شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كيف تقول

كيف تقول "لا شيئاً"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 1 أكتوبر 202103:36 م

أحد تعاريف الفلسفة أنها "تساؤل راديكالي" يختلف عن "التساؤل العلمي"، الذي يقوم على افتراضات صحيحة بالضرورة، بينما الفلسفة قد تقول الشيء وعكسه، أي أنها "تتساءل" باستمرار، وهذا ما لا يمكن لرجل المَخْبر فعله.

سين وجيم

التساؤل الفلسفي إجابة لسؤال مفترض، جرى تقديره على الدوام، باعتباره نقطة البداية التي يتعين علينا، أو على الفلاسفة على الأقل، الإجابة عنه، أي أن العلاقة بين السؤال والجواب تشكل جوهر الفلسفة، كما عند ديكارت مثلاً: أنا أسأل، أنا أشك = أنا موجود، وعند هايدجر أن التساؤل حول جوهر الكينونة هو الطريقة الوحيدة للوصول للوجود، الفلسفة لا تصل إلى جواب، لا تكتفي بالنتيجة، تعيد مساءلة الأجوبة وتعيد صياغة السؤال، أي تعيد مساءلة السؤال نفسه.

أما الإجابات الدينية فكانت أكثر بساطة: لا تسأل، قمْ بما تمليه عليك التعاليم.

لقد مُنح السؤال والتساؤل حول أي شيء قيمة عظمى في الجدال الفلسفي وفي الحياة الاجتماعية أيضاً، بل تقسّمت اللغة نفسها إلى أسئلة وأجوبة، أسئلة دافعها الفضول وحب المعرفة وأجوبة دافعها حل إشكالية السؤال وتقديم إجابة شافية للسائل.

أما الإجابات الدينية فكانت أكثر بساطة: لا تسأل، قمْ بما تمليه عليك التعاليم.

لكن، تقسيم اللغة بهذا الشكل، وبالتالي التجربة البشرية برمتها، إلى أسئلة وأجوبة، نفي وتأكيد، إثبات أو تبرير، ينفي ماهيتها كلياً، ويجعلها أقرب للماراثون أو الامتحان الذي يخوضه طلاب البكالوريا، يسأل سقراط أسئلة حول هذا الأمر وذاك لمحاوريه، وهم غالباً ليسوا أذكياء مثله، عن الحق والخير والجمال وووو، إنه لا يسألهم ليعرف أو ليستفهم بل ليتفحّص الإجابة ويعيد مساءلتها، وبهذه الطريقة نعم، تصبح الأسئلة أكثر أهمية من الأجوبة، لأن سقراط غير راض بالإجابات جميعها، بل يبحث عن جوابه هو، عن الجواب المطلق الذي لا نستطيع بعده أن نقول: ولماذا؟

لكن مرة أخرى، أليست التجربة البشرية أكثر غنى وتنوع من هذين المحورين الذين تنحصر فيهما الفلسفة: السؤال ومحاولة الإجابة، ثم سؤال السؤال وسؤال الإجابة، ثم سؤال الجميع عن معنى الجميع؟

إنها دوامة فئران تلك التي تضعنا فيها استجوابات الفلاسفة اللانهائية، حتى وهي تفترض أنها تجيب، هي تعيد طرح السؤال مجدداً، حسناً، لا أود أن أجيب عن سؤال ما، ولا أريد أن أسأل أي سؤال، أريد أن نستخدم اللغة خارج هذين النمطين من الاستخدام: (س) و(ج)، أريد كتابة لا تطرح أسئلة، أجوبة فقط، وعليك استنباط السؤال من الإجابة، عكس العملية المتعارف عليها، أو أن تأخذ الكتابة بكليتها بدون سؤالك المنطقي: كيف حصل هذا وكيف تطير سلحفاة، لماذا يهتمّ أحد بنتائج الانتخابات؟

يجيب المحاور، الأديب، السياسي، الناقد، رئيس البلدية: أمممم هذا سؤال ذكي... ثم يردد إجابة غبية كلياً. لكن هل يوجد سؤال غبي؟

كل الأسئلة ذكية، كل تساؤل سليم لغوياً، ذكي. السؤال لا يستطيع أن يبدو غبياً، تستطيع أن تهمله، تحتقره، لا تفكر به، لكنك لا تستطيع أن تنكر ذكاءه، الغباء يأتي من الأجوبة، خصوصاً بالاقتران مع سؤالها.

أن تسأل يعني أن "تبتكر" مشكلة غير موجودة سابقاً، كما يقول جيل دولوز. أن تحدّق بالمشاهد، الصور، الحياة اليومية، و"تطرح" سؤالك: ماذا يجري هناك؟ يعني أن تقترح إعادة تمثيل الحياة على نحو مغاير للاعتيادي، أو للقصة المعروفة عن الحياة، أي قصة.

اللغة، كنظام إشارات وتواصل تمنح معنى عبر العلاقات بين الكلمات ومن الصعب ارتكاب فعل القول مع "اللاشيء"، ولا حتى بالصمت، إذ إن الصمت أيضاً "معنى"

التحقيق كاعتراف بالآخر

الأسئلة طريقة بشرية من بين طرق أخرى لإثبات السيطرة: هناك من يسأل وهناك من يجيب، من يسأل أسئلة ذكية ومن يجيب أجوبة غبية، أقل غباء أو ذكية، عبر هذه التفاعلات يتم اعتراف أحد بالآخر وبالعكس، حتى المحقق الجنائي يقوم بالفعل ذاته، وليس الفيلسوف فقط، يعترف بآخر هو المتهم ويمنحان بعضهما البعض إجابات مراوغة قدر الإمكان وأحياناً صادقة، لا فرق، يعترف به وليس بحقوقه، وهذا شأن آخر.

ثمة أداتان رائعتان في اللغة العربية، لا يتم استخدامهما كثيراً لأن اللغة العربية يقينية، وهما "ربما" و"أو"، كيف لمن يقول: "الشيء الوحيد الذي أنا متأكد من معرفته هو أني لست متأكداً من معرفة أي شيء"، أن يخبرنا ما هو الحق وما هو الخير؟

بما أن العلم أثبت أن كل شيء قابل للتغير، وهذا ثابت أيضاً، فما المانع أن يعود صرصار كافكا إلى شكله الطبيعي، أو أن يتحدث كلب بولغاكوف باللغة العربية الفصحى؟

رطانة "المتكلمين"

في فيلم "الديكتاتور العظيم" لشارلي شابلن، يقوم شابلن بتقليد هتلر وخطاباته ذات "الرطانة" المفرطة، والنتيجة هي مجموعة جمل لا معنى لها، تشبه الضوضاء الصوتية التي يقوم بها الأطفال حين يبدؤون بتعلّم الكلام. هراء مفرط، رطانة، تقعير،Gibberish ، كلها كلمات "تعني"، قد تقوم بالالتفاف على المعنى، أو تقليله، لكنها لا تخفيه كلياً.

من بين الأساليب المستخدمة للتضليل المعرفي تغييب المعلومات، حجب البيانات، إخفاء الآراء المعارضة، وكلها تتضمن فعلاً قسرياً سلبياً، لكن من أهم الأساليب الإيجابية هو "قول لا شيء".

بالرغم من أن عدم قول شيء ارتبط بالسياسة والسياسيين، ولهذه الفئة اعتباراتها وموقعها المرتبط بالحصول على السلطة، إلا أن قول لا شيء ليس سهلاً على الإطلاق، فاللغة، كنظام إشارات وتواصل تمنح معنى عبر العلاقات بين الكلمات ومن الصعب ارتكاب فعل القول مع "اللاشيء"، ولا حتى بالصمت، إذ إن الصمت أيضاً "معنى".

من بين الأساليب المستخدمة للتضليل المعرفي تغييب المعلومات، حجب البيانات، إخفاء الآراء المعارضة، وكلها تتضمن فعلاً قسرياً سلبياً، لكن من أهم الأساليب الإيجابية هو "قول لا شيء"

في العالم الضيق الذي نعيشه، المعلومات هي الأهم، هي حجر الزاوية لما نقوم به من أفعال أو خطاب، وإذا كانت المعلومات خاطئة أو مضللة فهذا لا يؤثر على شيء، إذ إن المنظومة تستمرّ بعملها لكن باتجاه مغاير، مضلل أو مخادع، كالمعلومات التي تتداولها الإعلانات مثلاً، البيانات الحكومية، الميزانيات العمومية، هي تعطي شيئاً غير دقيق، أو خاطئاً أو مضللاً لكنها تعطي، أي تشارك معنى سخيفاً، جدياً مخادعاً أو صادقاً، وفي كل الأحوال، حتى هذه المعلومات المضللة تعني شيئاً للبائع أو الشركة المنتجة، المؤسسة الحكومية التي تخدع، لكن كيف يمكن قول لا شيء؟

في الطب النفسي، يعاني الأطباء من "الشخصية الزائفة"، التي لا تقول شيئاً، فالشخصية الحقيقية هي فقط من يمكن معالجتها وتحليلها، لذا يتابعون طرح الأسئلة وإزالة القشور عن حياة الشخص للوصول إلى "الذات الحقيقية"، يبدو الأمر كمن يتحدث عن المريض مع كرسي، لا يستطيع الكرسي أن يصل لحالة المريض نفسه دون الحديث معه شخصياً، وليس عبر وسائط، والشخصية الزائفة لا تقول أشياء حقيقية بل أشياء زائفة، لكنها تقول، وبالتالي هي تستخدم نفس خطاب السياسيين من تضليل، وهذا يبقي شيئاً وليس "لاشيئاً".

يبدو أنه من المستحيل إنشاء جملة لا تقول شيئاً.

الحديث لا يتعلّق بالشخص المتحدّث، إنه ينفصل عنه في اللحظة التي ينطق بها، يصبح إشارات ومعاني، فما إن يتحدث الشخص حتى يصبح آخر، مختلفاً عن نفسه قبل الحديث، ويصبح بذات الوقت متلقياً للخطاب كأي مستمع آخر، فأنت تتأثر كالمستمع أيضاً بحديثك، ترتفع وقت ارتفاعه، وتنخفض وقت خفوته، تنتابك المشاعر والأحاسيس كأنك تستمع لأغنية بصوت أحد آخر، وفي حال قول لا شيء يتخلّص الشخص من عبء إيجاد المعنى ويتحرر من اللغة نفسها ومن سطوة المعنى الذي تقصده، وبالتالي يصبح الشخص نفسه، قبل الحديث وبعد الحديث، وهذا التطابق باللحظتين يندر وجوده أو لنقل إنه قليل الحدوث، لكن هل يمكن إيجاد نص لا يقول شيئاً؟

طالما نستخدم اللغة، ضمن قواعدها النحوية المترابطة، ضمير وفعل وفاعل، فنحن نقول شيئاً ما ذا معنى، نختلف في تأويله ويبتعد فهمنا عن مغزى الكاتب الأصلي، لكن لا نفتقد المعنى تماماً، قد لا يكون ذا معنى كلياً، إذ بعض المفردات والجمل تأتي لتوصل شعوراً أكثر منه معنى، كما يقول رومان جاكبسون، لكن يبدو أنه من المستحيل إنشاء جملة لا تقول شيئاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard