شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
علّمتني أمّي ألا أحب نفسي...

علّمتني أمّي ألا أحب نفسي...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 7 أكتوبر 202104:02 م


ليس الهدف من هذا المقال التحدث عن الأم التي تعنّف أولادها ولا رفع النقاب عن تلك التي تسعى خلف رغباتها ونزواتها دون الالتفات إلى حاجات أسرتها، ولا عن الأم التي تتخلّى، سواء كانت مجبرة أو بإرادتها، عن أولادها لتنقذ نفسها وتنقذهم من شريكها المدمّر.

في السطور التالية، قصص أشخاص ترعرعوا على فكرة أن الأمومة تضحية وفناء للذات، غير أن أمهاتهم علّمنهم، عن غير قصد، ألا يحبوا أنفسهم.

من منكم/نّ لا يذكر أو يغني في عيد الأم: "أنام وتسهري وتباتي تفكري... وتصحي من الآذان وتيجي تشقّري"؟ من منكم/نّ لا يتمنّى أن يرى في "ست الحبايب" الأم التي تُخفي حزنها وألمها لحماية أولادها من الحزن؟ بالنسبة لهذه الأم، هذا هو الحب الأسمى والعطاء الأعظم، لكن ماذا عن الأولاد؟ ماذا يحصل لهم حين يكبرون؟ هل تُنتج بالضرورة تضحية الأم أبناء سعداء؟

أمي ضحَّت من أجلي وها أنا أضحّي بنفسي

كان يعنّفها ويخونها لكنها لم تترك البيت، كنت أتوسّل لها أن ترحل، فتجيب: "أنا باقية كرمالكن، ما فيكن تربو بلا أب".

بدموع مجبولة بالحرقة، بكت أمل وهي تخبر قصة أمها التي لم ترها يوماً وهي تبكي، إنما كانت تسمع أنينها خلف باب غرفة النوم، حين كانت تتعرّض للعنف من قبل زوجها.

وبالرغم من أن الأم نجحت في حبس دموعها وإخفاء الكدمات المتعددة على جسمها باستخدام مساحيق التجميل، غير أنها لم تنجح في وضع حدّ لحجم الألم الذي يسكنها والذي سرعان ما انتقل إلى ابنتها.

في السطور التالية، قصص أشخاص ترعرعوا على فكرة أن الأمومة تضحية وفناء للذات، غير أن أمهاتهم علّمنهم، عن غير قصد، ألا يحبوا أنفسهم

اليوم، أمل في العقد الثاني من العمر، تعاني بدورها من زوج يعاملها بازدراء وفوقية. لا يقدّر شيئاً ولا يبادلها أي شعور جميل. هي تعرف أنها منخرطة في علاقة سامة، لكن شيئاً ما يجعلها مقيّدة وغير قادرة على الرحيل.

تتحدث أمل لرصيف22 عن والدتها التي لم تعلّمها المواجهة بل الرضوخ، فتتنقل بين الشفقة والذنب والعتب، لكن يبقى شعور واحد مؤكد لا يفارقها أبداً: العجز.

تشعر بأنها مدينة لوالدتها بالبقاء والرضوخ، وكأنها من خلال الاستمرار في علاقتها المؤذية مع الزوج تؤدي فعل الوفاء والتقدير لوالدتها.

تكشف أمل أنها تخاف أن تُنهي العلاقة فتشعر حينها بالذنب أو تلوم نفسها لعدم تمكنها من الصبر بما فيه الكفاية.

والمفارقة أن والدتها تشجّعها على البقاء مع شريكها لتجنب ألسنة الناس، فالمرأة المطلّقة، بحسب رأيها، تفقد احترامها في المجتمع، ما يعني أن الخيار الأفضل هو البقاء والاستمرار في العلاقة مهما كان الثمن.

يصنّف علم النفس التحليلي سلوك أمل ضمن خانة الإدراك العاطفي، وهي قدرة طبيعية لدى الأطفال على إدراك شعور الأهل أولاً، دون التمييز بين شعورهم وشعور الأهل، وبالتالي عندما يشعر الطفل بأن أباه أو أمه يعانيان من أزمة عاطفية ما، سوف يقوم بتبنّي هذا الشعور ويعبّر عنه من خلال الانخراط في سلوكيات مؤذية، سواء كان ذلك تجاه نفسه أو تجاه الآخرين، من خلال الصراخ والقلق والخلل في الوظائف الأساسية.

هذا ويمكن للشخص أن يتبنى وضعاً نفسياً في اللاوعي ويكمل حياته على هذا الأساس، معتقداً أن المشاعر تعنيه وحده، في حين أنها مسألة تقليد ووفاء لإرضاء الأهل جرّاء الشعور بالذنب تجاههم.

واللافت أن هذا الذنب قد يكرّسه الأهل عن جهل أو عن سابق تصوّر وتصميم، ما لم يتحرروا من شعور الضحية وينتصروا لأنفسهم.

تعلّمت أن أكره أبي... وكل الرجال

"كل الرجال هيك يا أمي... كلّن بخونوا... كلّن متل بعض".

تحاول سهى استعادة شريكها الذي هجرها بعد أربع سنوات من الشك والتخوين. علاقة ترهقها، ليس لأن شريكها خائن بالفعل، بل لأنها، وفي كل مرّة تشعر فيها أنها في علاقة صحيّة، تستيقظ في داخلها مشاعر سلبية تجاه الرجل، وتصب عليه اتهامات تعلم جيداً أنه لا أساس لها من الصحة، فتتهمه بالخيانة وقلّة الحب والاهتمام، الأمر الذي يُتعب الشريك ويجعله ينهي العلاقة في نهاية المطاف.

وبهدف أن تعيد إلى ذاتها المدمرة الثقة والأمان، تتوسل شريكها التراجع عن قراره وتعده بإحداث تغيير في طريقة تفكيرها، بالرغم من أنها تعلم مسبقاً أنها غير قادرة على تحقيق ذلك.

تتحدث سهى عن مرحلة الطفولة لرصيف22، مشيرة إلى أن أبرز ما كوّن ذاكرة الطفولة لديها هي صراخ الأم والمشاكل شبه اليومية مع والدها واتهاماتها له بالخيانة، فتعود إلى ذهنها صورة والدتها وهي تبكي وتبرر استمرارها في العلاقة: "ما فيي فل... أنا ما بشتغل... ما في محل تعيشوا".

لا تعرف سهى حتى اليوم إن كان أبوها قد خان والدتها بالفعل، وتجد صعوبة في التقرّب منه رغم محاولاته الكثيرة، فهي لا تثق بحبّه لها، ولا تثق أيضاً بأي رجل على الإطلاق.

صورتها الجسدية مشوّهة. تنظر في المرآة لترى وجهاً شاحباً وجسداً مهملاً وثياباً لا تعبّر عن شيء من الأنوثة، حتى أنها لا تستطيع الوصول إلى الرعشة الجنسية مهما حاول شريكها. تتمنى أن تقع في حب رجل يحبّها كما هي وبالرغم من عدم ثقتها به، وحين تجده تُرغمه على الرحيل لتدخل مجدداً في دوامة الندم.

"مدة صلاحية" الزواج

يعتبر طارق أن العلاقة الزوجية تتحوّل، بعد مرور أكثر من عشر سنوات، من الحب والشغف إلى الاحترام والصداقة، فيغيب عنها الجنس، ما يجعل أحد الطرفين يبحث عن الشغف والإثارة خارج العلاقة.

كانت والدة طارق مستسلمة بصمت لواقع تعاملت معه على أساس أنه قاعدة حتمية، فكانت تهتمّ بتسيير شؤون المنزل وتربية أولادها والبسمة لا تفارق وجهها.

لا يذكر طارق أنه سمع صوت والدته يعلو يوماً، بالرغم من أكياس الواقي الذكري التي كانت تجدها مخبئة في جيوب بناطيل زوجها الذي كان يعبث خارجاً ويعود إلى البيت مع ابتسامة عريضة ليجد العشاء جاهزاً والبيت نظيفاً.

لم تشكُ الأم همها يوماً، لكن طارق كان ومازال يتألم في داخله ويصف والدته ب"المرأة المعترة".

لعلّه من الصعب، لا بل شبه المستحيل، أن يدرك المرء الأثر الذي يخلّفه الماضي عليه وعلى قراراته وسلوكياته، فكيف بالحري إذا كانت الأم هي ضحية ذلك الماضي، والأصعب أن تزعم بأنها ضحّت لأجل أولادها، فتحمّلهم عبء خياراتها المؤلمة، وكأنها تمنع عنهم، دون أن تدرك، حق الاختيار الخاص المنفصل عنها

أما عن تأثيرات ذلك عليه وعلى علاقاته العاطفية، فهو يعيش إنكاراً كليّاً لإمكانية استمرار زواج مبني على الحب والوفاء، فيسعى لعلاقات "منتهية الصلاحية" سلفاً مع نساء متزوجات وأخريات لا يردن الارتباط أو الزواج، لكن المفارقة أنه يقع في حبهنّ ويمنحهنّ الكثير من العاطفة والوفاء، ويغمرهنّ بالهدايا والمفاجآت وكأنه يحاول إقناعهنّ بالبقاء، لكنه في نهاية المطاف يعيش في كل مرة ألم الانفصال، دون أن يعترف حتى لذاته بأنه يريد الزواج والاستقرار العاطفي.

لعلّه من الصعب، لا بل شبه المستحيل، أن يدرك المرء الأثر الذي يخلّفه الماضي عليه وعلى قراراته وسلوكياته، فكيف بالحري إذا كانت الأم هي ضحية ذلك الماضي، والأصعب أن تزعم بأنها ضحّت لأجل أولادها، فتحمّلهم عبء خياراتها المؤلمة، وكأنها تمنع عنهم، دون أن تدرك، حق الاختيار الخاص المنفصل عنها، ليجد الشخص نفسه نسخة مكررة عن آلام الأم حتى ولو اختلفت الأقنعة والوجوه.

هذه الموروثات العائلية تنتقل من جيل إلى جيل وتكرّس معاني العبودية والخضوع لمفاهيم وتجارب مريرة. كل ذلك يحصل في اللاوعي البشري، فلا الأم تدرك أنه في ظلمها لنفسها تظلم أولادها الذين يرثون مشاعرها، ولا الأولاد يستطعون التخلي عن تلك الصورة وتجاوز الألم الذي لطالما ظنّوا أنهم جزء من أسبابه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard