شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
حين فجّروا المدينة... حيرة الموجوع في جمجمته

حين فجّروا المدينة... حيرة الموجوع في جمجمته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 4 أغسطس 202110:57 ص

"بيروت- بعد عام"، خمسة أفلام قصيرة من إنتاج IMS وبيروت DC يروي فيها خمسة سينمائيين لبنانيين شهاداتهم بعد عام من الانفجار الذي دمر بيروت في الرابع من آب عام 2020. الأفلام الخمسة تُعرض على منصة أفلامنا ضمن برنامج "عن مساحة الكارثة والتعبير" وتُنشر للمرة الأولى من خلال رصيف22.

يُقسمُ الناس في بيروت إلى ثلاث فئات: "من رأى، من عاش ومن مات"، ذلك حسب جان كلود بولوس، في فيلمه القصير "ورشة". لن نخوض في استراتيجيات التواصل والإحراج الناجمة عن هذا التقسيم، لكن نذكر ما قاله بولوس: "حين تقول إنك مصاب، يَثقُلُ الجو فجأة، ويحار الناس أين عليهم النظر أو ما الذي يمكن قوله، فالناس لا يريدون الحديث عمن نجوا، أولئك الما بين بين".

حيرة بولوس الذي كاد أن يفقد حياته واضحة في الفيلم، يستعيد ما حصل وبشكل ثرثرة تتناول شخصاً "آخر"، حديث عابر، أو مؤقت في مدينة تحاول النجاة، وربما هو الفضول نفسه الذي دفعه أن ينجز فيلماً، لكن فيلم عن ماذا؟ كلبته التي يمشيّها؟ الإصابة في جمجمته؟ من سمع عن موتهم؟

حيرة كلود بولوس الذي كاد أن يفقد حياته واضحة في فيلمه "ورشة"، الذي يستعيد فيه ما حصل معه  في 4 آب بشكل ثرثرة تتناول شخصاً "آخر"،أو حديث عابر، مؤقت في مدينة تحاول النجاة

نسف الانفجار الجديّة، فلا أسوأ مما حصل، أيضاً هذه الفئة "بين بين" يمكن وصفها، إن استثنينا بولوس، بأنها لا تنشط في الفضاء العام، فئة تحاول لملمة ما تشتّت وتدمر من حياتها، من أجل الاستمرار والنجاة في مدينة لا تصلح للحياة.

أصوات تلك الفئة غير مسموعة، نراهم في الفيلم دون أوجه واضحة، رجل يجلس في كازية فارغة، آخر يمرّ في الشارع، أحدهم على درجاته يحاول الوصول إلى منزله، أولئك الذين يختفي وراءهم صوت بولوس "أرقام" ربما، لكن أيضاً هم المدينة ذاتها، يرسمون حدوداً جديدة لأرضها التي لم تعد ثابتة، أرض لا تصلح للمشي (حرفياً)، لكن ربما تصلح للانتظار، للتظاهر بالحياة، للملمة ما تبقى من حطام، أو للاحتفال كما نرى في الفيلم، أو ربما للتأمل باحتمالات متخيلّة تبدأ بسؤال:

ماذا لو حدث الانفجار قبل يوم، أو بعد يومين؟ فنترات الأمونيوم في المرفأ منذ عام 2014، أي هناك ملايين احتمالات الخراب التي لم تتحقق.

يحدق بولوس من شرفته بالمدينة، واضعاً صورة شعاعيّة لقفص صدري، يلتبس إثر ذلك "الداخل" مع "الخارج"، وكأن بولوس، المصاب في جمجمته، يضع نفسه، ككل من "رأى"، بمواجهة المدينة، كلاهما نجا، لكن، برغم الجروح والرضات والكسور التي قد تلتئم، هناك ما هو أعمق، ما لا نراه بالعين.

وهنا يمكن أن نفهم الصورة التي نراها أمامنا: هناك عطب عميق لابد أصاب "الجميع"، يبدأ من اللغة و ينتهي باللحم نفسه، وباطنه وداخله، فالصورة الشعاعيّة علامة على ما هو غير طبيعي، ما لا تراه العين، ما قد يستمر طويلاً دون أن "يشخّص" أو "يداوى"، وهنا نطرح السؤال، وإن أعيد إعمار المدينة بأكملها، ما الذي سيبقى دفيناً من جروح؟ ما هو ذاك الذي لا تراه العين؟

حالة التيه عند بولس تظهر أمام الحطام الذي شهدته المدينة وغياب محاسبة من كان متسبباً، فلا "استقرار" على الأرض، كل ما هو قائم مؤقت وقابل للانفجار، هذا الاحتمال أصبح الآن حاضراً لدى الجميع...

يطرح بولوس نهاية الفيلم سؤالاً: "ما الذي أفعله هنا في هذه الورشة؟". ربما يقصد منزله أو مدينته، لكن ما يثير الاهتمام في كلمة ورشة هو المخاطر التي تحويها، وكأن الجميع "عمّال" مهددون بحتوف لا يمكن توقعها، وهنا نفهم سؤال بولوس بصورة أخرى، هناك فئة صامتة تحاول أن تعيد بناء المدينة، بعيداً عن كل الحسابات السياسية، فئة "نجت" وتريد الاستمرار في النجاة.

أما بولس فمحتار، ما الدور الذي يمكن أن يلعبه من نجا في إعمار مدينته التي انفجرت؟ أيحاول مداواة جروحه أولاً، أم ينزه كلبته في شوارع المدينة، أم يتأمل في سكانها؟

هذه الحيرة تظهر أمام الحطام الذي شهدته المدينة وغياب محاسبة من كان متسبباً، فلا "استقرار" على الأرض، كل ما هو قائم مؤقت وقابل للانفجار، هذا الاحتمال أصبح الآن حاضراً لدى الجميع، ما قد يشلّ الحركة ويترك الكثيرين كحالة بولوس، يتأملون من شرفاتهم ما يمكن أن ينفجر أيضاً، فكل صلب لا بد أن يتبخر، النبوءة المابعد حداثية تحققت، التراب مزحزح لا ثبات عليه، حتى العظم مكشوف أمام الفساد السياسي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard