شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
لبنان بعد انتخابات نقابة المهندسين... ضوء خافت في هوة بلا حدود

لبنان بعد انتخابات نقابة المهندسين... ضوء خافت في هوة بلا حدود

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 23 يوليو 202111:40 ص

لم تتجاوز نسبة الذين اقترعوا في انتخابات نقابة المهندسين في بيروت 20% من مجموع المسجلين على جداول النقابة. وفي ظروف صعبة كالتي يمر بها لبنان، يصعب الظن أن اللامبالاة، أو الافتقار إلى الحماسة، قد تكون السبب الذي منع أكثر من 80% من مهندسي لبنان من الاقتراع، رغم أنه لا يمكن إغفال شعور كثيرين من اللبنانيين بلا جدوى أي نشاط عام، ما داموا يرون أن البلد لم يعد قابلاً لتقوم له أي قائمة.

لا أحد يملك معطيات دقيقة حول أعداد المهندسين اليائسين ونسبتهم من المجموع العام. لكن مجرد الظن بوجود نسبة ما منهم تؤشر بلا تردد إلى احتمالات تخص مستقبل البلاد.

في المعطيات التقريبية، ثمة نسبة تزيد عن نصف عدد المهندسين المسجلين في النقابة على الأقل، تقيم اليوم خارج البلاد. وهؤلاء بطبيعة الحال لم يهاجروا جميعاً في الشهور القليلة الماضية. فالجامعات اللبنانية منذ تأسيس البلد وحتى اليوم، كانت وما زالت تخرّج طلابها إلى أسواق عمل خارجية لأن السوق اللبنانية محدودة، ولا مجال لتشغيل كل الخريجين فيها.

مع ذلك، ثمة نسبة كبيرة من المهاجرين هاجروا في السنوات الأخيرة، وثمة نسبة أخرى من المتبقين في لبنان تسعى للهجرة أيضاً، إذا وجدت لها سبيلاً مفتوحاً.

خلاصة هذا التقسيم أن بلداً يُقدّر عدد القاطنين فيه حتى اللحظة بأكثر من خمسة ملايين شخص يضم ما يزيد قليلاً على 20 ألف مهندس أو نحو هذا الرقم، لن يستطيع النهوض بأي خطة إعمارية أو إنقاذية إذا ما توافرت له الموارد. فنسبة المهندسين إلى عدد السكان في الدول المتقدمة والنامية، تترواح بين 1.5 إلى 2 مهندس لكل مئة مواطن. ومع ذلك ثمة دول كثيرة متقدمة، كألمانيا والدنمارك، تعاني من نقص في عدد المهندسين وتسعى إلى تأمين هذا النقص عبر فتح باب الهجرة للخريجين من دول تشهد تدنّياً في الدخول الفردية ووفرة في أعداد الخريجين كما هو حال الأردن مثلاً.

السمعة... والصيت

بعض أساسيات النمو تتصل بالسمعة والصيت. لا ينجح بلد، صغيراً كان أم كبيراً، في تحقيق نمو اقتصادي، إنْ لم يكن قد حاز على سمعة تفيد بأنه بلد متقدم. بعض الدول التي تعاني من مصاعب اقتصادية تحاول ما أمكنها إخفاء هذه المصاعب، لئلا تتأثر سمعتها، فيتأثر سوق الاستثمار فيها على نحو سريع ودراماتيكي، وبعضها الآخر تساعده سمعته المحققة على تجاوز محن اقتصادية كبيرة، ما كان ليتجاوزها لولا هذه السمعة.

"خسارة أحزاب السلطة المدوية في انتخابات نقابة المهندسين شكلت، من دون شك، سبباً جوهرياً لاستشعار اللبنانيين ببعض الأمل. لكن وقائع اليوم التالي، سرعان ما جعلت هذا الأمل يتبخر كما لو أنه لم يكن"

لبنان لم يكن مرة دولة صناعية أو زراعية كبرى، ولم يكن أيضاً بلداً يزخر بآثار ومواقع يسعى إلى زيارتها السائحون. على العكس، لم تجد الحكومات المتعاقبة، في الزمن الذهبي، أي فائدة اقتصادية ترتجى من تنمية بعلبك أو عنجر أو صور التي تضم آثاراً ذات شأن، وذلك بسبب بعد هذه المدن عن بيروت العاصمة، حيث كان الاقتصاد الوطني يستيقظ وينام فيها وفي ضواحيها.

وهذا ما جعل بيروت تتضخم إلى حدّ جعل لبنان أشبه بمخلوق ذي رأس ضخم جداً وأطراف شديدة الهزال. كان لبنان على الدوام دولة سمعة وصيت: هو البلد الذي يجد فيه السائح طعاماً شهياً وخدمة ممتازة؛ هو البلد الذي يمكن للمستثمر أن يحفظ أمواله فيه دون خوف من كشفها أمام سلطات بلده الأم؛ وهو البلد الذي يزخر باللغات، ويسهل التواصل مع أهله؛ ثم هو البلد الذي ينشط فيه مجال الترفيه، ويتقدم على جيرانه بما لا يقاس.

اليوم، لا يتردد أي لبناني مقيم أو مهاجر في التصريح بأن كل هذه الصفات باتت مفقودة. بل إن الصفات المناقضة لها هي ما يتصف بها لبنان اليوم: حلت صورة المقاومين شديدي البأس محل صور الترفيه، وحل انعدام الثقة بالنظام المصرفي محلياً وعالمياً محل صورة سويسرا الشرق، وحل انقطاع الكهرباء المتمادي محل الخدمة الممتازة والأكل الشهي، وحل انقطاع الأدوية الأساسية والرديفة محل صورة مستشفى الشرق وجامعته.

"كما لو أن مكونات لبنان الأصلية لم تعد تتفق في ما بينها على حد أدنى من السياسة التي تتيح إدارة هذا الفراغ على نحو يجعل الانهيار شراً لا بد منه، بدلاً من إدارته بوصفه هدفاً مبتغى"

لم يبقَ للبلد من صوره التي صنعت مجده غير صورة الشاطئ الممتد، لكنها صورة فقط. فالزائر والمقيم يعرفان جيداً أن هذه المساحات باتت تمتلئ بالنفايات والأوساخ من كل نوع، ما يترك البلد بلا رأسمال من أي جانب.

على ما تقدم، يمكن الجزم بأن نسبة المهندسين المتدنية في البلد اليوم تقابلها نسبة متدنية من الأطباء والاختصاصيين وأساتذة الجامعات ودور النشر والصحافة المزدهرة. فيما يزخر البلد اليوم بكل ما يؤهله للرجوع عقوداً إلى الوراء، ابتداء من الهجرة من المدن إلى الأرياف، وصولاً إلى تعطل أدوات الحفظ وخروجها من الخدمة، وانتهاء بتمحور السياسة العامة على ثيمة رفض الآخر ونفيه، كما لو أن مكونات البلد الأصلية، لم تعد تتفق في ما بينها على حد أدنى من السياسة التي تتيح إدارة هذا الفراغ على نحو يجعل الانهيار شراً لا بد منه، بدلاً من إدارته بوصفه هدفاً مبتغى.

خسارة أحزاب السلطة المدوية في انتخابات نقابة المهندسين شكلت، من دون شك، سبباً جوهرياً لاستشعار اللبنانيين ببعض الأمل. لكن وقائع اليوم التالي، سرعان ما جعلت هذا الأمل يتبخر كما لو أنه لم يكن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard