شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"لا أخجل أبداً من القول إن ثيابي من البالة"… الأزمة غيّرت علاقتنا بمتاجر الثياب المستعملة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 22 يوليو 202107:32 ص

أكتب هذا المقال وأنا أرتدي فستاناً من نوع Adidas باعني إيّاه محمود قبل أسبوع. يعرفني أصدقائي بهوسي باقتناء ثياب الرياضة على أنواعها. كانت أسعار هذه الألبسة تراوح قبل الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد أواخر العام 2019 بين 60 و200 ألف ليرة لبنانية، إلا أنها لا تقل اليوم عن الـ700 ألف، وقد تتخطى المليونين. نعم الرقم صادم.

محمود يبيعني كلّ هذه القطع بأسعار منخفضة جداً، لأنّه صاحب محلّ ثياب مستعملة (بالة) في إحدى قرى شمال لبنان. أجد عنده مثلاً صدرة رياضية من نوع Nike بـ20 ألف ليرة لبنانية لا أكثر. يجمع لي أسبوعياً كلّ القطع الرياضية التي قد تُناسبني، لأنّني زبونته "الدوّيمة"، على حد تعبيره.

كنت سابقاً أستطيع شراء بعض الملابس من المحلات التجارية العادية، ولكن أصبح الأمر مستحيلاً اليوم في ظلّ الأسعار الخيالية في السوق. أتردد إلى محل محمود بشكل كبير، أكثر من مرتين أحياناً في الأسبوع، لأضمن إيجاد ما أحتاجه من ملابس، ولكن أيضاً لأنني أشعر بالمتعة عند التسوق من البالة.


الملابس سلعة كمالية في أوضاع اقتصادية كارثية

يعيش لبنان أزمة اقتصادية اعتبرها البنك الدولي من بين أسوأ ثلاث أزمات شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. ويرجح أن نسبة الفقراء من اللبنانيين تخطت الـ55%، بعد أن كانت 28% في عام 2019.

مع خسارة الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، يشهد الغالبية من اللبنانيين الذين يتقاضون أجورهم بالليرة تراجعاً هائلاً في قدرتهم الشرائية. ويمكن لسعر قطعة واحدة من الملابس أن تستهلك الجزء الأكبر من مدخولهم الشهري.

هذه الأوضاع حولت الملابس إلى سلعة كمالية، بل حتى إلى رفاهية، ودفعت باللبنانيين وخاصة الشباب منهم إلى اللجوء إلى الثياب المستعملة.

بدأت نجوى (23 سنة) بالتردد إلى محلات البالة منذ أقل من سنة، بعد أن عرّفتها عليها صديقتاها فرح ومريم. كانت تجربتها الأولى مع البالة مفاجئة على حد تعبيرها: "اشتريت ما يعادل 6 قطع ودفعت 20 ألف ليرة لبنانية فقط، وكانت قطعاً أنيقة لا يمكننا أن نجد منها في المحلات العادية". تصف رحلتها هذه بحماس: "أذكر أننا قضينا في المحل أكثر من ساعتين نبحث في صندوق كبير من الجينزات، ونجرب ما يعجبنا".

قصدت نجوى محلات البالة بحثاً عن ملابس تستطيع تحمل كلفتها، هي التي تحب الاهتمام بمظهرها والتفرد به. تقول إن ارتفاع الأسعار كان المحفز الأساسي، ولكن ما شجعها أكثر هو أنها تجد قطعاً فريدة يصعب إيجادها في محلات الملابس الجديدة، لا سيما تلك العتيقة Vintage.

تبدلت نظرتها للبالة اليوم. "لطلما ردد أهلنا على مسامعنا في السابق أن البالة ليست لنا. ولكن الشراء من البالة تجربة جميلة، يشعر الشخص بعدها أنه ربح شيئاً".

بدأت نجوى تشجع أفراد عائلتها على زيارة البالة، وتقول لهم إنها طريقة أذكى للتسوق. "لا أخجل أبداً من القول أن ثيابي من البالة، بل على العكس، كلما كانت الأسعار أرخص أفتخر أكثر"، تقول.

يدير محمود، وهو شاب في عمر الـ24 سنة، محلاً للبالة افتتحه أخوته قبل 12 سنة. شهد المحل ارتفاعاً كبيراً في عدد الزبائن مؤخراً، إذ يتردد إليه أكثر من 70 شخصاً يومياً، فيما كان العدد سابقاً لا يتخطى الـ50. كما أصبح الشباب من الزبائن الرئيسيين للمحل بحسب محمود. "زادت نسبة الزبائن الذين تراوح أعمارهم بين الـ18 والـ25 سنة. الكثير منهم يقصدوني بطلبات محددة، خصوصاً الملابس الرياضة والجينزات والتيشيرت"، يقول.

ارتفعت أسعار الملابس المستعملة أيضاً أكثر من ثلاثة أضعاف، لأن محلات البالة تستورد بضائعها بالدولار. يقول محمود إن الشراء من البالة أصبح عبئاً على الناس: "لم يتوقفوا عن المجيء، ولكنهم أصبحوا يشترون فقط حاجاتهم الأساسية".

خلال جولتي داخل محلات البالة، التقيت بهبة (اسم مستعار)، سيدة ثلاثينية تبحث بين ثياب الأولاد عن قطع تناسب أطفالها الثلاثة. تتردد هبة على محلات البالة ثلاث مرات أسبوعياً لكي تجد "لقطات". تشتكي من الارتفاع الكبير بالأسعار وتقول: "أكتفي فقط بشراء الثياب الضرورية للأولاد اليوم. ولكن لاحظت أن نوعية الثياب أصبحت أفضل، وكأن التجار يعرفون أن الناس باتوا غير قادرين إلا على الشراء من البالة".


"ثقافة" السلع المستعملة

الاعتماد على الملابس المستعملة لا يرتبط فقط بالوضع الاقتصادي وارتفاع الأسعار. فشراء السلع المستعملة أصبح ثقافة، وهي تنتشر بسرعة حول العالم. وفقاً لتقرير صدر عام 2019 عن شركة Global Data المعنية بدراسة توجهات سوق البيع بالتجزئة، نما سوق بيع السلع المستعملة بمعدل 21 مرة أسرع من سوق السلع الجديدة في السنوات الثلاث التي سبقت التقرير.

أما تقرير 2021، فلاحظ ازدياداً كبيراً في اللجوء إلى السلع المستعملة خلال جائحة كورونا، وتوقع أن يتضاعف سوق بيعها في السنوات الخمس المقبلة ليبلغ 77 مليار دولار. جزء من سبب هذا التحول هو ارتفاع مستوى الراحة مع شراء البضائع المستعملة، لا سيما بين الشباب في عمر 18-35 الذين يلجؤون لشراء المستعمل 2.5 مرات أكثر من الفئات العمرية الأخرى.

تقصد هند (27 سنة) محلات البالة منذ أكتر من 10 سنوات بحثاً عن الثياب الفريدة التي لا تجدها في المحلات العادية. تقول: "أحاول دائماً أن أعقد صفقات مع التجار، أطلب مثلاً جاكيتات فرو أصلي أو نظارات أصلية، قطع 'فينتدج'، وكثيراً ما يحتفظون لي ببعض الأغراض جانباً أو يخبرونني بموعد جلب البضائع الجديدة".

من الأسباب الأساسية التي تدفع هند إلى محلات الثياب المستعملة هي الاستدامة. تقول: "شركات الموضة السريعة تضر كثيراً بالبيئة، لا يكترثون لكميات الهدر الكبيرة للطاقة خلال عمليات إنتاجاتهم الضخمة. كما أن هدفهم الوحيد زيادة الربح على حساب الأشخاص والبيئة".

محلات الثياب المستعملة كانت دائماً حاضرة في حياة آية أبي حيدر (26 سنة)، صانعة محتوى وممثلة محبة للموضة، مذ كانت تشتري لها أمها الأحذية الطبية المستعملة في طفولتها، إلى أن بدأت تقصد بنفسها البالة بعد دخولها الجامعة.

في مقالٍ تحت عنوان "كيف أصبحت محلات البالة مكاني المفضل لشراء أجمل الأزياء وأحدثها"، نشر على موقع فايس Vice، تتحدث آية عن تبدلتعلاقتها بالبالة، من مكان كانت تخجل الحديث عنه إلى مكانها المفضل للتسوق.

تقول لي: "في أوائل أيام الجامعة، اشترت لي والدتي قميصين من بالة أبو النور بـ3000 ليرة لبنانية. سألني حينها أصدقائي في الجامعة، الذين كانت حالتهم ميسورة، من أين جلبت قميصي، فخجلت من البوح بمصدرها وقلت لهم: ماما جابتلي ياها". وتضيف: "ولكن بعد فترة قصيرة، قررت ألا أخجل من الموضوع، بل بالعكس، لا يمكنني أن أوقف نفسي عن البوح بسعر القطعة".

تقر آية بالنظرة المجتمعية الدونية المرتبطة بشراء الملابس المستعملة ولكنها تظن أن الأمور تتغير: "عمتي مثلاً تقول لي إنني يجب ألا أعترف بأنني اشتريت ملابسي من البالة خاصة للشباب، لأنهم سينظرون إلي بطريقة دونية. لكنني بصراحة لا أخجل من الموضوع وأعتقد أن الشباب من جيلي والأجيال الأصغر لا يخجلون لأن الأمر أصبح 'تريند'. أصبحوا يستخدمون بدل تسميه البالة اسم thrift shop، صار له وقع أرتب".

تشير آية أيضاً إلى تأثير افتتاح متاجر الثياب المستعملة الأونلاين على ذلك، واعتماد الأغنياء وميسوري الحال أكثر فأكثر على البضائع المستعملة بحثاً عن التفرد في الملبس.

اختلفت تجربة التسوق من البالة كثيراً خلال العام الماضي في لبنان، مع الارتفاع الكبير لأسعار الثياب. "أصبحت أشتري ماركات أقل، لأن سعرها يمكن أن يصل إلى 300 ألف ليرة"، تقول آية، "ولكنها تبقى خياراً أفضل من المتاجر العادية، وأسعارها أرخص بكثير".


ازدهار سوق الملابس المستعملة؟

لقيت مشاريع عدة لبيع الثياب المستعملة رواجاً في السنوات الأخيرة في لبنان، ويتوقع أن تشهد البلاد نشوء مشاريع جديدة بديلة عن سوق بات يتعذر الوصول إليه لجزء كبير من اللبنانيين.

من المشاريع التي انطلقت في السنوات الخمس الأخيرة، مشروع Fabric Aid الذي يحاول بطريقة مبتكرة أن يخفف من الهدر في الملابس المستعملة. يقوم المشروع بتجميع الملابس التي يتخلى عنها الناس أو يتبرعون بها من خلال حاويات موزعة في مختلف المناطق اللبنانية، يصلح ما يحتاج إلى الإصلاح منها، يتولى تنظيفها، ثم يعيد بيعها بأسعار رمزية تراوح بين 500 و3000 ليرة لبنانية، في تجربة تسوق عادية ضمن محل "سوق الخلنج" ومن خلال متاجر متنقلة في المناطق اللبنانية الأكثر فقراً.

لتغطية تكاليف المشروع، يذهب ما يقارب 6% من الملابس التي يتم جمعها إلى أحد أذرع المشروع، محل Second base الذي يستقطب فئة شابة ميسورة تهتم بالماركات وملابس 'الفينتدج'. تقول لوليا حلواني، مديرة التسويق: "تراوح أسعار القطعة في Second base بين 80 و120 ألف ليرة. وتذهب الأرباح لدعم سوق الخلنج ودفع المصاريف مثل إيجار المحلات وشراء الحاويات وأجور الموظفين". بدأ المشروع أيضاً بالبيع للخارج، ما يمكّنه من إدخال دولارات تساعد في تغطية التكاليف، لا سيما مع الفارق الكبير في سعر الصرف.

للتبضع من البالة نكهة مختلفة بالنسبة لي، فمع كل قطعة ثياب أجدها يترافق شعور بالرضى وإحساس بالتذاكي على محلات التجارة الكبيرة وأسعارها الخيالية. تتيح لي البالة أن أرتدي ملابس بجودة عالية ولكن بأسعار منخفضة جداً. وواحدة من متعي الحالية أن أعرّف أصدقائي إلى المحلات التي أعرفها وأن أختار لهم الملابس من هناك.


أنجزت هذه المادة ضمن مشروع "شباب22"، برنامج تدريبي لموقع رصيف22 يرعاه مشروع دي- جيل D-Jil، بالاعتماد على منحة من الاتحاد الأوروبي تشرف عليها CFI.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard