شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"هل أنتنّ سعيدات؟"... إشارات المرور تتحول إلى أماكن للتنزه في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 14 سبتمبر 202106:21 م

في ليلة الجمعة الأخيرة من آب/ أغسطس الفائت، أي قبل شهر ونصف تقريباً من انتظام الدراسة، اصطحب معتز جابر بناته الأربع، وزوجته، في نزهة. صحيح أن "اليد قصيرة"، لكنه اتّبع المثل المصري "قل من الندر (النذر) وأوفِ"، أي سدد دينك بأقل قدر ممكن.

الأب الأربعيني، الذي تبدو هيئته أكبر من عمره، حسب حسبته جيداً: ميكروباص من فيصل، في جنوب العاصمة حيث يقطن، إلى جامعة القاهرة التي تبعد كيلومترات عدة، بتكلفة 25 جنيهاً (نحو دولار ونصف)، ذهاباً وإياباً، و50 جنيهاً لشراء ما يفرح بناته. أما الطعام، فستجهزه زوجته في المنزل، وللجلوس يكفيهم مفرش سرير ينثرون عليه سعادتهم المؤقتة.

أسر كثيرة تبحث عن أكبر متعة، بأقل كلفة، في فسحات شبه خضراء "مُختلقة" وسط ازدحام المدن المصرية.

انتقت الأسرة موضعاً في المنتصف، من خلفهم قبة جامعة القاهرة العريقة، وساعتها، ومن أمامهم أسر كثيرة تبحث عن أكبر متعة، بأقل كلفة. أما عن يمينهم ويسارهم، فازدحام مروري خانق، وضوضاء، ودخان سيارات أسود، كانت كفيلة بتعكير صفوهم، في حال ركزوا عليها. لكن في هذا المكان، الالتهاء شرط أساسي، وقانون وضعه الزائرون.

والمكان الذي نتحدث عنه، عبارة عن مساحة خضراء، أو نصف خضراء، إذ يعتري خضارها الإرهاق، كمفترشيها، ويكسوها الصفار والطين، وتفصل جانبي الطريق في الشارع المواجه لجامعة القاهرة في الجيزة. هو ليس حديقة عامة، ولم يُخلق للتنزه، لكنه اكتسب تلك الوظيفة بحيلة من الأسر التي ضاقت بها منازلها، ولا تستطع تحمّل كلفة نزهة في حديقة حقيقية، حتى لو كانت عامة.

الفسحة والتنزه عند جامعة القاهرة

الفسحة والتنزه عند جامعة القاهرة - تصوير رحاب عليوة

"على قد إيدينا"

المشاهد نفسها تتكرر في العتبة، وسط القاهرة، وفي شبرا الخيمة، قرب محطة مترو كلية الزراعة، وفي أي مساحة خضراء في المدن العشوائية المكتظة.

يقول جابر لرصيف22: "هنا نستطيع أن نشم الهواء. كادت إجازتهن الصيفية أن تنتهي، ولم أخرجهن مرة واحدة". وعن اختياره المكان يشرح: "على قد إيدينا. فسحة تكلّف أقل من مئة جنيه، إذ لا رسوم دخول، ولا ‘كافيهات’، ولا أشياء ترغب البنات فيها، وأعجز عن شرائها". ويشير إلى أنها النزهة الأولى للعائلة، منذ فقدت الأم عملها في صالون تجميل بفعل كورونا، ولم يعد شغل الأب، كعامل سيراميك، يكفي.

يقول الأب كلماته، بعد أن أنهى مساومة طفلة تبيع بالونات، على شكل وحيد القرن، كي تخفض السعر، وهو عشرة جنيهات، ليصبح خمسة، لكنها رفضت، ورضخ الأب، واشترى البالونات لبناته، وظل يتأمل فرحتهن، ويسألهن من وقت إلى آخر: "هل أنتن سعيدات؟"، فيجِبن، وهن يلوّحن بصديقهن الجديد: "نعم".

أما عائلة محمد السوداني، فكانت تزور تلك "الحديقة" للمرة الثانية. جاء محمد من السودان، قبل عامين، مع زوجته وأولاده الأربعة، ثلاثة منهم في سن الدراسة. يعمل في محل لبيع الملابس، لقاء مئة جنيه يومياً (6 دولارات ونصف)، وزوجته لا تعمل.

يحدد البنك الدولي خط الفقر العالمي، عند حد إنفاق يومي يصل إلى 1.9 دولاراً للشخص الواحد، أي نحو 30 جنيهاً، ووفق ذلك، تعيش أسرة محمد تحت خط الفقر، وتحتاج إلى ضعف راتب الأب، لتجاوزه.

يقول الرجل، والابتسامة لا تفارق وجهه: "اكتشفت هذا المكان عند ذهابي إلى العمل، بعدما لاحظت الناس يتنزهون فيه. اقترحت الأمر على أم مصعب، ووافقت، واصطحبنا الأبناء، وكانوا سعداء جداً".

وتضيف زوجته لرصيف22: "اختنقنا من جدران المنزل"، فيقاطعها قائلاً: "الوضع صعب جداً. في السودان، وأياً كانت طبقتك الاجتماعية، لا بد من وجود مساحة خضراء حول المنزل. لكن في القاهرة، الناس يتكدسون فوق بعضهم، ولا نجد متنفساً إلا هنا".

في محيط تلك الفواصل الخضراء، حديقتان كبيرتان، إحداهما للحيوانات، والأخرى حديقة الأورمان. لكن هذه البقع تكتسب الشعبية الأكبر. فحديقة الحيوانات مقيدة بمواعيد إغلاق مبكرة، لا تتناسب مع مواعيد التنزه صيفاً، وكذلك حديقة الأورمان التي تغلق أبوابها في التاسعة مساء، كما أن لكل منهما تذكرة دخول قدرها خمسة جنيهات. قد يكون المبلغ رمزياً، لكنه يشكل عبئاً على عائلات، مثل عائلة جابر والسوداني.

"هنا نستطيع أن نشم الهواء. كادت إجازة الفتيات الصيفية أن تنتهي، ولم أخرجهن مرة واحدة.  المكان على قد إيدينا. فسحة تكلّف أقل من مئة جنيه، إذ لا رسوم دخول، ولا ‘كافيهات’، ولا أشياء ترغب البنات فيها، وأعجز عن شرائها"

"فوتو سيشن مجاني"

لا يقتصر عمل تلك الحديقة المُختلقة على كونها متنزهاً، بل يقصدها عرسان، لالتقاط الصور ليلة الزفاف، في محاكاة لجلسات التصوير "الفوتو سيشن". عادة ما يختار أبناء الطبقة الوسطى، والمرفّهة، أفضل حديقة ممكنة، أو قصر، أو منطقة سياحية، لهذا الغرض، ويكلفهم الدخول من 500 جنيه إلى آلاف الجنيهات، فيما تلجأ الأسر المحدودة الدخل، إلى هذا المكان، أو ما يشبهه.

وقدوم العرسان إلى تلك الفواصل الخضراء، يُمثل مصلحة مشتركة، فمن جهة يمنح العائلات سبباً إضافياً للفرح، ويشعرون بأنهم في حديقة حقيقية، أما العرسان فيتقلص شعورهم بالحرمان من اتّباع الموضة.

تنتظر شهد، وصديقتها فرح، قدوم أي عروس، للالتفاف حولها، والمشاركة في الغناء، والتقاط الصور، وكأنهما جزء من المدعوين. شهد في المرحلة الثانوية، وعادةً ما تأتي إلى الحديقة المواجهة للجامعة، من ضاحية بولاق الدكرور، وتلك هي النزهة الوحيدة التي تفتقد إلى القيود، حتى أنهما بعد رحيل العرائس كلهن، وقفتا لتغنيا، وتصفقا، وحدهما.

عرائس يلتقطون صور زفافهم في الحديقة "المُختلقة"

عرائس يلتقطون صور زفافهم في الحديقة "المُختلقة" - تصوير رحاب عليوة

ولا تقتصر علاقة تلك البقع بالاحتفالات، على الزفاف، بل كثيراً ما تشهد احتفالات أعياد ميلاد، تضم عشرات الأشخاص، فيفترش الأهل والأصدقاء المكان، ويتقاسمون الحلوى، ويحملون البوالين الملونة، ويلتقطون الصور.

وبين تلك العائلات، يجول الخميسيني محمد، بوجهٍ منهك، وخطى ثقيلة، حاملاً فوق كتفه ألعاباً بسيطة، ويطلق الفقاقيع الملونة، كدعاية لبضائعه. محمد كان يعمل في مجال البناء، وتحديداً الأسقف البارزة، لكن مهنته اندثرت تقريباً، بفعل موضات أحدث.

يقول لرصيف22: "أحرص على جلب البضائع الرخيصة التي تستطيع الأسر شراءها، فيتراوح سعر القطعة بين خمسة جنيهات، وعشرة". ولفت إلى أن أيام العطل، هي الأكثر رزقاً، بسبب الازدحام. ولحسن الحظ، لا تتعرض الشرطة له، أو للعائلات. يقول: "يتركون الناس على راحتهم، إلا في حالات حظر التجول، بسبب فيروس كورونا".

التنزه المدفوع رفاهية

تفتح الحالة التي تمثلها نزهة الشارع العديد من التساؤلات: هل في مصر ما يكفي من حدائق عامة، ومساحات خضراء، للتنزه؟ هل توزَّع توزيعاً يتناسب مع الكثافة السكانية، والحالة الاجتماعية؟ وما تأثير تقلص المساحات الخضراء على الحالة المزاجية العامة؟

كل أسرة مكونة من أربعة أفراد، تخصص لها الدولة متراً واحداً للتنزه، وهي مساحة لا تكفي للوقوف، أو جلوس القرفصاء.

تقول أستاذة علم الاجتماع في جامعة بنها الدكتورة هالة منصور، لرصيف22، إن التنزه وكسر الروتين، والاستمتاع برؤية اللا محدود، سواء أكانت بحاراً، أو مساحات خضراء، يساعد على تجديد الطاقة، وتحسين الحالة المزاجية والنفسية، ويؤثر على الصحة العامة، والمزاج العام، الذي هو عبارة عن تراكم للأمزجة الخاصة.

وشددت على أن تلك المتنزهات، أو الفسحات، ليست رفاهية، بل هي حق أساسي للإنسان، يجب أن تعمل الحكومات على توفيره للجميع.

وقد بات واضحاً أن جزءاً لا يستهان به من العائلات المصرية، لا يملك فرصة التنزه المدفوع، وينطبق ذلك على نحو ثلث عدد السكان، فقد قدر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، نسبة الفقر في العام الحالي 2020/ 2021، بـ 29.7%.

لكن الأمر لا يقتصر على معضلة الفقر والغنى فحسب، وإنما هناك نقص حقيقي في المساحات الخضراء، والمتنزهات العامة، التي يمكن أن تستقبل المواطنين، من دون عناء العبء المادي، أو المسافات الطويلة.

فسحات التنزه المجانية تستقطب يومياً مئات العائلات من ذوي الدخل المحدود

فسحات التنزه المجانية تستقطب يومياً مئات العائلات من ذوي الدخل المحدود - تصوير رحاب عليوة

انكماش اللون الأخضر

في العاصمة مثلاً، والتي تمثل أكبر تكدس سكاني، يتجاوز العشرة ملايين شخص، خصصت الدولة مجموعة من الحدائق باسم "مشروع الحدائق المتخصصة"، موزعة في أحياء عدة. واللافت، أن الأحياء الأكثر رفاهية، تأخذ النصيب الأكبر، أي أن الفقراء الذين هم في أمس الحاجة إلى مثل تلك المتنزهات، هم الأكثر حرماناً منها.

ووفق قاعدة بيانات، عن تلك الحدائق، اعتماداً على موقع محافظة القاهرة، مع إضافة حدائق أخرى شهيرة، مثل حديقة الأزهر، والفسطاط، والميريلاند، وغيرها، وجدنا أن ضاحيتي مدينة نصر، ومصر الجديدة، وهما حيان مرفّهان، ضما وحدهما ثماني حدائق، من أصل 33 حديقةً ومتنزهاً عاماً، بنسبة 25% تقريباً.

ووفق القاعدة نفسها، فإن 29 حديقة يبلغ سعر تذكرة دخولها عشرة جنيهات، وهو رقم يمثل عبئاً للأسر الفقيرة الكبيرة العدد، خصوصاً إذا كانت الحديقة بعيدة عن منازلهم، ما يعني زيادة في كلفة المواصلات. وبعض الحدائق مثل الأزهر، تبلغ تذكرة الدخول إليها 20 جنيهاً، ويقفز ذلك السعر في الإجازات، والأعياد.

حدائق القاهرة حسب مساحتها وتكلفة الدخول إليها

حدائق القاهرة حسب مساحتها وتكلفة الدخول إليها - إعداد رحاب عليوة

وما يمثل صدمة، ويعكس العجز الشديد في تلك المساحات، مقارنة بعدد السكان، هو نصيب كل شخص من سكان القاهرة من الحدائق العامة. فإذا ما قسمنا مجمل المساحة الخضراء العامة، والذي يتجاوز المليوني متر مربع، على عدد سكان المحافظة، نجد أن نصيب كل شخص يبلغ 25 سنتيمتراً، أي ربع متر مربع، ما يعني أن كل أسرة مكونة من أربعة أفراد، تخصص لها الدولة متراً واحداً للتنزه، وهي مساحة لا تكفي للوقوف، أو جلوس القرفصاء.

تطوير مدفوع

وتتدخل الدولة في تطوير المتنزهات الشعبية، ومنها كورنيش النيل، الذي يمثل ملجأ للتنزه لكثيرين، عبر خطة لتدشين ممشى سياحي سيضم ‘كافيهات’، ومقاعد مجانية، فيما يشوب القلق البعض من أن ينتهي الأمر بفرض رسوم دخول، تباعد بينهم وبين منتزهاتهم التقليدية، أو أن تضم مقاهٍ، بأسعار مرتفعة تدفعهم لتجنبها، لعدم تدعيم شعورهم بالعجز.

ساحة قصر عابدين في القاهرة مثال حي على التباين الطبقي. فالبعض يجلسون على المقاهي، وينتقون اختياراتهم من قوائم الطعام، وآخرون يفترشون الأرض، ويُخرجون الأطعمة التي اصطحبوها معهم خلسةً، إذ يُمنع اصطحاب أواني الطعام إلى حضرة القصر

التجربة حدثت من قبل، في ضاحية عابدين، وسط القاهرة، حيث اعتادت عائلات كثيرة الجلوس في الحديقة الخارجية المواجهة لقصر عابدين. قبل أشهر، التفتت الحكومة إلى تلك المنطقة، ولجأت إلى تطويرها، فأحاطت الحديقة بسياج، وتركت أفراد أمن ينظمون الدخول، ويشرفون على المشروع الذي ضم مقاهٍ، ومحالاً شهيرة، تقدم المشروبات، والحلوى، والطعام. وبمجرد أن تعرف الجمهور للمكان الجديد، فُرض رسم دخول قدره خمسة جنيهات.

ولوحظ، بعد تلك التعديلات، تغيير في طبيعة الجمهور، فبعدما كان يغلب عليه ذوو الدخل المحدود، واللاجئون القادمون من إفريقيا، باتت الأغلبية من أبناء الطبقة المتوسطة، والمتوسطة الدنيا، الذين يستطيعون إنفاق مئات الجنيهات، في نزهة واحدة.

منطقة عابدين وقد انقسمت فسحات التنزه فيها بين مجانية وأخرى مكلفة

منطقة عابدين وقد انقسمت فسحات التنزه فيها بين مجانية وأخرى مكلفة - تصوير رحاب عليوة

سمر صفي الدين، أم لطفلين، كانت واحدة ممن فقدوا امتيازاتهم القديمة في الحديقة. تقول لرصيف22: "كنت أحرص على زيارة أخي الذي يقع منزله مقابل الحديقة، وبمجرد أن يحل المساء، نأخذ الأولاد، ونجلس فيها ساعات، مستمتعين، من دون كلفة. الآن، بعد التعديلات، لم أدخل سوى مرة واحدة. المشكلة ليست في الجنيهات الخمسة، وإنما في كلفة الخدمات. كي نجلس في إحدى المقاهي، أو ليدخل الأولاد إلى الملاهي التي تكلف عشرة جنيهات، لبضعة دقائق، نحتاج إلى ميزانية خاصة".

وعلى خلاف سمر، لا زال بعض الجمهور التقليدي يتوافد على الحديقة، خصوصاً خلال العطلات، وتمثل ساحة القصر مثالاً حياً على التباين الطبقي. فالبعض يجلسون على المقاهي، وينتقون اختياراتهم من قوائم الطعام، وآخرون يفترشون الأرض، ويُخرجون الأطعمة التي اصطحبوها معهم خلسةً، إذ يُمنع اصطحاب أواني الطعام إلى حضرة القصر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard