شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"لماذا أنا بالتحديد أيّها الرب؟"... من يوميّات أب لطفل لديه متلازمة داون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 31 أغسطس 202108:41 ص

بينما طفلي بحر، الذي يعاني من متلازمة داون، لا يزال نائماً -وأقول طفلي تجاوزاً، لأنّه في الحقيقة أصبح في الخامسة عشر من عمره- ما يحتّم عليّ إذاً، أن أستيقظ باكراً، وأجلس أمام الطاولة، لأنجز شيئاً ما في ساعة، أو ساعتين، قبل أن يستيقظ، لأني عندما أفكر بمتلازمة ابني الوحيد، لا أستطيع في الحقيقة أن أفصلها عن ملازمتي له، والعكس صحيح؛ ملازمته لي في كلّ شيء في هذه الحياة، فتغلبني الابتسامة، بل أحياناً ضحكة ساخرة قليلاً، وممتعة بحق، و منذ ذلك الوقت الذي توقّفت فيه عن التفكير في "تلك الجملة"، عندما جاء إلى هذا العالم، واكتشفت حالته مبكراً، أي؛ "لماذا أنا بالتحديد أيّها الرب، أيّها العالم، ألا يكفي ما حدث لي في حياتي؟!".

وعندما سألني صديق مقرّب، عندما زرته أنا وبحر في مرسمه، وكان سعيداً جدّاً ببحر اللطيف الذكي الموهوب، وهو يعلم طبيعة ظروفنا الصعبة في العناية به، أنا وأمّه: "إلى متى سيبقى متعلّقاً بك هكذا يا علي؟". عندها ضحكت بمتعة كبيرة، وأجبته: "إلى آخر يوم في حياتي يا صديقي".

الهجران

قبل انفصالي عن "أم البحر"، منذ ما يقارب الخمس سنوات، كان لابدّ من حصر الأمور، وتحديد الأولويّات، في ما يخصّ طفلنا الوحيد، لكيلا يقع ضحيّة هذا الخلاف، وكاثنين ناضجين قرّرا الهجران، والذهاب كلّ في طريق، كان لا بدّ من التفاهم على الطفل بصفة احترافيّة، ونبيلة، وخالية من التعقيدات. ولكوني الأقدر على رعايته، والاهتمام به من زوايا عديدة، ونظراً إلى طبيعة عملها الصعب، كان القرار أن يسكن معي أغلب أيّام الأسبوع، ويذهب ليقضي عندها يومين، أو ثلاثة، أسبوعياً، لتعتني به بطريقتها الخاصّة، وأن نحوّل خلافنا إلى صداقة حقيقيّة، حفاظاً على مصلحته، وفي الحقيقة حدث أكثر من ذلك، وأصبحنا أخوين بما لا يدعو إلى الشك، وهو أمر يدعو في جوهره إلى الضحك، والتشفّي الكبير من هذا العالم؛ أن تصبح حبيبتك القديمة، أو طليقتك، أو سمّها ما شئت، بمثابة أختك، وكأنّكما نزلتما من بطن واحد، تلك بحقّ أثقل وأجمل ضربة يتلقّاها الواقع الاجتماعي في عالم متخلّف أصلاً، ولا يرقى في حضوره إلى مستوى مجموعة إشارات تنتمي في جذورها إلى "جهلٍ"، كما تريد المواضعات التقليدية العتيقة أن تصدّره لنا.

في الحقيقة حدث أكثر من ذلك، وهو أمر يدعو في جوهره إلى الضحك، والتشفّي الكبير من هذا العالم؛ أن تصبح حبيبتك القديمة، أو طليقتك، أو سمّها ما شئت، بمثابة أختك، وكأنّكما نزلتما من بطن واحد

طقوس النهار

الطقس الأوّل لبحر، يكون عندما يستيقظ من النوم، ويلاحظ أنّني لست إلى جانبه:

قادم من النوم على حصانه القطني، يأتي بهدوء ليعانقني، وأنا جالس على الطاولة، أو واقف على المجلى، أو مسترخياً على الأريكة، أفتح ذراعيّ هكذا لاستقباله. يضمّني بشدّة نحو خمس دقائق على الأقل، ويقبّلني على وجهي، ويضع خدّه على خدّي، ويمسك براحة يدي، ويضعها بين راحتيه، ويشرد قليلاً بصمت... لا صوت... لا حركة... ثمّ يربت على كتفي، أو أربت على كتفه، وينهض هو، أو أنهض أنا، وأذهب إلى عمل منزليّ ما، بينما يذهب هو إلى الموسيقى... الحاجة الأساسيّة الدائمة له، قبل الطعام والشراب، وقبل السؤال والجواب، وقبل السماوات، وما بعدها.

 متلازمة توم وجيري

إن كانت الشمس ستشرق بقوّة، ويخفت حنين طائر الهزار على النافذة صباحاً، ليتحوّل إلى حركة، وصخب، وضجّيج، فهذا يعني أنّه سيكون على بقيّة الكائنات على الأرض في وسط الطبيعة، أن تلحق الرائحة كما يقال، أو تلك الحركة بتلقائية الجذب والنبذ، والشدّ والمراوغة، ومنها أنا وبحر؛ وإذ يبدأ بالاستماع إلى الموسيقى بشغف كبير، وبصوت معتدل في البداية، ينظر إليّ بطرف عينيه، كتأكيد منه على أنّه يتفهّم الموقف، ولن يرفع الصوت أكثر من ذلك، وأنا بدوري أمثّل دور المتجاهل، وأنا في قرارة نفسي أعلم علم اليقين أنّه بمجرّد أن أدير له ظهري، وأبدأ بعمل منزلي ما، سيرفع الصوت تدريجيّاً إلى الحدّ الأعلى، فهو بالطبع يفضّل الصوت العالي، أيّاً كان نوع الموسيقى التي يستمع إليها.

ولأنّ هذه القصّة أصبح عمرها الآن أربع سنوات، ولم نصل إلى حلّ جذريّ لها، ولم تنفع معه لا المحاضرات المتكرّرة يومياً، والمعاد تكرارها بصيغ مختلفة إلى حدّ الاهتراء، ولا الحزم الرقيق إلى حدّ الميوعة، سيكون علينا أن نحصل، أنا وهو، على حركة صامتة متبادلة؛ هو يقوّي الصوت، وأنا أذهب بهدوء لأخفضه إلى الحدّ المقبول، وهكذا دواليك، إلى أن تنقطع الكهرباء، فيكون عليّ أن أرتاح، وكأنّي لم أكن أنتظرها بفارغ الصبر لساعات، ويكون عليه أن يعترض ويحرد، ثمّ يذهب إلى مزاولة هواية أخرى، وأكون قد انتهيت من إعداد الفطور؛ حسناً يا بحر... تعال لنفطر!

 "إلى متى سيبقى متعلّقاً بك هكذا يا علي؟". عندها ضحكت بمتعة كبيرة، وأجبته: "إلى آخر يوم في حياتي يا صديقي"

أن أكون طفل ابني الدائم

عندما كان صغيراً، في عمر الأربع سنوات، كان أطفال العالم ينامون على الحكايات، أمّا بحر، فكان لا ينام إلّا على حكاية، ولا يفيق إلّا على حكاية، ولقد تطلّب منّي الأمر حكايات من شتّى أنواع المخيّلة، وفيها شتّى أنواع الحيوانات والبشر، ومن شتّى أنواع الصيغ الفنيّة المعاد تكريرها، والمصفّاة بأساليب الدهشة، والمفارقة، وحسّ النكتة المحبّبة إلى قلب بحر، وعلى مدار ما يقارب العشر سنوات، ولا أريد هنا أن أنفعل بشدّة الآن لعودتي إلى هذه الذكريات الدافئة، ولكوني قد توقّفت عن سرد الحكايات له قبل النوم، والاستيقاظ لأنّه قد أصبح بسنّ المراهقة وهو بحاجة إلى حكايات من نوع آخر، وتحدّ من نوع آخر، إنّما أريد هنا أن أؤكّد على مجموعة أشياء في شيء واحد:

كيف يمكن أن تحوّل تلك العزلة المفروضة عليك "يا علي حميشة"، في وسط معادٍ في جوهره لك، ولطفلك، في المقام الأوّل، وثانياً ذلك الحياد البارد الذي ينمّ عن إساءات فهم من الوسط السيء الذكر ذاته، إلى حركة مضادة، وانفراج ذهنيّ، وحياتي، وأخلاقيّ، مليء بالطموحات، أساسه العمل بقوّة وصبر شديدين، وثقة بالنفس -لا يجب أن تتبدّد، ولو لثانية واحدة- وإلّا انهار كلّ شيء دفعةً واحدة، تحت تلك الضربات المتتابعة لانحطاط القيم على الصعيد الفرديّ، أو الانحطاط العام لمجتمع بأكمله؟

أن أكون طفل ابني الدائم في المقام الأوّل. تلك هي بحقّ، الطريقة الوحيدة الممكنة لتمرير الخبرات الذهنيّة والإنسانيّة كافة إلى هذا الطفل، وذلك بالضبط هو الضياع الأجمل الذي كنت أهجس به على الدوام. وها قد أتى إليّ وحده، على طبق من فضّة

في الحقيقة، كانت الإجابة الوحيدة الممكنة على هذا السؤال، هي أن أعمل بجدّ واجتهاد، على أن أكون طفل ابني الدائم في المقام الأوّل. تلك هي بحقّ، الطريقة الوحيدة الممكنة لتمرير الخبرات الذهنيّة والإنسانيّة كافة إلى هذا الطفل، وذلك بالضبط هو الضياع الأجمل الذي كنت أهجس به على الدوام. وها قد أتى إليّ وحده، على طبق من فضّة.

أو ربّما، كما قال بحر في قصيدة شفهيّة سجّلتها له، وها أنا أثبتها الآن على للمفارقة فحسب:

أسنان أبي

تصطفّ على الدبكة.

سأمزّق قميص أبي الجديد

وأعمل منه ممسحة

على باب الدار!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard