شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"لا أصدّق أنّه مرّ عام"... عن بيروت المنكوبة ومشاعري الرمادية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 31 يوليو 202101:49 م

مجاز النترات


لم أكن أتصور أنني في يوم من الأيام، سأكره بيروت إلى هذا الحدّ.

قبل شهر من حادثة الانفجار، سألتني الطبيبة النفسية عن شعوري تجاه الوضع في الأزمة والبلاد، علمت حينها أنها سألت هذا السؤال لأنها نفسها غير مرتاحة مع الوضع وتريد المغادرة.

ربما كانت طبيبتي تسقط مشاعرها على الآخرين لتجد تبريراً لما تشعر به، وربما سؤالها كان عفوياً، لأنّ الجميع لديه مشكلة مع الوضع القائم، باستثنائي طبعاً، بحيث أجبتها بكل ثقة: "أنا أحب بيروت كثيراً ولا أريد المغادرة أبداً".

للأسف، كنت من الأشخاص الذين يرون بيروت بشكل مبالغ به. وحينها بررت لها أنّني أحب أن أشعر بالأشياء، لأن المشاعر بالنسبة لي صعبة، ولا أشعر بها حتى تكون واضحة ومن الصعب أن أعبّر عنها.

كل شيء في بيروت واضح. فهذه المدينة لا تضعكم/نّ في مكان رمادي، إنما دائماً أبيض أو أسود. دائماً أسود ربما، وقليلاً ما تجدون/ن أنفسكم/نّ في الأبيض، وإن وجدت، سيكون هذا أسعد يوم في حياتكم/نّ.

مشاعر الحزن والغضب والقرف دائماً موجودة، ومع هذا قد تجد شخصاً طيّباً وحالة جميلة من عدم التنظيم والفوضى، تشعركم/نّ أنّ التشتت هو أمر عادي يمرّ به الجميع و"عادي" أن نكون كما نحن، ملخبطين وغير مدركين لما نريده حقاً.

لكن هذا كلّه هراء.

صححت لي طبيبتي النفسية، التي كانت ماهرة أكثر منّي في تحليل ما يجري حقاً، بالقول: "نحن دائماً في الأسود في بيروت، وحينما تأتي تلك اللحظة الجميلة في المدينة التعيسة، نشعر وكأنّ الكون يكافئنا. ولا نشعر أنّنا نستحق هذا".

أن نحرم من كل وسائل الراحة كل يوم وأن نجد لحظات صغيرة من الفرح والضحك قد يضعنا في منطقة رمادية هي مسألة غير مفهومة. بيروت تشتّت مشاعرنا جميعاً، وبالنسبة إلي، هذا أمر رائع. لقد أحببت بيروت لأنّها سامة وبطبيعة الأحوال أحبّ السموم. هي تشبه علاقاتي العاطفية. علاقات غير واضحة، ومشاعر ملخبطة والبحث الدائم عن المنطقة البيضاء بعد المرور بمنطقة سوداء تشبه جهنّم. إنّها ليست الرغبة بالشعور التي تعجبني ببيروت، إنما هي المشاعر الكثيرة والملخبطة بين أناس طيبين وكهرباء مقطوعة.

"نحن دائماً في الأسود في بيروت، وحينما تأتي تلك اللحظة الجميلة في المدينة التعيسة، نشعر وكأنّ الكون يكافئنا. ولا نشعر أنّنا نستحق هذا"... مجاز "النترات" في رصيف22

اقتنعت يومها أنّه مثلما أحبّ العلاقات السامة والعاطفة المشتتة، أحبّ هذا السمّ في بيروت. مشيت واثقة بنفسي أنّني وصلت لأسمى أنواع الفلسفات وفهمت علاقتي بهذه المدينة مثلما فهمت علاقتي بأشخاصها. حتى يوم الانفجار. أكلت تلك الصفعة التي لم أكن أنتظرها أبداً. كان كل شيء مرئياً بالنسبة إليّ. كنت على بعد 30 ثانية من المرفأ متجهة نحو شركة الكهرباء. لم أسمع أياً من الأصوات التي سمعها الجميع. شاهدت حريقاً يتصاعد وقررت أن أتصل بالدفاع المدني لأخبرهم ما يجري وفجأة تفجّر كل شي أمامي.

كان كل شيء مرئياً. شاهدت شبحاً ضخماً من نار. كان يشبه انفجار الأفلام. غبت عن الوعي لدقيقة واستيقظت في التاكسي. كل شيء من حولي كان لونه رمادياً حرفياً، صوت زجاج يتكسر وصراخ، وصمت غريب ما بينهم.

لم أعلم ما حدث. ظننت أنّ الانفجار كان بجانبي، وهو كذلك. لكن عندما أوصلني التاكسي إلى المكان المقصود، شاهدت جثثاً على الأرض ورجلاً دخل الزجاج في فمه والكثير من الدماء.

كنت ضائعة يومها، يخبرني صديق لي أنّه رآني، وحينما صرخ كي يأخذني بسيارته، لم أردّ ونظرت إليه وأشّرت له بيدي "اذهب من هنا". لا أتذكر كل هذا. بقيت في حالة من الضياع لأربعة أيام. لم أفهم المشاعر أبداً، كنت في اليوم الثاني أنظّف الطريق وأكمل عملي وأضحك مع صديقي لأنّه يلعب بلايستيشن والبيت مدمر، وأحزن أنّ حانتي المفضلة دُمرت. كانت المشاعر سخيفة وسطحية. أحزن على حانة وربما قد مات من يعمل بها؟ استغرقني 4 أيام لأفهم ماذا جرى في بيروت وأفهم أنّ تنظيف الشارع ليس وسيلة لألهي نفسي بها.

طلبت منّي طبيبتي النفسية أن أبتعد عن "التروما" جسدياً. أن أغادر إلى جبل ما وأتوقف عن التظاهر وتنظيف الطريق، لأنّني أطبّع علاقاتي مع هذه الصدمة. وبالفعل، ابتعدت لفترة لأفهم ماذا جرى.

مرّ عام، وما زلت حتى الآن لا أفهم ماذا حدث في ذلك الوقت. ربما المكافأة هذه المرّة كانت عدم موتي.

أحلم أحياناً بإنفجارات صغيرة جميلة لونها بنفسجي وبرتقالي، وغالباً ما أقف أشاهدها في الحلم وأقول "واو". ربما هذا الوقوف أمام المشهد هو المشكلة.

بيروت تشغلنا، بانهياراتها ومستقبلنا الضائع. ننسى أن نشفى لأنّنا لا نملك الوقت لكي نستوعب مشاعرنا. نحن دائماً نحاول أن نبقى على قيد الحياة بها... مجاز "النترات" في رصيف22

كان لا بدّ أن أهرب قبل الانفجار وقبل الانهيار أو حينها حتى. أن أركض على الأقل كي لا أسجن هذه الصدمة وأفهم ما يريده جسمي. كان لا بدّ أن أجد مكاناً آخر وأن أقطع علاقاتي السامة بهذه المدينة. اعتدت على بيروت ولخبطة المشاعر بها. حتى في الانفجار كانت مشاعري ملخبطة وغير مفهومة. وما زالت كذلك حتى الآن.

يوماً بعد يوم، أطبّع علاقاتي الملخبطة. ولا أشفى. لم يشف أحد من الانفجار. ودائماً نسمع حولنا من يقول "لا أصدّق أنّه مرّ عام".

بيروت تشغلنا، بانهياراتها ومستقبلنا الضائع. ننسى أن نشفى لأنّنا لا نملك الوقت لكي نستوعب مشاعرنا. نحن دائماً نحاول أن نبقى على قيد الحياة بها.

هذه المدينة تضعنا في منطقة رمادية قبيحة وإن اعتدنا عليها، لن يكون من السهل الخروج منها أبداً، حتى نقتنع بالمغادرة، ومع هذا لن نغادر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard