يهتك عذريّتي.

الذين يكنّون لي الاهتمام، كلهم تهربوا من الإجابة. هل هذا يعني أن من لا يعنيهم أمري سيكونون صادقين معي؟!

ولأن كل ممنوع مرغوب، اجتاحت ذلك الطفل حاجة ملحة إلى تذوقها.

الجدار كان بديلاً عن المرآة التي رفضت معاشرتها، حتى لا أرى وجهي وهو يهتك عذريّتي، فأنا الولد الحباب، وأصبحت أرى جدران البيت شفاه أنثى، أطبع فمي على ملمسها البارد، ولأوقات طويلة أبقى أتنفس رطوبة الجدار، ولعابي يمتزج بالعفن، وعقلي يتلاشى في لزوجة السوائل، إذ لا أريد سوى تجربة هذا الانسلاخ الذي يثير رعب أولياء الأمور.

شياطين مرتعدة تسكن قلبي الصغير... لكأنّي أراها ملائكة تطفو على الجدران من أثر الشفاه، لاهثةً تبحث عن حياة، ثم لا تلبث أن تنطفئ.

أهرع إلى المرآة، وأبصق على وجهي، لأمحو آثار ذنب لم أرتكبه، فأعود طاهراً إلى جحر القنفذ.

ذُهلت، عند تفتح براعم الشهوة في جسدي النحيل، بأن القبلة كانت مفتاح وجودي. وبحكم ثقافتي، أكاد أنظر إلى أقاربي نظرة قرف واشمئزاز، إذ هل من المعقول أنهم جميعاً يمارسون القبلة مع أزواجهن وزوجاتهم؟ هذا يعني أن جميعهم عرصات، ولكنهم لأسباب أجهلها يدّعون التديّن، والحشمة، والأدب.

لمَ هذا الخوف من أن يرى الطفل تلك القبلة؟ هل من المنطق أن يسقط الطفل الذي لم يتجاوز سنوات براءته الأولى، بين براثن الرذيلة، بمجرد أنه رأى قبلة؟ أم أن الأمر مجرد عادات وتقاليد غارقة في الخوف، واللا معنى، ومجهولة الدوافع والأسباب؟

بدأت أفكر في أنه إذا كان الأمر طبيعياً جداً، إذاً لمَ هذا الخوف من أن يرى الطفل تلك القبلة؟ هل من المنطق أن يسقط الطفل الذي لم يتجاوز سنوات براءته الأولى، بين براثن الرذيلة، بمجرد أنه رأى قبلة؟ أم أن الأمر مجرد عادات وتقاليد غارقة في الخوف، واللا معنى، ومجهولة الدوافع والأسباب؟

يخفي العالم الشرقي عن أولاده أي شيء يتعلق بممارسة الحب بين الزوجين، بحجة القيم والأخلاق النبيلة، إلا أنهم يلقون بهم إلى أحضان ثقافة الشوارع، والأفلام، لكي يتعلموا منها ما عجزوا هم عن إيصاله، فتلك المعايير الازدواجية التي يعيشها المجتمع الشرقي صنعت أشياء تشبه النساء والرجال.

أيام معدودة وتبدأ الشهوة بالثوران، فهل من العدل أن يبقى الإنسان غافلاً عن أي شيء يتعلق بالجنس، طوال سنواته الأولى، حتى يتفاجأ بعكس ما نشأ عليه؟

حالة من الانعزال، والتقوقع النفسي، يعيشها الشاب الصغير عندما يعرف ماذا يجري على أسرّة البالغين، ويبدأ صراعه، بين الواقع والخيال، الذي ينمو نتيجة تهميش العلاقة الحميمة من قبل المجتمع المحيط، وتبدأ تساؤلاته الطفولية الساذجة: هل من المعقول أن يتحول الممنوع إلى مباح، بمجرد وضع الحبر على ورقة في المحكمة؟ هل أُمرنا أن نخفي عن الأطفال نهائياً كيف وُجدوا؟ والقبلة، التعبير الأجمل عن الحبّ، لماذا كانت تصيب أبي بالهلع المفاجئ؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard