شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أعاتب بلاداً لم تحتضنّي بقوة

أعاتب بلاداً لم تحتضنّي بقوة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 16 يوليو 202112:07 م

لا أكتب الحقيقة، لكن بالتأكيد أكتب بإلهام منها، للغريب الذي يمتلك بوصلة لا تشير إلى أي مكان، ولأبناء البلاد الهاربين منها إليها.

أكتب لك يا صديقي الذي لم ألتقِ به عن الممكن حدوثه، وعن المستحيل في مدينة تدخلها وأنت محاط بالدمار كيفما نظرت، ومثقل بذكريات أناس مضوا، وخلّفوا وراءهم أشباحاً تحرس الركام.

ملاحقة بقايا حياة

كغالبية الواصلين إلى دمشق، أتيت لتلاحق بقايا الحياة، أو الأمل، الذي يعشعش في ثنايا العاصمة. إن كنت طالباً جامعياً، أو عاملاً، أو باحثاً عن ملجأ، لن تتجه إلى دمشق لدفئها واتساعها، بل لأن في دمشق تحديداً، تكثر الاحتمالات، حتى تلك التي لا تُصدق، وغير المعقولة، وغير المفهومة، وهذا بالضبط ما تحتاجه لكي تنجو: شيءٌ لم يكن في الحسبان قط!

سيتعاظم شعورك بالغربة في مدينة تقدس النجاة الفردية، ويهيم عقلاؤها في الشوارع، وتتبدد في فضائها صرخات استغاثاتهم، ويرمي أطفالها المخدرون أنفسهم قرابين في نهرها الحزين، نهرها الذي لا يسيل إلا إذا بكى مشردو المدينة كلهم.

أنت حمل يسهل التخلي عنه، فحرارتك لا تناسب برودة المكان، ستضيئك المدينة، وتميزك، وتكشفك. لذا قبل أن تخسر فرصة النجاة هذه، في عالم جديد، بنيته من طموح وخيال، عليك أن تسعى إلى إيجاد مكانك الخاص، حيث ستفرد ما فيك من دفء، وما تحمله من ذكريات، بيت سيرد عنك برد المدينة التي نبذت شوارعها الأغاني، واستبدلتها بالضجة.

يمكن لهذه المتاهة أن تبتلعك، وأن تمحو ذكرياتك عن الأمان والعطف، وعن البيت، وخصوصيته، وعن نفسك قبل دمشق. سيتوجب عليك اكتساب مهارات جديدة مثل قنص الفرص وافتراسها، لأنك ستدخل في منافسة عنيفة على المساحة، مع أشخاص مثلك، بدخلٍ قليلٍ، وحاجةٍ كبيرة إلى سقف يحتمون تحته، وجدران تسترهم. ولكي تزيد من حظوظك في المنافسة، ستلجأ إلى سحرة هذه المهمة، وهم أصحاب المكاتب العقارية التي تضمن لك صفقة خاسرة لا يمكنك أن تكون رابحاً فيها مهما حاولت، لكنها الشر الذي لا بد منه.

يبدو أن المكاتب العقارية الآن تقوم بمهمات مكاتب اللجوء في بلدك أنت، وخصوصاً بتقديسها للمالك، وباستنزافك كمحتاج.

ستتعرف على أصحاب المكاتب الذين يؤدون أدواراً محددة ضمن اللعبة، فإما أن يكون صاحب المكتب أباً حنوناً يعامل زبائنه كالأبناء التائهين الذين عادوا إلى منزلهم في النهاية، أو أخاً كبيراً يعرف مصلحة الجميع، أكثر منهم حتى، وهناك مَن يحفظ دوره من دون التورط فيه، ويردد عباراته بشكل آلي، ولا يعتمد في إجراء الصفقة على المساومة أو النقاش، بل على إيمانه بأنك سترضخ لشروطه.

هذه الأدوار وغيرها ستفهمها بعد جولة واحدة من البحث، لكن خلف هذه الأقنعة كلها، توجد عيون فارغة، وأفواهٌ مفتوحة يملؤها الجشع، تريد أن تجردك مما تملك كله، بدءاً بمعلوماتك الشخصية، مثل: من أين أنت؟ وما هو دينك؟ ولماذا أنت هنا؟ وماذا تفعل الآن؟ وما هو طموحك؟ وتوجهك السياسي؟ ما هو طعامك المفضل؟ وما هي هواياتك؟، وانتهاءً بما تملكه من أموال. ستعطيهم كل شيء إلا رغبتك الشديدة في إيجاد مكانٍ لك.

"لن تتجه إلى دمشق لدفئها واتساعها، بل لأن في دمشق تحديداً، تكثر الاحتمالات، حتى تلك التي لا تُصدق، وغير المعقولة، وغير المفهومة، وهذا بالضبط ما تحتاجه لكي تنجو: شيءٌ لم يكن في الحسبان قط!"

غالباً ستظهر لك شخصية غرائبية في هذه البؤرة، وهي رجل يجلس في المكان المخصص للزبون، لكنه لا ينتمي إليه، ويبدو كأنه عقد اتفاقاً أبدياً مع صاحب المكتب، مهمته الأساسية هي أن يؤيده في ما يشرحه، ويؤكد ما يقوله بقصص واقعية تزيد من مصداقيته. سيتفحصك بتمعن، وربما سيخرج قليلاً ويعود بنظرة تؤكد لصاحب المكتب أقوالك، أو ترفضها، وترفضك معها. وبعد أن تنتهي هذه المرحلة، وتُجرّد من كل شيء، سيرشدك صاحب المكتب إلى الشارع الأنسب لفئتك كما صنّفك هو.

وتأتي بعدها المرحلة الثانية، حين يقودك شخص آخر، ضعيف وغريب مثلك، أو كان غريباً حتى امتهن هذه المهنة، وأصبحت سبيله للعيش. ستتبع هذا الشخص عبر ممرات لا تعرفها، ولا توافق عليها بالضرورة، ولكنك مضطر إلى السير معه. تسير خلفه كما كنت داخل المكتب، وكما ستعيش في هذه المدينة معصوب العينين، ولا تمتلك خياراً آخر.

على الغريبين أن يبقيا صامتين حتى تتم هذه الصفقة، على الرغم من أنك ستحاول، وستخبره بأنك مثله، فأنتما فقيران غريبان تبحثان عن الثبات ولو للحظة، وبأنه مثلك يتعرض للاستغلال، وعليه أن ينطق بالحقائق التي يعرفها. ربما ستحاول عقد صفقة جديدة ورابحة معه، لكنه لا يريدك أنت. يريد قوت يومه، واعترافاً بأنه لم يعد غريباً، فها هو يحفظ الشوارع عن ظهر قلب، وينفّذ الخطة التي رُسمت له بصمت.

المصيدة التي لا بد منها

زمن الخسارة ثقيل. يجثم فوق صدرك. يدفعك إلى الأسفل. ستبتلع الدماء التي تغرق فيها، وعند الاختناق لن تلتقطك يدٌ. لا هواء نظيفاً يملأ مساماتك. لا حياة أخرى. لا بلاداً بلا حرب، لكنك لن تحصل إلا على عقد للإيجار.

ستلوّح بهذه الورقة فخوراً لأنك تنتمي الآن إلى بقعة ما، مساحة تأويك، وتحتمي بها، وتخاف منها، لتكون أنت المراقِب الآن، لا المراقَب. ولأنك في دمشق لا غيرها، فإن امتلاكك غرفةً رطبة بجدران عالية يعني أنك دخلت إلى سجن أنت سجّانه، وتمارَس عليك سلطتك أنت، أنت الذي ليست لديه أي سلطة في الخارج.

"سيتعاظم شعورك بالغربة في مدينة تقدّس النجاة الفردية، وتتبدد في فضائها صرخات استغاثاتهم، ويرمي أطفالها المخدرون أنفسهم قرابين في نهرها الحزين، نهرها الذي لا يسيل إلا إذا بكى مشردو المدينة كلهم"

عند حصولك على مأوى، سيشتعل قلبك توقاً إلى بيتك القديم، وستفرد أغراضك التي تذكرك بعائلتك: وسادتك، وكتبك، وبعض الصور، وتمائمك كلها التي تأخذها أينما ذهبت، كي لا تنسى السبب الذي جلبك إلى دمشق محاطاً بمشاهد الدمار من حولك، باحثاً عن الأمان.

من الصعب تحطيم وهم الأمان، وطرح أسئلة حول الاستقرار، وأنت تعلم أن أبوابك غير موصدة فعلاً.

وأن ما تفعله كله في هذه المدينة هو اجترار الذكريات والمشاعر حتى تمضي الدقائق والساعات.

ومن الصعب جداً طرح أسئلة حول جدوى وجودك، لأن وقت إطلاق النار لمّا يحدد بعد، ولأن الخراب احتل الفراغ المحيط بك كله، وسيحتلك، تماهَ مع القبح، وصِر جزءاً من الكتلة العشوائية المشوهة، من جريمة الحاضر هذه، وجزءاً من الدمار الحقيقي الذي يسببه الخوف.

وحده مَن اكتشف أن الأمان يكمن في أن يقتلع نفسه من هذه الصورة المرعبة، سيمزق عقد إيجاره بأسنانه، وسيبحث عن بيته القديم، وسيصرخ أنا أعرف الحقيقة.

خاتمة متفائلة

اهرب من هنا! يصرخ الكون من الدهشة.

لم يُخلق هذا المكان بعد! انجُ بنفسك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard