شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
خطورة اللغة في يوميات إميلي دو توركهايم

خطورة اللغة في يوميات إميلي دو توركهايم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 19 سبتمبر 202111:48 ص

"نحن اللاجئين الآخرين، فقدنا لغتنا الأم، أي ردود أفعالنا الطبيعية وبساطة إيماءاتنا والتعبير التلقائي عن مشاعرنا"... حنا أرندت

مازال فن اليوميات يفاجئنا كل يوم بإمكانياته اللامحدودة، منذ تحرره من صمته الطويل عندما كان مرتبطاً بالحميمي وبالمسكوت عنه وحتمية بقائه في الأدراج، حتى صار يكتب ليُنشر ويقرأ على الملأ.  فتعددت ضروب تمظهره وتنوعت مشاريع ممارسته باعتباره فناً خارقاً وأسلوب حياة، يعبر نخبة الكتاب ليشمل  كل إنسان مهما كانت مهنته، وضعيته، جنسه، دينه أو عمره. ولكن الجديد في فن اليوميات أنه أصبح مخبراً للتجريب والإبداع، مثله مثل الرواية والشعر والقصة، فتوضع له المواضيع والأفكار ليباشر كاتب اليوميات مشروعاً خاصاً يعرف من الأول أنه اختاره للكتابة، دون أن تفقد اليوميات طابعها وخصوصيتها باعتبارها كتابة سير ذاتية، مخصوصة، محتكمة إلى زمن الكتابة: الحاضر. 

فقد حسم أمر اليوميات باعتبارها جنساً أدبياً ولم يعد ينظر إليها باعتبارها درجة ثانية من الكتابة.

فاليوميات مهما اتسمت بعدم استقرار شكلها، كما تقول الناقدة الفرنسية بياتريس ديدياي، في مؤلفها" اليوميات الحميمة"، فهي فعلاً جنس أدبي، "وإن لم يحدث ذلك إلا بالتدرج"، وهو ما تنبأ به الناقد البلغاري تزفيتان تودوروف، في كتابه "شعرية النثر". وإذا كانت باتريس ديدياي لا ترى مانعاً من تدخل يد أخرى في كتابة اليوميات، كأن تملى على شخص آخر غير الذات الكاتبة، كما فعل شارل دبوس، أو كما تمنى ستاندال، أو كما فعل طه حسين، لاعتبارات أخرى، بإملاء سيرته "الأيام"، أو كما فعل محمد خيرالدين بسبب المرض، فقد كتبت إميلي دو توركهايم يوميات اللاجئ بدلاً منه. لقد نقلت تجربتها معه أو أيامها معه، وجعلته محور تلك اليوميات، ورصدت سلوكه وانفعالاته والصعوبات التي واجهها يوماً بيوم.

اللغة شرط التعايش

 في يومياتها "الأمير صاحب الكأس الصغيرة"، تنشغل  إميلي دو توركهايم باختبار قضية اللغة في أوجهها المختلفة، وهي تباشر الكتابة عن اللجوء واللاجئين عبر استضافتها في شقتها بباريس، اللاجئ الأفغاني رازا، أو الأمير صاحب الكأس الصغيرة.

منذ أول جملة بادرت بها الأم  متحدّثة مع زوجها حول إمكانية استضافة لاجئ من اللاجئين : "ينام الآلاف في الشوارع، ويعيشون دون مأوى. ربما، بمقدورنا أن نستضيف أحدهم للإقامة في منزلنا"، جوبهت الأم بشرط اللغة، لغة الكلام ولغة اللعب من طفليها.

قال ابننا ماريوس: "يجب أن نتعلم لغته قبل أن يحضر إلى منزلنا".

أضاف أخوه الأصغر نوح: "يجب على الخصوص، أن نعلمه لعبة الورق، لأننا نحب لعب الورق".

هكذا حسم الأطفال الأمر: وجوب تعلم لغة الآخر وتعليمه لغة اللعب.

تبدو المعادلة نبيلة، لأنها تأخذ باحترام هوية كل من الطرفين، غير أن الوجوب يتحول بعد ذلك إلى وجوب يخص اللاجئ، فهو الذي عليه أن يتعلم كل شيء. فلغته لا شيء بالنسبة إلى الفرنسيين، وهو لن يتحقق وجوده الفعلي إلا من خلال امتلاكه للفرنسية، وكأن اللغة، كل اللغة، هي الفرنسية ،ولغته ليست سوى رطانة، أو هي أصوات يمكن أن تطلقها الكائنات والأشياء أو الطبيعة.

على طول اليوميات تجد إميلي مشاكل في التواصل مع رازا بسبب عدم قدرته على تعلم الفرنسية، أو تمسّكه بمفردات معينة وصياغات معينة مما يجعلها تصفه بالعنيد، فهو لا يعرف كلمة صخور، وهي تخبره أنهم وضعوا صخوراً تحت الجسور كيلا ينام المتشردون تحت تلك الجسور، وهو متمسك بصياغة "أنتم" وهو يخاطبها، استناداً على لغته الأم التي لا تنادى فيها العمات والأم والخالات إلا بصيغة الجمع احتراماً، وهو لا يفهم كلمة "اللعنة" ولماذا يرددها الفرنسيون .

فـ"هذه اللغة الفرنسية، هذه الأرض الرائعة، لا ترحب بالغرباء بشكل رائع"، كما تقول كاتبة اليوميات.

"هذه اللغة الفرنسية، هذه الأرض الرائعة، لا ترحب بالغرباء بشكل رائع"، كما تقول كاتبة اليوميات

لكن الكاتبة، التي هي شاعرة أيضاً، تخص الموضوع بقصيدة في يومية 3 مارس فتقول: "قلت له إنني كتبت اليوم قصيدة عن اللغات المختلفة التي ستصبح في يوم من الأيام لغة واحدة فقط. لغة تتذكر كل شيء... اللغة التي ستكون الذاكرة المفتوحة على كل شيء."

قال لي رازا: "اقرئي لي". والغريب أني فعلت ما طلبه مني طواعية. قرأت له القصيدة:

"سنكتب دون خلاف في اللغات

بكلمة الماء والهواء

أفقاً من تلوينات الأشعار

ستتكلم الرقبة عن عتقها

سيتكلم الطفل قصيدة إيلوار

ستستعيد سكاكين بورخيس مبارزاتها

وستسكب شجرة  اللوز أزهارها البيضاء من أجل الجمال

سيأتي عهد التحولات

وستكون كتاباً فوق المقعد الحجري

وذهب الأشناب البراق".

ما معنى أن ترتهن المواطنة والبقاء وباكتساب لغة المستضيف في مجتمعات تدعي احترام الاختلاف، فماذا يعني أن تستضيف دولة لاجئاً لأنه مرفوض من فئة متغلبة من شعبها جنسياً أو سياسياً أو دينياً، ثم ترفض الاعتراف به مواطناً لأنه سقط في امتحان لغتها؟!

الفرنسية الاستعمارية

تكشف الكاتبة أن الفرنسية لم تكن يوماً لغة عالمية إلا من خلال غزو فرنسا للشعوب التي صارت تتكلمها، فهي لا تهب نفسها لمن أرادها، بل هي من يغتصب لغات الآخرين وتعمل على إبادتها.

وهذا  يرجعنا إلى مفهوم الفرنكفونية باعتبارها حركة سياسية وليست ثقافية، ففرنسا تسعى للسيطرة عبر اللغة القومية، والتي عبرها تنقل ثقافتها وكل ما يتعلق بمشروعها السياسي.

 يخبرنا أن الفرنسية تتحدث بها أكثر من خمسين دولة، فحاولنا وضع قائمة لها: بلجيكا، سويسرا، لوكسمبورغ، كندا، كيبيك، المغرب، الجزائر، السنغال، بوركينا فاسو، بينين، الكونغو، النيجر، ساحل العاج، جيبوتي، مدغشقر، جزيرة موريس.

"بالمجمل، هي البلدان التي غزوناها لسرقة ثرواتها"، يقول ماريوس.

هل يذكرنا هذا بما ورد في كتاب "لن تتكلم لغتي" لعبدالفتاح كيليطو الذي يطرح   مسألة اللغة في علاقتها بالآخر بشكل مخيف، فالآخر لا يتحمل أن يسمعك تتكلم لغته أبداً، فأنت إن فعلت فقط استحوذت عليه. يقول: "إن القدرة على التسمية تعادل الهيمنة وتعني السيطرة على العالم"؟

هنا يجرني التفكير في اللغة إلى قضية التسمية: هل نحن العرب عاجزون عن إدراك العالم والسيطرة عليه لأن خيالنا عاجز عن التسمية، ليست في  الحياة العامة فقط بل حتى في الأدب؟ هل كان الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي على حق عندما تحدث عن القحط في كتابه "الخيال الشعري عند العرب"؟

من الكتابة إلى الصديق إلى الكتابة بالصديق

إن هذا التأكيد على موضوع اللغة في كتاب دو توركهايم يحيلنا أيضاً على ما انتبهت إليه باتريس ديدياي بالارتباط الكبير بين صعوبة النطق واليوميات من جهة، ومن جهة أخرى ارتباط اليوميات باختلاق الصديق أو العشيق للبوح، كما فعلت آن فرانك عندما كتبت يومياتها بشكل رسائل إلى صديقتها المختلقة، مع هذه اليوميات تذهب بنا الكاتبة إلى ما بعد فكرة الاختلاق الأدبي، فنصبح أمام استعارة فعلية للصديق أو الرفيق الذي سيكتب يوميات الذات في تعالقها مع ذاته.

إذ نحن مع كتاب "الأمير صاحب الكأس الصغيرة" لا يمكن أن نحسم أمر نسبة الكتاب إلى واحد من الشخصيتين، المحرّر والذات صاحبة التجربة، وكأن هذه الذات فوّضت المحرّرة لكتابتها لأنها عاجزة عن الكتابة وعن استخدام اللغة. كانت ذاتاً تكتب بجسدها وانفعالاتها لتهيئ المادة للتحرير اللغوي الذي تكفلت به الرفيقة الكاتبة. ولم تكن الكاتبة لتفلت الفرصة التي وهبتها لها الذات صاحب التجربة، لتقحم نفسها ونصوصها الأدبية، والشعرية تحديداً، في السيرة الحية.

"ننسى دائماً أن الشخص الذي يتلعثم في لغة معينة، فهو يجيد لغة أخرى"

إن الكاتبة الفرنسية تحولت هي اللاجئة عند الأفغاني عبر يومياته، لقد استضافت تجربة الأفغاني الحية التجربة الأدبية للكاتبة الفرنسية، فقرأها وتعرّف عليها القراء بسبب الأفغاني الصامت أو الأبكم: مسلوب اللغة. لكننا، كما تقول الكاتبة مستدركة: "لفرط سماعي رازا، وهو يتعثر بكلمات فقيرة وغير دقيقة، اعتقدت أن مرد ذلك إلى تركيبة عقله المفتقرة للغة وغير القادرة على الرقة والبساطة، ولكننا ننسى دائماً أن الشخص الذي يتلعثم في لغة معينة، فهو يجيد لغة أخرى".

وهنا تضع الكاتبة الفرنسية كل شروط الاعتراف باللاجئين وتوطينهم في مأزق وخاصة شرط اللغة، فما معنى أن ترتهن المواطنة والبقاء وباكتساب لغة المستضيف في مجتمعات تدعي احترام الاختلاف، فماذا يعني أن تستضيف دولة لاجئاً لأنه مرفوض من فئة متغلبة من شعبها جنسياً أو سياسياً أو دينياً، ثم ترفض الاعتراف به مواطناً لأنه سقط في امتحان لغتها؟!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard