شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
منحوتات من وهم وجنس... هل يفشل الكتّاب المغاربة في تخيّل النساء؟

منحوتات من وهم وجنس... هل يفشل الكتّاب المغاربة في تخيّل النساء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 26 يوليو 202101:26 م

بطلٌ بلا ملامح، ولا شخصية، لا نعرف هدفه، ولا دوافعه، ولا ماذا يدور في خلده أحياناً. حياته فارغةٌ من أي محتوى. لا يميّزه أي شيء عن الذكور الآخرين الذين نراهم في الواقع، ذلك أن الكاتب لم يبذل أي مجهود في بناء شخصيته البطلة، ولم يمنحها أي مميّزات، ولم يجعل لها أي شيء يدهشنا، ولو كان سلبياً.

مع ذلك، تجد هذا البطل محاطاً بالنساء من كلّ نوع. يعشقنه ويذُبن فيه. هكذا، بلا أي سبب يُذكَر، ومن دون أن يبذل الكاتب عناء أن يُخبرنا أن بطله وسيم، أو جميل الهيئة. كأنه يستمد قوة شخصيته البطلة من عدد النساء المحيطات به واللواتي يعشقنه.

تصبح النساء هنا مجرّد دمى تتحرّك من أجل البطل/ الذكر. لا شخصية لهنّ، ولا دوافع، ولا معاناة، ولا ماضي، ولا مستقبل. يُجرَّدن من إنسانيتهنّ، ويصبحن مجرّد "كراكيز"، يعشقن البطل/الذكر ويتذللن له، بينما لا يكترث لهنّ ولا يعير مشاعرهنّ أيّ اهتمام، لأن لديه ما هو أهمّ من الحبّ، وما هو أهمّ من النساء. أما هنّ، فليس لديهنّ ما هو أهمّ منه.

هذه ليست مجرّد مقدّمة لموضوعنا، لكنّها ملخّص لرؤية كاتب مغربي للنساء في روايته، وهي رواية معروفة، قرأها كثيرون، وأُعجبوا بها، ومنهنّ نساء، مع أنه صوّرهنّ مجرد وعاء للجنس، لا يرى فيه البطل سوى المتعة الجنسية، فحسب.

هكذا نجد في بعض رواياتنا المغربية التي كتبها رجال، باستثناء قلة منهم، شخصيات نسوية مفرغة من إنسانيتها، شخصيات نسائية سطحية لا يحرّكها أي شيء في الحياة؛ لا مخاوف، ولا أحلام، ولا هموم، ولا طموحات. ما يفعلنه كله في تلك الروايات، أنهن يمارسن "التعرّي" أمام البطل/الذكر ليثرن إعجابه، وهو ما يُظهر، بشكل جلي، فشل الكثير من الكتاب الرجال في الحديث عن المرأة، وحاجتنا إلى كاتبات وكتّاب يكتبون أدباً حقيقياً عن النساء.

أمّ قديسة أو عاشقة لعوب... لماذا يعجز الكتاب المغاربة عن بناء شخصيات نسائية في أعمالهم الروائية؟

"مدام بوفاري" و"آنا كارنينا"... نساء بأقلام رجال

عندما تقرأ رواية "مدام بوفاري" لكاتبها الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، والتي صدرت عام 1857، لا يمكن أن يخطر على بالك أن كاتب الرواية رجل. فبالإضافة إلى أن الشخصية المركزية امرأة، نجح فلوبير في نقل مشاعر شخصيته إيما (مدام بوفاري)، بدقة وعناية، جعلتا من الرواية واحدة من أروع الأعمال الأدبية على الإطلاق.

هناك أيضاً الرائعة "آنا كارنينا" للروائي الروسي ليو تولستوي، التي تُعد واحدة من الأعمال الأدبية العظيمة، بل أثراً إنسانياً وعالمياً خالداً. استطاع تولستوي، الكاتب الرجل، أن ينفذ إلى أعماق شخصيته النسائية "آنا"، وينقل لنا، بدقة وإخلاص وبكثير من الإبداع أيضاً، مخاوفها ورغباتها وشعورها العميق بالذنب. بل إن تولستوي ذهب أبعدَ من ذلك، لأنه ناقش قضايا اجتماعية مهمّة واجهت أوروبا والعالم بعد الثورة الصناعية، من خلال قصَّةٍ بطلتها شخصية نسائية!

لماذا إذاً لا نرى نساء يشبهن آنا كارنينا ومدام بوفاري في أدبنا المغربي؟

المرأة... أمٌّ قديسة أو عاهرة لعوب!

بالنسبة للكاتبة المغربية فدوى مسك، فإنّ "الكتّاب الرجال المغاربة قدّموا فعلاً صورة نمطية عن المرأة، لوقت طويل. فهم يتحدثون عن المرأة، وليس عن النساء، كما لو أنهم يتحدثون عن جماعة يتشابه أفرادها في كل شيء، على عكس الرجال الذين يمتلكون الحقّ في أن يكونوا شخصياتٍ مختلفة ومعقّدة وعميقة ومعذّبة. حتى بناء الشخصية الروائية، كان دائماً متطوراً حينما يتعلّق الأمر بشخصياتٍ ذكورية، مقارنة بالشخصيات النسائية".

وتفسّر مسك هذا النزوع إلى تقديم شخصيات نسائية سطحية عند الكتّاب الرجال، بكونها غالباً الصورة الحقيقية التي يرون عليها المرأة، وهي صورة "كليشيه" تختصر المرأة في شخصيتين لا غير: الأمّ القديسة، أو العاهرة اللعوب.

هل صورة المرأة السيئة في الرواية المغربية تعود إلى جهل بطبيعة الإنسان المعقدة أم لصورة نمطية تحصرها في أدوار محددة؟

وتضيف الكاتبة المغربية لرصيف22: "عندما يأتي هذا ‘الكليشيه’ من العامّة، فهذا أمر عادي وطبيعي جداً، لكن عندما يأتي من كتّاب، فهذا يعني أنّ هناك مشكلة حقيقية، لأن هؤلاء عليهم أن يكونوا أكثر عمقاً في نظرتهم إلى الحياة والأشخاص، وأن يعتمدوا التحليل العميق في تقديمهم لشخصياتهم".

كسل وقلّة إبداع؟

للكاتب المغربي عبد الكريم الجويطي رأي آخر. فهو يختصر الموضوع كلّه في أنّ "هناك كتابة جيّدة، وأخرى سيّئة". يسترسل صاحب رواية "المغاربة"، التي حققت انتشاراً واسعاً مفسّراً طرحه: "لا تطال الكتابة السيّئة المرأة فحسب، بل ما تنسجه كله، فيستوي متهافتاً ضعيفاً، وغير مقنع. الكتابة الجيّدة لا تلتقط مقوّماتها وشخوصها من الواقع، وإنما تبنيها بناء قد لا يشير إلى واقع معيّن، لكنه يخلق واقعاً خاصاً مكتفياً بذاته، ولا يحيل إلاّ على نفسه".

ويكمل الجويطي حديثه لرصيف22 قائلاً: "لا وجود لمدام بوفاري في الواقع، ولا تتطابق مع شيءٍ حدث، إنها لا توجد إلا داخل حكايتها. وتمثلت عبقرية فلوبير في إقناعنا بهذه الشخصية، حتى صارت أكثر واقعية من النساء اللواتي نخالطهنّ كلهن".

"لا أدري هل هذه السطحية في خلق الشخصيات النسائية وتقديمها، راجع إلى أنّ الكتاب الذكور أنفسهم متأثرون بالعقلية السائدة في مجتمعهم، أم هي أنانية الكاتب الذي يركّز على شخصيته الرئيسية التي تكون في الغالب رجلاً، أم هو كسلٌ في الكتابة وقلة إبداع؟"، تتساءل فدوى مسك من جهتها.

نماذج مشرقة في الحديث عن النساء

لا يزخر الأدب المغربي الذي كتبه رجال، بنماذج قدّمت النساء في صور نمطية فحسب، بل هناك نماذج مشرقة أيضاً استطاعت أن تصوّر شخصيات نسائية عميقة، ومعقّدة، وأن تسبر أغوار نفسياتها. فرواية "الماضي البسيط" Le passé simple لإدريس الشرايبي، تنقلنا إلى عالم امرأة أمّية لم تمتلك يوماً فرصة التعلّم، إذ إن الكاتب ارتدى جلباب هذه المرأة التي تبدأ في الاستماع إلى الراديو، واكتشاف العالم من خلاله، ببراءة وسذاجة جميلتين. وتُعد "الماضي البسيط" التي صدرت عام 1954 من الروايات المؤسسة للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، وحظيت بدراسات نقدية كثيرة من قِبل النقاد المغاربة أو الفرنكوفونيين.

تصف فدوى مسك هذه الرواية بكونها "من أجمل ما كُتِب عن النساء"، وتضيف أن "هناك كتّاباً آخرين من بينهم الكاتب المغربي الفرنكفوني رشيد خالص، الذي خلق شخصيات نسائية جيدة، والكاتب الروائي ماحي بينبين، الذي يمتلك قدرةً عجيبة في الحديث عن النساء. هذا الأخير استطاع في روايته Rue du Pardon أو "درب العفو"، أن يدخل في شخصية شيخة (الراقصة والمغنية الشعبية)، وفي جسدها، منذ نعومة أظافرها، وهي تتعرض للعنف وتُغتَصب من والدها".

وأخيراً، "من يعرف نفسه كفايةً؟ من له القدرة على أن يكتب ما يدور في داخله كله، حتى يدعي أنه قادرٌ على كتابة ما يدور في دواخل الآخرين؟ الذات عمق أسطوري، كما قال رولان بارت، ويقوم الفن، والكتابة، دوماً، بإنجاز عمل دؤوب للاقتراب من هذا العمق. ومن يخفق في وصف عصفور، سيخفق في بناء شخصية مقنعة"، يختم الجويطي حديثه لرصيف22.

وبهذا، تكون النساء المغربيات بحاجة إلى مبدعين حقيقيين قادرين على سبر أغوار النفس البشرية، متحررين من الأحكام المسبقة والصور النمطية، كي ينجحوا في خلق شخصياتٍ نسائية قوية، ليست بالضرورة قريبةً من الواقع، لكنها بالضرورة بعيدة عن التنميط والقولبة الجاهزة في صورة الأم القديسة المضحية، أو المرأة الضعيفة التي تتوقف حياتها عند رجل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard