شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
رأيتُ المشهد الأخير يا أبي... جثث

رأيتُ المشهد الأخير يا أبي... جثث "الغرباء" في شوارع مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 6 سبتمبر 202112:26 م

كان سيئ الحظ، لدرجة أنه كان من بين 40 ألف شخص لقوا مصرعهم في حوادث السيارات في مصر عام 2000.

كان ممدداً على الأرض، ويداه المرفوعتان إلى الأمام ترسمان المشهد الأخير.

ربما كان يحاول صد تلك السيارة عنه أو أنه كان يدعو الله كي يدفعها عنه.

كان عمري 10 أعوام، حين كنا على وشك الوصول لمحافظة دمياط في مصر أنا ووالدي، ورأيت لأول مرة أحدهم وهو يموت. صدمته سيارة مسرعة قبل أن يعبر إلى الجهة الأخرى من الطريق.

سال الدم من كل أنحاء جسده، وارتجف قليلاً قبل أن يسكن، ثم التفت أحدهم إلي ليبعدني، فما زلت طفلاً على رؤية حادث كهذا. وسرعان ما وضعوا مجموعة من أوراق الجرائد فوق جثة الرجل الذي مات للتو، أتذكر أني سألت أبي حينها: ما هذا الذي رأيته؟ لا أذكر الإجابة، بقدر تفاصيل الجثة، ومشاعري المؤلمة، إنه المشهد الأخير الذي لا يفترض أن أراه.

لم أنم لأيام، لم أتناول الطعام لأيام، كنت خائفاً ومرتعباً بسبب تلك الكوابيس، التي أرى فيها حوادث، وأشخاصاً يموتون، ولم أنس المشهد حتى اليوم.

ذكريات إلى الأبد

الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، تقول لرصيف22: "رؤية الطفل لمشهد فيه ضحية ميتة على الطريق، يظل ملتصقاً بالذاكرة إلى الأبد، وقد يشكل فكرته عن السفر على الطريق وركوب السيارة مدى الحياة، وينتابه الخوف الشديد إذا علم أن أحد ذويه على وشك السفر بالسيارة، بالإضافة إلى الكوابيس المتكررة التي تأتيه".

"مثل الذي يخاف من السفر بالطائرة لأنه شاهد حادث طائرة على شاشة التلفاز"، تضيف الدكتورة سامية.

ولكن ماذا عن المراهقين والكبار، هل يغير فيهم مشهد الحوادث المميتة؟

سمير (23 عاماً) طالب جامعي، ومصور فوتوغرافي، شاهد أول حادث أثناء رحلة إلى المصيف قبل 5 سنوات، يقول لرصيف22: "الأمر كان مخيفاً، فبمجرد أن وطأت بقدمي خارج محطة الإسكندرية، شاهدت سيارة تصدم أحد المارة، وتدهسه أمام عيني، أذهلني ما رأيت، ثم غادرت مسرعاً عائداً إلى محافظة القاهرة، ولم أستطع السفر إلى الإسكندرية لمدة عامين كاملين".

مدينة الإسكندرية أصبحت مرتبطة بالحادث في ذهنه، وشكلت فكرة سيئة عن السفر إلى هناك.

الاعتياد والألفة

لم تكن تلك الحادثة التي رأيتها في طفولتي هي الأخيرة، فعدد ضحايا الحوادث كل عام في مصر يتراوح بين 40 و60 ألفاً ما بين قتيل وجريح، بحسب إحصاءات رسمية، وكأن ما رأيته في الماضي البعيد يجذب إلى عيوني حوادث مشابهة.

في عام 2009، كنتُ (أنا كاتب المقال) متوجهاً إلى جامعتي في بنها، حين وقفت أنتظر القطار على الرصيف، حاول رجل مسن عبور شريط السكة الحديدية، لكنه وهو يهم بذلك دهس رأسه قطار كان على وشك الخروج من الرصيف.

تناثرت أجزاء رأسه إلى قطع صغيرة على قضيب السكة الحديدية، كان المشهد فوضوياً، لم يلحظه أحد سواي، الأمر تم في صمت وهدوء، كان القطار يسير ببطء، والرجل المسن يعبر من أمامه ببطء، لم يلحظ المسن القطار وهو قادم، ولم يلحظ قائد القطار المسن وهو يعبر، وأثناء موته لم يصدر أي صوت، ولم يرتجف.

مات في لحظة، وحتى بعد أن مات لم يلحظه أحد، لا من سبقوه للتو في عبور نفس الشريط، ولا الواقفون على الرصيف، توجهت ناحيته، ورأيته ممسكاً بمجموعة من الأوراق، أشبه بأوراق تأمينية أو إيصالات حكومية، ما يشي بأنه كان ذاهباً لإنهاء مهمة في مصلحة حكومية.

وكان مظهره بسيطاً، يرتدي قميصاً وبنطلوناً زيتيي اللون، حتى بعد أن تلطخت بالدماء والتراب تستطيع أن تلحظ أنها ملابس لم تُغسل لأيام، ما يشي أنه كان فقيراً وبسيطاً، وكان يقضي يوماً صعباً فوق ذلك.

"الأمر كان مخيفاً، بمجرد أن وطأت بقدمي خارج محطة الإسكندرية، شاهدت سيارة تصدم أحد المارة، وتدهسه أمام عيني، أذهلني ما رأيت، ثم غادرت، ولم أستطع السفر إلى الإسكندرية لمدة عامين كاملين"

ثم أسرعت إحداهن لتغطية الجزء العلوي منه بقطعة قماش سوداء، كان المشهد قاتماً، لون أسود، وصمت مميت، ووحدة، وبؤس، مشهد يثير فيك الخوف والذعر والشفقة، لكن بعد أن ابتعدت، غدا في ذاكرتي مجرد حادث.

هل كبرت مشاعري وبت أعتاد هذا النوع من المشاعر، وهذا المنظر من الجثث؟

تجيب أستاذة علم الاجتماع سامية خضر، إن "اعتياد مثل تلك الحوادث المميتة لا ينطبق بالضرورة على الجميع، هناك من يستطيع التحمل، وهناك من لا يستطيع"، مثل سعيد.

كان سعيد، وهو سائق سيارة نقل، يسافر متنقلاً بين محافظات الوجه البحري والقبلي في مصر، كان سعيد يتأثر بشدة عندما يرى الجثث، ضحايا الحوادث المميتة، خاصة في البداية، كان لزاماً عليه أن يتوقف ليساعد، وكان يرى ما يرى، لكن بمرور الوقت، وكثرة مشاهدة حوادث متفرقة، بات يرغب في متابعة طريقه لتوفير بعض الوقت.

لكنه في كل الأحوال، بالنسبة لسعيد، مشهد مؤثر له ولأي سائق، ولا يمكن التغاضي عنه، ويثير الخوف والذعر في بعض الأحيان، ويدفعه للحرص أثناء القيادة على الطريق.

من الاعتياد إلى اللامبالاة

مرورنا على نفس المكان بالصدفة يذكرنا بالمشهد وكل تفاصيله، الأمر أشبه بحالة تأبين لجثة الغريب، الذي رأيناه يموت هنا، نشعر وكأنه حق علينا لأنه مات وحيداً وخائفاً، فهو إنسان كانت لديه خطط وأفكار ومشاعر.

ولكن الأمر ليس كذلك للبعض.

"اللامبالاة وعدم الرغبة في تقديم المساعدة متعمداً، نابع من طريقة تفكير وطبيعة سلوك: هل تهتم لأمر الآخرين أم لا يعنيك أمرهم. لكن الأمر رغم ذلك يؤثر أيضاً فيك"، كما تقول سامية خضر.

الفضول للتدافع واستراق النظر حرّك سيد (اسم مستعار)، وهو أربعيني يعمل سائقاً في شركة النيل للنقل، في كل مرة يشاهد فيها حادثاً، ويدعي أنه لا يتأثر، لكني شعرت من الطريقة التي يحكي بها أنه يخاف، وتخيلته كلما مر من مكان حادث دموي يتذكر المشهد بكل تفاصيله.

جثة الغريب تثير فينا الفضول.

لا عجب، فجثة الغريب، تثير فينا مشاعر الفضول، وفيها نشاهد تجربة سيئة حية لم تحدث لنا، لكنها كان من الممكن أن تكون حدثت لنا، ورغم أن تعاطفنا في تلك اللحظة عميق، لكنه في النهاية لن يعدو أكثر من تعاطف في سبيل جثة عابرة لغريب عابر، وإن تركت أثراً فهو يتمحور حول الخوف والاشمئزاز والخشية من تكرار التجربة معنا، كما شعرت مما قاله من تحدثوا لرصيف22.

أما جثث أحبائنا فهي مختلفة. لا نتعامل معها على أنها مجرد جثة، بل هي جسد لم يفقد هويته حتى وإن كان ميتاً، ونحن مدينون لهم بالمشهد الأخير الذي رأيناهم فيه.

في دراسة أجريت، طُلب من المشاركين تقديم مبررات لرغبتهم في رؤية جثة أقاربهم بعد الموت، المشاركون قدموا أسباباً مختلفة، تدور حول أن الجسد لم يفقد هويته؛ لذا أرادوا قول وداعاً أو حتى التأكد من أن محبوبهم يتم الاعتناء به جيداً بعد موته.

سهى، (30 عاماً) أخصائية في مدرسة، اضطر ذووها إلى تأخير دفن جدتها ساعات، حتى يتسنى لها الحضور، وتوديعها بقبلة أخيرة على الجبين، كما تروي لرصيف22.

"الجثة التي نراها على الطريق تثير الذعر، ولا يمكن مقارنة ذلك بذلك"، تضيف سهى، وهي التي لم تفكر أبداً في التوقف لمشاهدة الحوادث العابرة، والتي يكون لها ضحاياها، تبرر ذلك أن الحادثة أثرها "صادم، ولا يمكن تحمل توابعه"، أما جثة جدتها فهي حتى لا تحب أن تصفها بـ"جثة".

"هي جدتي حية كانت أو ميتة"، تختم سهى حديثها.

جثة الشهيد

قد لا يرغب أحدهم في قول وداعاً لعزيز عليه رحل، لأنه يريد الاحتفاظ بآخر صورة كوّنها عنه في ذهنه، لكن حتى جثة العزيز قد تترك أثراً سيئاً.

باسل (اسم مستعار) شارك في حمل أجساد رفقائه في الميدان أثناء ثورة يناير وامتداداتها في الميادين، يقول إن الأمر في البداية، صادم ومخيف، وقد لا ترغب في المشاركة مرة أخرى.

بات باسل يعاني من خوف شديد من فقدان أحد أحبائه، ويعاني أيضاً من الكوابيس التي باتت تأتيه دوماً، ومتعلقة بجثث رفقائه في الميدان.

هل رأيتم جثة ميتة في الشارع من أثر حادث طريق دموي؟ هل اعتدتم المشهد فلم يعد يؤثر فيكم؟ هل من الصحي والمفيد أن تنسوا منظر اللحظات الأخيرة لأجساد الغرباء أو الأقرباء إلى قلوبكم؟

يحكي باسل عن المرة الأولى التي ساعد فيها في حمل شاب أصيب بطلق ناري، وتوفي بمجرد إدخاله سيارة الإسعاف، أنه بكى كثيراً في تلك المرة، ثم قارن الشاب بأخيه، ماذا لو كان أخي؟! ولم يشارك في أي أحداث إلا بعد حوالي شهر، وبات يخاف كثيراً من فقدان أحد أحبته، "خاصة لو توفي غدراً"، كما يقول.

كان باسل قد رأى من قبل حوادث موت على الطريق، لكنه لم يفكر أبداً في استراق النظر، ولم يكن لديه دافع الفضول، خوفاً من توابع رؤية أمر كهذا.

فكرت كثيراً في كلمات باسل عن جثث شهداء ثورة يناير، وفكرت أنه ربما تكون جثة ذلك الجسد الشاب، الذي شاركنا أفكارنا، ورؤانا للمستقبل، ودفع ثمنها بدلاً منا، هي الأقرب إلينا، والأكثر تأثيراً فينا، مقارنة بأقربائنا، والغرباء.

ما دعاني إلى تفكيري هذا، أنني "شفيت" من تأثير صدمة الجثة الأولى، ويبدو من صوت باسل، أنه لم "يشف" بعد، ولعله لا يرغب في الشفاء، والنسيان.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard